عبد العزيز أمزيان - الصدى الغائم في ديوان "شمعتان لزمان الوصل" للشاعر المغربي عبد اللطيف الهدار

صدر الديوان الشعري "شمعتان لزمان الوصل" للشاعر المغربي عبد اللطيف الهدار، عن المطبعة والوراقة الوطنية / مراكش، سنة 2020، في حلة قشيبة، لوحة الغلاف للفنان مصطفى كووار، التصفيف الفني لسعيد لعنيبي. يعد الديوان الشعري الباكورة الأولى للشاعر عبد اللطيف الهدار في الشعر، بينما في مجال القصة، فله مجموعتان قصصيتان، الأولى الوشم صوتا سنة 2012، وليالي الأعشى سنة 2017.
يقع الديوان في تسع وتسعين صفحة، يضم بين دفتيه تسع وعشرون قصيدة، :ويظهر أن الديوان مقسم إلى قسمين أساسين: قسم تحت عنوان: شمعتان لزمان الوصل، ويأخذ أكبر حيز في الديوان من الصفحة السابعة إلى الصفحة الثامنة والسبعين. والثاني تحت عنوان: لطنجة سر الوله، ويأخذ حيزا قصيرا من الصفحة التاسعة والسبعين إلى الصفحة التاسعة والتسعين.
طبع الشاعر بداية الديوان بروحه، حيث أهدى عصارة رحيقه إلى أمه، وعبرها إلى كل امرأة تغدق من قلبها من غير حساب ولا انتظار ثواب..
أول ما يشد قلبك إلى أنهار ديوان "شمعتان لزمان الوصل" هو هذا التدفق الغزير من البوح الشعري الشفيف، وهذا الانصباب الدافئ من المكاشفة الوجدانية السجية، التي تنطلق قوية، كشرار الجمر، فتغمر روحك بلهيبها ، فتتابع تفاصيلها الدقيقة، من أول قصيدة، حيث تتشظى الذات في عري الليل، وتتردى في غياهيب الغياب والسقوط،
دحرجت الساعات تلو الساعات
في مهوى الشهوات
وانصببت غزيرا في عري الليل
حتى انتهيت في مهب الغياب ص 7 ( لا عذر لك).
ويتوالى شغفك بما يخوضه الشاعر من تجارب الحياة، في أبعادها الجمالية، البديعة، وأشكالها التخييلية اللائقة، فتخطفك هذه الالتماعات من نشدان الخلاص من الغربة، والانكسار، والتيه، والضياع بأنفاس الشعر الكاوية، وحرارة القلب اللاهب، تحس بنارها تمتد إلى أوصالك، فتهيم، وتغرق في لججها، كم لو كانت ذاتك هي من تتردى في المهاوي السحيقة ، وهي من تدور في خراب الخرائط، ودوائر اللجج.
وغدوت تائها يدور في خريطة
أخطأتها المرافئ
حتى أوشكت أن تغور في لجة العبث
وتنتهي طريدا في سحيق النائبات ص 11 ( دارت بك الأهواء)
وتتبع آثار الشاعر في مفاوزه الروحية، وتقتفي خطوه في فلوات ذاته، فيطيب لك أن تستمتع بهذا الهدير من الصدى الغائم، وهذا الهزيج من رجع الصوت المغطى بالسحاب، الذي يمضي بك إلى أقاصي العمر، والى منتهى الحكاية، والى غاية النشيد.
وإذا أنت والمدى غريبان متيمان
يقترفان عبورا غائما في الصدى
تذروك الخطى فيخطئك العنوان
.................................
أخيرا، سيعرف ارتحالك أن المدى قدر محتوم
وأن البحر يعنيك
والشمس تعنيك
والبشر والقمر والنجوم
والمطر، كلما احتجت إلى دعم، يرثيك. ص 22 ( المدى)
ولا تمل من السير، بحذاء الشاعر، ترصد ظلاله، وترقب سيره، تأخذك هذه المنعطفات التياهة، وتأسرك هذه المنعرجات السديمية، التي تبدو لك كثيفة المدار، غزيرة المسار، تتلاقى فيها هذه العناصر الأساس للطبيعة، ومكونات الحياة التي تصطبغ بحركية متنامية، وتتلون بدينامية متجددة.
لا قلب للجدران يرثي حالة الولع
لا حس للصخر الأصم أبثه شغفي
لا طعم في حلقي
غير المرار ونكهة الخشب
يشتاق مائي للهوى الأول
فيصدني بحر من الوجع ص 29 ( تعب المسير)
يتصاعد الوجع، ويتنامى الأنين، فتمتزج أنفاس الشاعر الحارقة، بأنفاس الطبيعة، فتحس بنشيد شجي عذب، يملأ عليك الأرض، يطلع من أعماق قلب موجع، ومن غور روح منكسرة، في تناغم سلس متدفق، وإيقاع منساب فياض، لكنه متقد، مشتعل كنار لا يخبو أوارها، وجمر لا يهدأ لهيبها.
على لوعة أشعلت حرقة في الحشايا
فلا أنت تصحو
ولا أنت في قعر قارورة العطر تغرق
ولا أنت يرثيك سجع الحمام؟ ص35 (ترى يا المقيم؟)
وحين يهدأ غضب الشاعر، وترسو مراكبه الهوجاء، يصالح ذاته، ويعانق مداه الحالم، في وداعة وسلم، بكل ما في هذا المدى من صدى وسكون وريح وعاصفة وسماء وحلم، ملتحفا صمت الحكمة، ورنين الروح، وصفاء القلب.
بهدوء أنسحب
لأعلن انتمائي للمدى
لأدرك حكمة الصدى
وبهجة البكاء
حين أنتحب.
.............
أنسحب
كي أرسم على قلبي
وشما لعصفور بلون السماء ص 36 وص 38 (وصية)
ويمضي الوجع على وتيرة، تراوح بين الصعود والهبوط، ويتوالى بين الذروة والانحدار، وفي كل ذلك ترى الشاعر يغور في ظلاله، ويلوذ إلى مساءاته الطويلة، مناجيا ذاته، وبعض أحبابه القريبين، بنغم يغلب عليه الأسى، ونبر يطبعه الجوى.
أحيانا
يلذ لي أن أحضن تيهي
أشاكس موجة صغيرة عند شط البحر
أرافق نسمة شاردة جنب النهر
أناجي نجمة راحلة جهة الرعد ص 53 (أحيانا يلذ لي)
كل هذا البوح الشفيف، تلون بلغة أنيقة، خصبة غرفها من حقول متنوعة، واستقاها من قواميس مختلفة،قاموس الروح/ قاموس الطبيعة بكل أنواعها الحية، والصامتة، والجامدة/ قاموس / قاموس الوجع/ قاموس الوجد/ قاموس النشيد،،وغيرها من القواميس الأخرى التي شكلت عنصرا فنيا في تجربة الشاعر عبد اللطيف الهدار، إضافة إلى الصورة الشعرية التي غطت فضاء الديوان بجماليتها البديعة، التي جنح بها الشاعر إلى آفاق واسعة مديدة،منحت الديوان دينامكية مثيرة، وحركية لافتة، حضر فيها المجاز والاستعارة والتشبيه والرمز بكل أبعاده الشعرية، فضلا عن الأسلوب الذي تنوع بين الخبري والإنشائي، حسب ما اقتضاه السياق، وما فرضه حال الشاعر...
كم الساعة في السوق الداخلي؟
في السوق البراني
في شارع باستور
في الجبل الكبير
..........
هذه طنجة
فلا يغرنك صمت الأزقة قبل منتصف النهار ص 82و 83 ( ميقات مخاتل)
هذا باقتضاب شديد، بعض ما فاض به وجدان الشاعر من عواطف، سمت به إلى مراقي الإبداع، وعلت ببوحه إلى مراتب الخلق، الذي يرسم الجمال بيد فنان حاذق، وينحت البهاء بريشة شاعرماهر، موجوع بقضايا، قد تبدو ظاهريا ذاتية، لكنها في الأصل، تعبير عن ما يصيب المجتمع من أعطاب، وما يلحقه من انكسارات وخيبات، بلغة توحي أكثر مما تصرح، وتومئ أكثر مما تجلي.

عبد العزيز أمزيان




1616468974344.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى