دكتور السيد نجم - الفاتحة لصاحب المقام.. قصص لأحمد شلتوت

قليلا ما ينتهي القاريء من مطالعته لمجموعة من القصص، ثم يدعي أنه تعرف على صاحبها.. أفكاره وهمومه ورغباته ودواخله، بينما كل تلك العناوين يمكن التعرف عليها عند القاص "أحمد رجب شلتوت" من خلال مجموعته ذات القيمة الفنية المتميزة "الفاتحة لصاحب المقام".
لست ممن يصدرون الأحكام، لكنها النصوص التي طالعتها؟ لا تشعرك بالملل؛ عدد صفحات الكتاب 126 صفحة حجم متوسط، بينما عدد النصوص 49 قصة قصيرة .. ما يكشف عن حجممها وعدد كلمات كل قصة.. باﻹضافة ٳلى اﻹهداء والفهرست وسيرة الكاتب.

لقد وظف فيها "شلتوت" فنون القص بحرفية، ففي اﻹهداء ٳلى أبنائه (محمد وشذى)، وفي جملتين عن "ساراماجو وبابلو نيرودا" يعبران عن التوحد مع هموم عموم الناس، وتلك العمدية في اﻹختيار لفت اﻹنتباه ٳلى العديد من الملامح.. يقول "ساراماجو": (ﺇن كل واحد منا هو القلق الخاص بنا جميعا...).. يقول "بابلو نيرودا": (ربما لم أعش حياتي فقط.. ربما عشت حيوات الآخرين).

& تقسم قصص المجموعة ٳلى مجموعتيتين؛ الأولى (مفترق طرق) والثانية (رؤى)، وفي اﻹجمال هناك بعض العناصر المشتركة بين النصوص وهي: (القصص على بناء فني متماسك، بلا ٳفراط ولا تفريط مع الوصول ٳلى نهايات محددة/ شخصية القاص محورية، مع استخدام ضمير المتكلم، وغالبا توظيف شخصية واحدة/تبدو الأحداث الداخلية من ملامح القصص، وهو من يدفع القاريء للادعاء بأنه فهم رؤية القاص وأفكاره ودواخله/ يبدو المدي الزمني للنص الواحد محدود ومحدد (كل أنواع الأزمنة القصصية)/ التكثيف واﻹيجاز)..(مع الوضع في اﻹعتبار أن قصص القسم الثاني أكثر تعبيرا عن تلك الخصائص، لعله لكونها تنتسب ٳلى جنس القصص القصيرة جدا)

& القصص تكشف عن تقنيات الكاتب وحنكته السرديه: .. توظيف الأفكار المتوازية للاستدلال على فكرة واحدة في أكثر من قصة/ مثل قصة (فاتحة لصاحب المقام) حيث قدم الكثير عن تلك العلاقة المحبة بين العجوز وزوجها قبل وفاته، واﻹحتفاء بالسرير الذي جمعهما، اشترت داير للسرير ستان أخضر.. في مقابل أن شعرت بعد أن انتهت من تغطية السرير بوجود أحدهم يتلصص عليها من خلال النافذة المطلة على الحارة، فلما خرجت ٳلية لتسأله، وجدت أحدهم حسن النية، ويقرأ الفاتحة لصاحب المقام المكسو بالستان الأخضر.. حيث لا يرى من النافذة سوى مكان السرير من الحجرة.

.. المعالجة الشعرية لبعض القصص، في قصة (الآخر) التي تتناول العلاقة بين الصبي وأمه.. حيث يخرج الصغير للسوق حتى يوفر ما يأكلونه من أعمال بسيطة، بينما هي متعلقة بالنافذة منذ الصباح حتي عودته في المساء.. حتى كان اليوم الذي صدمته سيارة ولم يعد!

.. تعتبر "المفارقة من الحيل الفنية، وقد وظفها الكاتب في قصة (انكسار).. فعندما تمرد على قهر مديره، وعاقبه المدير بنقله ٳلى مدينة بعيدة، فوقع في ورطة لم يتوقعها.. بعد أن استنفذ كل أنواع اﻹجازات وبات يغيب بالخصم من راتبه.. ذهب ٳلى مديره الذي استدعى له كل أفراد الأمن، ظنا منه أنه جاء للشجار معه.. بينما كان الموظف من فرط طلبات أولاده وشعوره بالتقصير، تحول من المتمرد ٳلى المنكسر ويقبل يد مديره ﻹعادته.

.. توظيف الفني والبلاغي أيضا لفكرة محددة، مثل القصة التى تصف ٳصابة عصفور بنبلة من صبي، قصة (انكسار).. موجز القصة (لم يستقر العصفور في وقفته، تابعت تقافزه، وتبديله للساق الحاملة للجسد النحيل. يتأهب للطيران، يشرع بجناحيه، كانه يجربهما، يتراجع، بخفظهما، يطويهما، ينكص عائدا للتلفت والوقوف على ساق واحدة.. وفجأة انطلق طاائرا، ٳرتفع فوق السور بمتر، طار ربما لثلاثة أمتار قبل أن تطاله الحصاة التي أطلقتها نيلة الصبي.. يكف عن اﻹرتجاف، يهبط عموديا معانقا الأرض، لاحقا لقطرات دم قذفها منقاره..) .

& توظيف الألفاظ في قصص المجموعة لها دلالاتها في متعة القراءة والكشف عن أغوار الدلالات، يمكن رصد بعض الألفاظ التي تتكرر، حتى يمكن ٳعداد احصاء عددي لها.. منها (لذت بالصمت/ يصيح مقلدا الطيور/ مدينة باردة/ الليل موحش/ اقتحمتنى الرائحة/ ملامحه المكدودة/ ضجر/ ملل/ يطاردني/مغيب/ أنتظر..)

& يمكن رصد دلالات متعددة لعدم التعرف على الشخصيات بأسماء، بل نتعرف عليها من خلال الأحداث، وهو ما قد يعني العمومية.

& أما نهايات القصص، فهو الجديرة بالتأمل.. ففي قصة (تحقيق حلم).. يلتقى صديقان بعد سنوات بعيدة ﻹنشغالهما في الحياة.. الأول يعبر عن نمط الثراء الفاسد والآخر نمط المتمسك بالقيم فقيرا.. الأول يعرض على الثاني مليون جنية حتى يتقدم ويحاسبه بعد عام على نتيجة أعماله، وٳن فشل فسوف يطالبه بالمبلغ كاملا.. وبعد الرفض وافق الثاني، وٳن أضمر أمرا، قال في نفسه: (تكفيني عشر دقائق لأحصل على الأموال ونسختي العقد ثم أقتله وأفر بعيدا)

.. في قصة (مفترق طرق) يصف القاص الضجة العبثية فى أحد الميادين المكتظة بالناس والسيارات والبائعين.. ثم توقف في الختام مع ٳحدى السيدات –شحاذة- تسير وهي تمد يدها ولا أحد يهتم بها ويقول في الختام (أهم بنصحها بالابتعاد وتغيير المكان/ فاليد الممدودة في الصورة –صورة الرئيس الكبيرة المعلقة- لن تعطي شيئا)

في قصة "كتمان" تجربة أنثوية لأرملة مات عنها زوجها منذ شهور، وتذكرته ذكرا وفيا لها، وتذكرت جسدها الأبيض وشاءت أن تزيل الشعر الزائد بعد أن خلعت ملابسها، لكنها خافت من أخت زوجها لو شمت رائحة السكر بالليمون على نار الوابور، أطفأت النار.. ونامت تبكي (.. وبعد أن ترتدي الثوب الأسود تطفيء اللمبة الجاز ثم تنخرط في نوبة بكاء صامت)

وتتعدد النهايات بتعدد القصص، يجمع بينها جميعا قدر من الرومانسية الذكية التى لا تخلو من عقل متوقد.. وهي سمة القصص والقص عند "أحمد رجب شلتوت".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى