أبو بكر اللمتوني - المهرب (قصة مغربية)

قالت نفيسة لزوجها العياشي:
"إن شيئا لم يعد ينقصها حتى تشقى لأجل المزيد من المال. إن القرية كلهَا تحسدنا على دارنا التي تفوق حتى ديار المدينة بما تزخر به من أثاث ورياش... أما المزارع فما أحسبك تستطيع أن تحافظ عليها لو أنك استزدت منها. أفلا يغنيك كل هذا يا عياشي عن الاستمرار في تعريض حياتك وصحتك وحريتك ومالك جميعا للخطر؟"
أجاب العياشي وهو يحدق في الظلام من خلال زجاج النافدة:
"إنك لن تبلغي كلامك هذا من أكثر من أن تثيري مخاوف أمي"
_ ((وأنا.. ؟ أليس لمشاعري عندك قيمة))
_ ((أوه ! كأنك لا تعرفين أنها عجوز واهية قد يكفي القلق لقتلها))
وتعالى نباح الكلاب في فناء البيت، فاستدار العياشي نحو امرأته مستفهما، بينما قفزت هي إلى كيس النقود الذي كان ملقى على إحدى الحشايا، فتناولت منه نقودا خرجت بها مسرعة، ثم عادت بورقة ملفوفة في خرقة بيضاء ألقتها في الكيس.
سأل العياشي مستغربا:
((ما ذاك ؟))
أجابت نفيسة بلهجة المذل الممتن:
((حجاب ... كلفت الفقيه بكتابته حين جاء في العشاء لأخذ (المعروف)، وقد أنجزه وجاء به)).
وأدهشها أن زوجها - ولم تكن تنظر إليه - لم يفصح عن رأيه في تصرفها، ثم لم تملك إزاء صمته الذي طال إلا أن ترفع عينيها إليه، فوجدته ينظر إليها في رقة لم تعهدها فيه، فخجلت وغضت بصرها وهي تتمتم:
((لكم أخاف عليك يا عياشي!))
_ ((يسرني هذا يا نفيسة ... ولكن لا داعي للخوف. إنك تعرفين أنني لا أمد رجلي حتى أقدر لها موضعها))
_ ((ولكنك قد تزلق مرة))
_ ((نفيسة ..! إن كلاما ألقي إليك ... وإلا فما هذا الفزع البالغ الذي توشكين أن تعديني به ... قولي لي ... ما الذي يفزعك؟))
_ ((لا شيء يا عياشي ... لا شيء ... إلا أن الحوادث كثرت في هذه الأيام ... لقد سجن قاسم كما تعلم وصودرت بضاعته... ويقال إن ثروته كلها لن تكفي لأداء الغرامة... وولد عائشة معتقل هو الآخر على ذمة التحقيق... ولا أخاله ينتظر مصيرا أسعد من مصير صاحبه... والعواد ألقى بضاعته إلي الوادي وتبرأ منها، ولكن السلطة مجدة في متابعته... ويخيل إلي يا عياشي أنك لست غير أحد هؤلاء...))
_((بل إنني غيرهم على التحقيق. إنهم يعتمدون على الحظ، أما أنا فأعتمد على هذا...))
وأشار إلى كيس نقوده في رعونة، أنكرها هو نفسه، فاستخذى وتقدم متلطفا نحو زوجته، وكانت جالسة على حافة الحشية، فجلس بجانبها، وطوقها بيسراه، بينما جذب بيمناه ذقنها إليه، وقال بصوت يقرب أن يكون همسا:
((اسمعيني يا نفيسة، إننا مثلا نخشى الذئب على غنمنا... ولكننا لو قدرنا أن للذئب عقلا وأننا هادناه على أن يأخذ كفايته من الغنم، فهل يعود هناك ما نخشاه منه؟ .. لا طبعا ... وإذن فآن لي أن أطمئن إلى ذئبي العاقل ((القائد حمو))... إنه رجل ... لقد بلوته تسع سنتين لم أر منه فيها بادرة غدر))
_ ((إلا أخيرا؟))
وأجفل العياشي، وتراجع إلى الوراء من غير أن يحول نظره عن عيني زوجته، ثم أقبل عليها ثانية وقال - وهو يحاول أن يجعل لهجته طبيعية - :
((نفيسة... إنك سمعت شيئا تكتمينه عني ... قولي لي .. إنك إن أصررت على الكتمان أغضبتني))
- ((أنا أحق منك بالغضب يا عياشي، لأنك أنت الذي كتمت عني أنا زوجتك شيئا يتحدث به عنك جميع الناس في القرية... إنهم يقولون إن (القايد حمو) طردك بالأمس من داره، ويقولون أيضا إنه يهددك في أحاديثه.. لأنه.. أوه !.. إنني لا أصدقهم.. أليسو يكذبون يا عياشي؟))
_ ((نعم، إنهم في الحقيقة يكذبون))
_ ((ولكن ... لماذا ذهبت إلى هناك؟))
_ ((لأنه كان علي أن أراه... أمر ضروري قبل كل رحلة... أتصل به لنتفق على الزمان والمكان.. ولكنني لم أجده بالأمس في الدار، فأرادتني زوجته أن أنتظره في حجرته، فلما عاد نعى علي أن أدخل بيته في غيبته... وقد آلمني كلامه، فلم أتردد أن ذكرته أنه ليس إلا صنيعتي وأنه لولاي لم يكن له بيت...))
_ ((وهل لازلت، مع هذا، مطمئنا إليه؟!))
_ ((كيف؟ ... إننا ما لبثنا أن تصالحنا اتفقنا على الوقت والطريق كأن لم يكن هناك شيء))
_ ((ولماذا لا تعدل عن السفر؟ .. إنه قد يشي بك يا عياشي لأنك جرحته))
فانطلق العياشي طويلا ثم رفع رأسه وقال:
((إنه لا يستطيع أن يشي بي يا نفيسة، لأن مصيره ومصير آخرين مرتبط بمصيري.. ولكنني - مع ذلك - أعدك أن لن أدخل في هذا الأمر بعد اليوم، ولولا البضاعة التي سبق أن شريتها لما رحلت حتى اليوم... ثم لا تنسى - وربت على خد نفيسة باسما - الأساور التي أوصيت لك بصنعها. إنها تنتظر عند الصائغ))
ووقف العياشي، فسوى ثيابه، ولف عمامته بعد أن ضمخها بماء الزهر، ثم علق عليه كيسه، وارتدى جلبابه المنسوج من وبر الإبل، وواجه المرآة وهو يسأل زوجته:
((ماذا تحتاجون من المدينة؟))
فأجابت زوجته وهي منحنية على الحشية تسويها:
((شيئا من الزبيب فقط، لأن الفقيه يرى أن يتناول المختار زبيبا في الصباح حتى يحفظ لوحه كما يجب))
وانسل العياشي من البيت حتى لا يوقظ أمه وولديه. وفي آخر الدرب الذي سلكه نحو الفضاء الفسيح تعثر في بقرة نائمة، فهم أن يزجرها، ولكن نفسه حدثته بأن البقرة يجب ألا تزعج في مرقدها.
وأحس العياشي بموجة من الحنان تغمر كيانه وبحاجة ملحة إلى الأمن والسلام، فالتفت متحسرا إلى بيته الذي كان النور لا يزال يلوح من أحد نوافذه ثم استأنف السير في الظلام.
ومر بالجامع، فذكر بحسرة أنه لن يلبث بعد ساعات معدودات أن يفتح أبوابه للمصلين وثم للمنتدين بعد ذلك، وتصور السعادة التي تغمر الأصدقاء حين يدورون بالصينية في أنس وغبطة ويتساقون مع كؤوس الشاي ألطف الأحاديث وأطراف الأخبار.
وجمح الخيال بالعياشي فرأى رأي العين صبحا سعيدا ينبلج ورأى صبية يسعون إلي الكتاب في خفة وبراءة ورأى بنات يملأن الجرار من العين وينصرفن بها حييات رشيقات، ورأى الحقول تلوح بأمواجها الذهبية في فتنة وإغراء وسمع الأرحية تنوح بين شقشقة الطيور وحفيف الغصون...
لماذا..؟ لماذا حرم نفسه من هذا النعيم وقذف بها في جحيم المغامرات..؟
نعم لقد أتاحت له الثروة التي جمعها من التهريب كثيرا من الجاه والوجاهة بين مواطني القرية، ولكنها حرمته مما يتمتع به هؤلاء المواطنون من السعادة والهناء.. ثم هو بعد ذلك غير قرير بما كسب ولا آمن على ما يكسب. يكسب كثيرا ولكنه يدفع أيضا كثيرا.. يدفع كثيرا من صحته تحت وطأة هذا القلق الذي أقض مضجعه وأرصد له في كل طريق جيشا من الأشباح... ويدفع كثيرا من ماله لهؤلاء السماسرة الذين لا يفتئون يلوحون له بالغدر كلما رفع رأسه أو التقط نفسه..
وحمد العياشي لنفسه ذلك الوعد الذي قطعه لزوجته بالكف عن مغامراته المهولة... فما عاد في قلبه متسع لما تتطلبه من الجسارة وما تسوقه من الشقاوة...
إنه صدق زوجته في كل ما حدثها به.. شيء واحد اضطر أن يخفيه عنها... وما كان يملك غير ذلك... لقد زعم لها أن القائد حمو ظلمه حين وجده في بيته فشك في حسن نيته... وما ظلمه الرجل علم الله... فما دخل هو بيته ليلتئذ إلا منجذبا نحو امرأته الرائعة... إنه يذكر جيدا اللحظة التي علق فيها تلك المرأة.. كان هو بجانب زوجها يسامره في نفس الحجرة التي أخرج منها بعد ذلك... وكان الليل باردا موحشا، ولكن الغرفة كانت دافئة مؤنسة...وامتد بالصينية من باب الغرفة ساعدان لم ير أنصع بياضا ولا أشهى بضاضة منهما... ولم يحتج إلى أكثر من رؤية الساعدين ليحب صاحبتهما...ثم هو لم يجد غضاضة في هذا الحب ولا أشفق مما يعترضه من صعاب...
حقا لقد تغيرت أخلاقه ولم يعد يمت بصله لقريته الطيبة وأهله الخيرين... ولكن الله يقبل التوبة من عباده، وهو تاب عن هذا الحب الدنس وعن هذه المهنة الكريهة أيضا... إنه يرحل لآخر مرة، وسيعود - حين يعود - سيرته الأولى، فيتعهد أسرته، ويشرف على مزارعه، ويضطرب فيما يضطرب فيه أهل القرية من جد ولهو وشغل وفراغ..
واستفاق من تفكيره على جلبة البغال التي كان رجاله ينتظرونه بها.
وفارقه الشعور بالخفة والحرية حين بدأ يسوق البغال وأحس كأن شياطين الظلام كلها تضحك من أمله في العودة إلى حياة الطمأنينة والسلام.
وبدأ العياشي يجاهد لكي يعيد الأمن إلى روحه، فاستشعر أن القايد حمو لا يستطيع أن يشي به، لأنه إنما سيشي حينئذ بنفسه، فما يستطيع أن يدفع الأدلة التي يحتفظ بها هو ضده من قبيل الاحتياط.
وكان العياشي حين بلغ هذا الطور من الصراع مع نفسه قد بلغ بالبغال نقطة الحراسة التي عهد بها في هذه الليلة إلى صاحبه القايد حمو، فما عليه - إذن - إلا أن يهتف بكلمة السر، فإذا سمع جوابها عرف أن كل شيء على ما يرام.
وهتف بكلمة السر وسمع جوابها... ومع أن الصوت كان معهودا لديه، فقد خيل إليه أن فيه اختلاجا غير معهود.
ولكن العياشي زجر نفسه عن تخاذلها... وفسح الطريق للبغال ثم انحدر إلى الخندق وراءها.
وحين صعد من الخندق إلى السهل الممتد، كان قد أصبح في ((المنطقة الأخرى)) وكان معنى ذلك أن العملية تمت في سلام.
ولكن أحلام العياشي في الأمن والسلام لم تمتد كما امتد السهل أمامه، فقد فاجأه من ورائه وابل من الرصاص لم يترك له متسعا للأحلام...
وطلعت الشمس في القرية التافهة على شيئين جديدين:
وجه ميت يحلم بالسلام.
وخبر يقول: إن العياشي ضرب بالرصاص لأنه استوقف فلم يقف...



- دعوة الحق /ع13

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى