محمد علوان جبر - ضوء أزرق أسفل الوادي

الدفتر الذي قدمه ” فخري ” وهو يطلب مني أن أترجمه له ، دفتراَ بلا لون ممزقا في بعض الصفحات ومتربا ، مما أحال بعض صفحاته الى لون أخر ، لون مغبر “بفعل القذائف والقصف ” هكذا فسر الامر شقيقي الصغير فخري ” القصف الذي استمر ليوم كامل ، لم يبق على شيء ” تمعنت في الكلمات وجدت بعض الحروف زالت تماما وبعض الكلمات كتبت بخط أنيق يغري بالقراءة ، كان قد عثر عليه في ملجأ ايراني بعد احتلاله ، بدأت فك غموضه وطلاسمه بصعوبة ، كان خليطا من الكتابات والرسوم ، وجدت نفسي منساقا مع الكلمات التي تبتر لتبدأ تحتها تخطيطات صغيرة لأشكال عصية على فهمي ، عدا بعض اللوحات التي تشبه الزهور أو وجها بشريا بدا الرعب واضحا عليه ، أو نارا تتصاعد من جبل معتم ، جبل أجرد تماما والنار تشكل فوقه خطا يتصاعد بضفائر تتحد جميعها بضفيرة واحدة تشبه سارية علم .
ــ فيما كنت أبحث عن حقيبتي التي تركتها في الموضع ، عثرت في موضع ايراني على هذا الدفتر ..
اشرت اليه ان يواصل
ــ هل مواضعكم متداخلة …؟
قاطعني بسرعة
ــ كلا … حينما هربنا من سفح الجبل الذي كنا فيه بفعل الضربات الهائلة من مدفعيتهم
صمت ، وبعد انحناءة طفيفة بدا حزينا جدا وهو يحدثني عن قنابل تساقطت على ملاجئهم وعن اصدقاء له رآهم يتطايرون في الهواء ويهمدون بلا حراك ، وضجيج لايمكن وصفه بكلمات ، وعن حقيبة فقدها ، وحينما سألته عن سبب اهتمامه بالحقيبة ، قال كنت متأكدا بعد مضي فترة طويلة على إنسحابنا من الجبل استحالة عثوري عليها ، لم يكن فيها سوى بضع روايات ومجلات ، بعد عودتنا الى اماكننا التي شغلوها لشهر ، رأيت بأم عيني حطام ملاجئهم واحتراق وتبعثر اشياء كثيرة حولها ” لم أجد الحقيبة تحت حطام المكان الذي تركتها فيه، لكني وجدت هذا الدفتر مدفونا تحت تراب هيكل ملجأ شبه محترق ، كان الدفتر سليما إلا من الثقوب التي تراها .. نفضته من التراب ، جذبتني اللوحات المرسومة بقلم الرصاص واناقة الخط المكتوب بالفارسية التي تجيدها ، فاخفيته منتظرا اجازتي ، لأريك اياه .. ولنقرأ معا مامكتوب فيه “
ــ المشكلة عزيزي ” فخري ” ان الكثير من الكلمات حفرتها شظايا او غبار القنابل .. مما يتطلب مني ان اقرأها على مهل ..
ضحك ضحكة فاترة ، اتسعت تدريجيا مؤكدة فرحة مقاسمته معي اكتشاف والتوغل عميقا نحو سر له علاقة بالجانب الاخر من الجبهة ، هكذا هي الأسرار تزرع في أعماقنا فضول الاكتشاف . بدا فرحا وهو يتكىء الى الوراء متطلعا في عيني بعد ان كان يتجنب ان ينظر فيهما مباشرة .
وبدأت بقراءة الصفحة الثانية بعد ان تعذر علي قراءة الصفحة الاولى
” حبيبتي …. لاشيء أقسى من الحرب ” بعد كلمة لم استطع أن اقرأها قرأت
أكاد أسمع نبضات قلبك .. أحسك اقرب الي من وحشة الجبل ، المرارات كلها تجتمع هنا ، هم يقصفون ، ونحن نقصف .. هكذا الى مالانهاية.
الإنتظار في الحرب يسبب رعبا أكثر من الحرب ذاتها ، تنتظر من سيأتي ليقتلك او ربما تقتله .. والأمران يشكلان بحد ذاتهما رعبا حقيقيا بالنسبة لي على الأقل ، لكني واثق ان هناك من يفكر مثلي في الطرف الاخر من الجبل .
بعد ان عسكرنا في ممرات محمية بصخور كبيرة ، امضينا مايشبه الهدنة لشهور ،عدا بضع قذائف تتساقط ، تكسر رتابة تلك الهدنة انشغلنا في ترميم ملاجئنا التي كانت ملاجئهم قبل ايام قليلة ، تلك الملاجىء الممتدة على طول المسافة التي تفصل القمة عن السفح ، ربما تحمل السفوح بعض الامان، رغم انها لم تفلح في صمودنا او صمودهم ازاء المدفعية التي كانت تنقر خاصرة الجبل وروحه ، يومها احسست ان الجبل يئن بل يريد ان يقفز الى السماء احتجاجا على موته او موتنا الذي كان وشيكا …
فغر ” فخري” فاه بدا منصتا بكل حواسه وهو يقدم ظهره ويعيده الى متكأ الكرسي … كأنه يريد ان يقول استمر ارجوك
قلبت الصفحة كانت ثلاثة تخطيطات .. لوجه امرأة بعينين واسعتين وبثلاث وضعيات من الامام ومن الجانب ومن زاوية متوسطة تظهر الوجه كله .. لكنها كانت تخطيطات لأمرأة واحدة … تأملها “فخري” طويلا وفكرنا معاً ربما هي المرأة التي يعنيها ” غلام رضا اكبري ” كما قرأت اسمه في الصفحة الاخيرة من الدفتر … كان إنصات ” فخري ” لصوتي وانا اقرأ ما كتبه “غلام ” يبث في عقلي شفرات تشابههما معا في العشق على الاقل والخوف من الحرب
” حبيبتي … كم أصاب بالهلع حينما يشتد سقوط السكاكين الساخنة للشظايا على سفح الجبل احيانا تتساقط بتواصل كأنها المطر، لان هذا يعد علامة على اقتراب او بدء الهجوم علينا ، وكم كنا نمضي من الوقت منحنين مقرفصين نبحث عن الملاذ في أعماق الحفر..”
” هل إرتعاش الجسد إرادي .. وهل يمكن أن يزيل الخوف إرتعاشنا طوال اليوم ؟ …. أشك في ذلك حبيبتي اذ كنا نرتعش طوال فترة تساقط السكاكين الساخنة علينا “
ـ لعبة كر وفر، تماما كما يحدث لنا .
قالها ” فخري ” وبدأت اشرح له رسما سألني عنه ، كان رسما بالقلم الرصاص لجبل يحترق ، وبدت وسط الحريق نقاط تشبه جنوداً وهم يتقافزون بين الدخان الذي كان بالكاد يخفي بعضا من اجسادهم ، فبدوا بهيئة اشباح .
” حبيبتي ، في الظهيرة التي تشبه هذه الظهيرة التي أكتب لك فيها الآن ، أراك تقفين في الباب ، ربما كنت تفكرين بي كما افكر فيك “
” سأقفز فوق صورتك وانت تقفين قرب الباب ، تعودين الى زاوية في البيت ، سأختار صورة اخرى أراك الآن وأنتِ عارية تحت دوش الحمام ،والماء يضرب نهديك العامرين ويتطاير على جسدك “
بعد هذه الصفحة، كانت لوحة لامرأة عارية تحت دوش حمام بردفين عريضين ونهدين كبيرين ، ورأيت وسط الورقة حيث جسد المرأة ثقباً كبيراً أزال أجزاء كبيرة من ساقيها وجزءاً من شعرها .. وفي صفحة اخرى قرأت …….
” من مكمني في الجبل أرى يرقات فراشات تسير قريبا من ساق شجرة في السفح الذي بدأ يخضر بعد ذوبان الثلج ، يرقات معلمة بشرائح حمراء وصفراء مع الواح من الازرق الغامق” ثم لوحة لم افهمها تمثل منحنيات متداخلة مرسومة بشكل هندسي رائع .. واصلت القراءة
” في منحدر الجبل امامي حيث أقف ، أضع المنظار ، مراقبا الممرات الوعرة ، أُقرب عدسة المنظار ، حيث صخرة غريبة بلون ازرق داكن على هيئة إمرأة ، صخرة مكورة تظهر عري إمرأة حقيقية .. ياإلهي كم كانت المنحنيات الصخرية جميلة كأنها منحوتة على يد فنان .. تبدو كأنها تنادي السماء ، إذ أرى بوضوح يدا مرفوعة نحو السماء كأنها تصلي او تخاطب الغيوم التي كانت تحيطها بحميمية .. بقيت صورة المرأة الصخرية تنظر الى الجانب الاخر حيث العدو ، لكني في احيان كثيرة أراها تدير رأسها ناحيتي كأنها تعرف اني أراقبها ، وتبدو لي في أحيان اخرى كأنها تضع يدها على أماكن عريها التي أراها بوضوح وأنا أدير عدسة المنظار مقربا إياها مني “
” بماذا تفكرين الآن ، وبماذا تفكر المرأة الزرقاء على الطريق الصاعدة الى القمة وهي تدير رأسها بيننا وبينهم ، أحيانا أكاد أسمع همسها في اذني وهي تحدثني بألم ” ان الحرب بدأت توجع خاصرتها “
” هل تتظاهرين كما تفعل المرأة الصخرية بالنوم الآن ، ها أنا أختلس النظر اليك عبر المنظار ، المرأة المزروعة وسط الجبل تفك دبوس شعرها وتنثره على ظهرها ، ارى شعرك منثورا على ظهرك ويغطي جزءا كبيرا من جبينك ” ..
عدت الى الصفحة التي رأيت فيها كتلة المنحنيات المرسومة بشكل هندسي والتي لم أفهمها في البدء ، لكني الان فهمتها ، كانت المنحنيات تمثل صخرة على هيئة امرأة .. واتضحت لي بصعوبة ضفائر كثيفة مسدلة على ظهر منخور باشياء تشبه السكاكين ، وثمة نظرة متألمة ويد مرتفعة الى السماء وفم مفتوح كأنها تصرخ “
قال ” فخري ” وهو يطالع الرسم
ــ كأني رأيت هذا المنظر امامي كلما استغرق بالنظر في المنحدرات المؤدية الى القمة ، حقا انها صخرة كبيرة تشبه شيئاً متكوراَ على نفسه ,قاطعته مواصلا القراءة في صفحة اخرى بدت سليمة لم يمسسها خراب الصفحات الاولى
” حبيبتي وأنا أحدق في فضاءات العالم حولي ، كان هناك شيء ملون يقترب مني ، كلما ادير حلقات المنظار يقترب اكثر ، لكنه اختفى بعد ان رفعت المنظار عن عيني ، انتظرت طويلا لافهم انها كانت فراشة تطير في مدى منظاري المقرب ، تأكدت أن الفراشات لاتخاف القنابل .. ولاتخاف الحرب مثلي او مثل الجنود الذين اراهم في منظاري يسيرون في الوادي وسرعان ماتخفيهم الصخور الكبيرة ، الفراشات لاتبالي بالحرب إطلاقا ..إذ اقتربت مني فراشة تريد ان تحط على منظاري او بندقيتي ، لكنها طارت بسرعة قبل ان تلامسهما ، ربما شمت رائحة طاردة لكنها تبقى تحوم حولي قليلا وسرعان ماتغادر نحو الزهور الملونة أسفل الوادي أو اعلاه ، تختفي لكنها سرعان ماتعود اراها قريبة واتابعها في منظاري المقرب تحط وتطير ، لكني لاأعرف أين تذهب حينما تتساقط القنابل في اسفل الوادي او اعلاه .
بدأت أقلب الصفحات بحثا عن رسم رأيته في الصفحات الاولى للدفتر ، رأيت فراشات ملونة تقف على بندقية ، واخرى تطير ، كأن صاحب الدفتر يترجم مايكتب بالرسم ، او ربما يرسم ومن ثم يكتب مايرسمه ، كان ” فخري ” ينصت دون ان يقاطعني وعيناه شاردتان في الافق .. وفي صفحة أخرى قرأت بصوت متقطع لأفهم مايريد أن يقول
” حبيبتي رأيت امامي وسط احراش كثيفة أفعى سوداء وهي تقف كأنها تريد أن تسير مثلنا ، ورأيت أفعى اخرى بلونها تقف مثلها ، بطناهما محززتان ومصبوغتان باللون الاحمر الصارخ ، أفعى سوداء من الأعلى وحمراء من الأسفل ، اقتربت الأفعاوان من بعضهما وهما تقفان ،بدت قامتاهما أعلى من الحرش الذي دخلتاه .. رأيت امامي رقصة هائلة:كانتا متعانقتين تدوران في رقصة سريعة وسط الاحراش الصفراء، لونان يتداخلان… الاسود والاحمر وهما يهتزان بسرعة إيقاعية ، كنا نراهما بوضوح ، الطبيعة وسط قسوة الجبل تمارس رقصتها الازلية ، لكن اقترب منهما العريف ” مهران ” وهو يحمل بيده مجرفة ، سدد ضربة قوية عليهما ، همدت واحدة منهما وهربت الاخرى ، واصل ضربه الأفعى التي سكنت تماما ، قال له رجل مسن ، لماذا لم تدعهما يكملان رقصتهما الجميلة ، وافقته الرأي … واضاف ” ستبحث عنك الافعى التي هربت سواء كانت انثى ام ذكر ، الافعى تعرف قاتل شريكها وستقتص منك اينما كنت” سخر ” مهران ” من الرجل المسن “وكيف ستعرفني…؟ ” اجابه بحدة وهو ينظر الى الافعى الميتة ” ستعرفك من رائحتك .. صدقني ” ضحك مهران،لكنه في الليلة الاولى لم ينم ، بقي ينتظر زوج الأفعى الميتة ، وبعد ايام قليلة تلبسته حالة من هستيريا الصراخ في اعماق الليل ، فكان يهرع الى طبيب الوحدة مستغيثا به ليزرقه بمصل لينام وهو يتخيل عضة أفعى كانت تمارس الحب مع أفعى اخرى وحرمهما هو دون ان يعرف لماذا ” ياإلهي كم تركت هذه الحادثة من أثر في نفسي .. “
قلبت الصفحة ، رأيت لأول مرة في الدفتر صورة فيها اللونان الاحمر والاسود ..حيتان ضخمتان من الأعلى وبذيلين دقيقين متشابكين ومتداخلين من الأسفل ، وباللونين الأسود من الظهر .. والأحمر الصارخ من البطن ، وهما تقفان وتشتبكان وتبدو واضحة حركتهما وسط أحراش خضراء وصفراء … بدا المنظر في منتهى الجمال .
” بدأ دخان القنابل يتصاعد في الوادي .. مخترقا جسد المرأة التي بدت منكمشة ، ولم أعد أراها بوضوح بسبب الدخان ، وصلتنا الاوامر بالانسحاب بعد اشتداد القصف ، لكني رأيتها من بعيد وهي مستلقية ، وبدت من مكاني الجديد كأنها امرأة نائمة ، فيما احترق الوادي والقمة التي كنا نعسكر فيها . حاولت في الليل ان أركز منظاري نحو الوادي ، كان كل شيء ساكنا قبل ان يحترق الوادي من جديد .. “
انتهى الدفتر بمزيد من الرسوم عن اشياء كثيرة تحترق ، أبقيته لدي ، ولم يطلبه مني ” فخري ” بعد انتهاء اجازته لكني تلقيت رسالة من ” فخري” بعد ايام من التحاقه يقول فيها ……………
” بقيت لأيام طويلة وأنا أتطلع الى سلسلة الجبال التي تفصلنا عنهم ، أتخيله جالسا يحدق في المكان الذي أجلس فيه ، وربما أقتنى دفتراً جديداً ، وبدأ يدون رسائله الى تلك المرأة التي يسميها حبيبتي ويرسم فيه ، وقد رسمت له شكلا في مخيلتي ، وفي كل ليلة اقضيها في الجبل أفترض له شكلا جديدا ، عدا هيمنة تلك الكتلة التي تتخذ اشكالا عديدة في اسفل الوادي ، كتلة زرقاء تشبه طائراً او امرأة او كتلاً متراصة تراها من كل زاوية بشكل ، وكنت أتعمد حديثا مفترضا مع الفضاءات المزرقة واطالع انحداراتها وابعث له تحية لاأعلم هل تصل أم لا … وأتخيله وهو يقف في المكان الذي يقابلني .. وهو يتطلع الى فضاءات الجانب الآخر من الجبل محاولا اخفاء انهماكه برد التحية لي كما افعل انا .


* عن الناقد العراقي

.
mohammad-alwan.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى