محمد خضير - الحاج

بعد أن انتهوا من صلاة الفجر، أوقد الحجاج ناراً صغيرة في قطعة الحديقة المحاذية للنهر، وتحلقوا حولها. كانوا يرتدون العمائم البيض، ولهم لحى طويلة متناثرة. يزدادون اقتراباً من النار، وينكمشون تحت جببهم الصوفية وسراويلهم الفضفاضة، مصغين لصوت ارتطام الموجات بصخور الشاطىء. أحياناً يلتفتون خلفهم إلى النهر وأحياناً إلى الرصيف الذي تفصله الحديقة عن النهر، حيث ما يزال حجاج آخرون ينامون بكامل أرديتهم في كتلة واحدة أو يتفرقون في كتل متقاربة مبهمة تحت أغطية خفيفة، وأمتعتهم تتبعثر بمحاذاة سياج مقهى ذي ساحة أسمنتية واسعة تبدأ من الرصيف وتمتد إلى داخل النهر.
اقتربت رؤوس الحجاج وهي تحدق في النار التي تخبو، ونبشوا الرماد بحثاً عن قطع الأغصان المشتعلة. نظروا بالتتابع إلى النهر أمامهم، ثم نهضوا بالتتابع أيضاً، معدلين قطع القماش الملونة حول رقابهم، نافضين طيات سراويلهم. كان الفجر يمسح سوالفهم الحليقة وجباههم، ويعمق الغضون المحيطة بحدقاتهم الضيقة تحت حواجبهم الكثيفة. كانت لهم جميعاً تلك الهيأة الزهدة المميزة للحجاج الهنود والبلوش والأفغان والأتراك الذين يمرون من هنا في مثل هذا الوقت من كل عام، ويمكثون يوماً أو بعض يوم، بانتظار تأشيرات المرور إلى مكة.

غادر أربعة منهم الحديقة إلى الرصيف، وساروا بمحاذاة سياج المقهى، ثم دخلوا الساحة الخالية من الكراسي، الواحد خلف الآخر، واستندوا إلى حاجز المقهى المطل على النهر، بمواجهة الفجر الذي ينبثق من وسط النهر، من بيضة ضخمة طافية، متحولاً إلى ضباب خفيف، ونسيم قارس، ومويجات عريضة بطيئة تختفي في الضباب، كما تختفي القوارب وأوتادها والصخور وبقع الزيت والنوارس.

هم أربعة حجاج هنود: ثلاثة كهول بعمائم بيض، ورابعهم أفتاهم بعمامة سوداء، يتمنطق بنطاق من القماش الناعم تتدلى منه زوادة من القماش الأسود الثخين. أطبقوا بأيد مرتخية على حاجز المقهى. متفرقون، الثلاثة معاً والفتى الرابع يقف على مقربة منهم. تتدفق النوارس من ذات البيضة الضخمة الطافية في وسط النهر، أمام صف باهت من النخيل.

ينظر الحاج على اليسار إلى شاحنة غاطسة وإلى رافعات حديدية معطلة وإلى جسر خشبي يمتد إلى مسافة على أعمدة في النهر، ربطت في نهايته قوارب. وينظر الحاجان الآخران إلى النوارس وهي تتقدم وتتراجع. هناك دخان بعيد يتصاعد من نقطة مجهولة، وعين خضراء تومض وتنطفىء في رأس فنار بعيد. وتعلق نظر الحاج الفتي بالقوارب المشدودة في نهاية الجسر، تتأرجح تأرجحاً خفيفاً. وفي وضعهم المنفصل، كانوا يتابعون كذلك أخيلة نحيفة في قوام القطن، جرداء ومجنحة، معتدلة ومحدودبة، ينجلي عنها الضباب، فتنهض ماشية فوق سطح الماء، ثم تغيب إذ يغشاها الضباب. أبواب تفتح أو تتهاوى بصمت فتتقاطر منها فيلة الكهنة إلى شوارع بنارس. وتتقافز القردة بين أمتعة المسافرين في ميناء بومباى. وكانت الآلهة ذات الأذرع العديدة - حينذاك - تتجول في غابة من أشجار البانيان، أو في حقل شاي في آسام، أو حقل أفيون في راجبوتا. وغير ذلك فقد رأى الحجاج الهنود أمامهم قباب معابد مادورا المخروطية وبواباتها المنقوشة بتماثيل الفيلة والأفاعي والراقصات المسخرات للخدمة، ومنائر مساجد حيدر آباد الممشوقة. وكان الموج يقرقع في تجاويف صخور الشاطىء المعراة الحادة. وفي لحظة متأخرة افتقد الحجاج الثلاثة رفيقهم الفتي، ثم رأوه يمشي على جسر الخشب متجهاً إلى القوارب في نهايته. راقبوه صامتين يبتعد بقارب منزلق بسهولة على سطح ساكن، منغمر بالضباب.

فى نقطة من النهر، كف الحاج عن التجذيف، والتفت إلى الخلف فشاهد رفاقه يقفون خلف حاجز المقهى. كان تيار بطيء يدفع القارب، فلم يعاود التجديف، واستلقى على دكة القارب الخلفية وتنفس هواء ثقيلاً بالرطوبة وبرائحة المد القوية. لم يكن القارب يتمايل ولم يؤثر شيء على توازنه، ولم ير الحاج شيئاً فوق رأسه غير الأبخرة التي كانت تنبعث من جوانب القارب.

كان الحجاج يلتحفون بأوشحتهم وعباءاتهم على ظهر السفينة المبحرة على خط الهند - البحرين - البصرة، عندما ساقت ظلمات البحر الهندي المدمدمة أفراس ريح باردة أرعشت أنوار الفوانيس المعلقة بالصواري وتخللت طيات الأردية والعباءات والعمائم واللحى. وسرعان ما جمعت الريح الموسمية القادمة من الجنوب سحائب سوداً فوق السفينة، فكأن الريح رعاة سماويون يسوقون أبقاراً هندوسية في سهوب السماء ووديانها. هبط الحجاج إلى عنبر السفينة فضاق بهم، وتكدسوا بين الأمتعة من طرف العنبر إلى طرفه. كانوا يسمعون نواح البحر في الخلجان وأشداق الساحل الصخرية. وعند الفجر هدأ البحر، وألقت فوانيس العنبر المعلقة في سقفه نوراً شحيحاً على أضلاع العنبر المقوسة الداكنة وعلى رؤوس الحجاج المتقاربة وظهورهم المحدبة المتلاصقة المتجهة في اتجاه واحد حين انحنت بركعة واحدة في صلاة الفجر الجماعية. في الركعة الأخيرة اضطرب توقيت الركوع، فبينما تنحني الظهور في وسط العنبر، تعتدل أخرى في أحد طرفيه. ثم انعدم التناسق بين رأس ورأس مجاور. غير أن همهمة دائبة تهمسها شفاه المصلين كانت تزحف على الخشب المدهون فتصفعها الأمواج. وعبقت رائحة بخور امتزجت برائحة الخشب المزيت بزيت الحوت. وعندما سكنت الأرواح الضاوية، نهض حاج وتخطى الأكتاف المتلاحمة من طرف العنبر إلى طرفه الآخر، فكان يمسك بالرؤوس ويختار موضعاً لخطوته فلا تقع على قدم أو طفل. وهجع الحجاج هجوعاً صامتاً. وكانت السفينة تدخل باب المندب. وصعد حجاج إلى ظهر السفينة. كانت السماء غائمة، وقلاع تلوح في أعالي الخلجان.

عندما صحا الحاج بقي ساكناً، متفحصاً السماء التي كانت كمنفذ واسع يؤدي إلى مكان ما. القارب.. يداه على حافتي القارب، وقد أفلتتنا المجذاف، تغمرهما الحرارة، كما تغمر قدميه اللتين أفلتتنا نعليهما. سير بطيء. اعتدل الحاج جالساً، بين صفين من النخيل. صحو شامل، تمثله السماء وتألق الماء المستمر والسكون الفاتر. بلل الحاج كفيه ومسح بهما وجهه وشعر لحيته. المجري يقود القارب باتجاه جزيرة صغيرة مستوية تغطيها الأعشاب. ارتطم القارب ارتطاماً خفيفاً بحافة الجزيرة وانزلق عليها. تمسك بأعشاب متدلية في الماء، وهبط إلى الأرض المعشبة. ربط القارب إلى حزمة من العشب، واعتدل وافقاً يتحسس وضعه. أرض ندية رخوة. شكل غير منتظم، وسط نهر لامع بطيء لا يؤدي إلى مكان، فهو يضيق هناك ثم يرتطم بصف من النخيل المتماسك ويختفي. صف من النخيل على هذه الضفة، وصف مماثل في الضفة المقابلة. رفع الحاج عمامته عن رأسه ووضعها برفق على العشب، ثم فك زوادته ووضعها قرب العمامة. الهواء يعبىء سرواله الواسع.

يهم الحاج بالوضوء. الماء رائق حول الحافة المنسرحة والمجرى يحمل أشياء طافية يعلق بعضها بالأعشاب المغمورة. انحنى ليغسل يديه فنفذت نظرته مع جذور الجزيرة الضاربة في أعماق النهر، وغادره وجهه غائصاً كحيوان مفلطح تتبعه لحيته المتموجة المتفرقة كذيل طويل. عندما ألصق جبهته بالعشب راكعاً، أحس بالماء يلاطم جوانب الجزيرة بهدوء، وفي الركعات التالية تلاطمت المياه حول رأسه كما تتلاطم على جوانب سفينة تبحر به في بحار بعيدة. وغمرته سكينة تماثل سكينة أروقة مساجد رحيبة.

تحطم القارب بشظايا النهر القافزة بلمعان شديد، بعيداً عن الجزيرة التي أفلت منها خلال صلاة الحاج. ونظر الحاج حوله ثم إلى السماء في محاولة إنقاذ يائسة. كان المنظر خالياً حوله. ولم تكن السماء سوى منفذ يؤدي إلى مكان مجهول. ويمضي النهر بالقارب نحو صف النخيل. تحت ضغط هذا السكون الشاسع المحصور، لا يجرؤ الحاج على فعل شيء.

قطع الحاج الجزيرة الصغيرة مرات باتجاهات مضطربة. لم يسر طولاً أو عرضاً باتجاه مستقيم. سار بخطوات هوج، وفي كل مرة كان يصل إلى حافة الجزيرة. ثم أخيراً استلقى على العشب الندي، وأصغى إلى جريان الماء في صلب الجزيرة وحولها، وفي صلب جسده الهامد. يداه مسترخيتان في نداوة العشب. الجزيرة تغادر، تغطس. السماء منفذ أكثر اتساعاً من ممر، أو أقل اتساعاً من هوة. الجزيرة تهبط ببطء، والسماء تبتعد .


محمد خضير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى