نزار حسين راشد - رواية مخمل لحزامة حبايب:حتمية مغلقة على المصائر الشخصية"

أول سمة ملفتة من سمات الرواية،هو الحضور الطاغي للشخصيات النسائية، والحضور الهامشي للشخصيات الرجالية، أما السمة الثانية المرتبطة بها فهي توزع الأدوار في ثنائية صارخة: دور الجلاد للرجل والضحية للمرأة، مما يضع الرواية على لائحة التناول النمطي للمظلومية النسائية، وهي الصورة الشائعة جدّاً في الأدب النسوي العربي!
ويبدو أن الرواية قد فُصّلت على هذا المقاس،وفق بطرون مقصوص سلفاً مما يضع المؤلفة بموازاة شخصيتها الرئيسة الأولى"حوّا" : الخياطة البارعة ، ومغلمّتها : الست قمر!، ولا يخفى ما للإسم" "حوّا" من دلالة، كرمزٍ للأنثى يتجاوز الفردية إلى الكونية والشخصية إلى القضية.
المخيم في هذه الرواية ليس بالضرورة هو المخيم الحقيقي، وإنما هو عالم افتراضي بموازاة العالم الحقيقي، ولعل الروائية اختارت المخيم، لأنه الأصلح كبؤرة للشقاء والبؤس،الخلفية التي بسطت الروائية صورتها في مدخل روايتها ومنذ صفختها الأولى، هكذا:
لم يكن مزاج المطر سلسا ، ويقينا لم يكن منسابة ، لينا ،" ولطيفا . كما لم يكن رشيقا ، خفيف الوطء على الأرض . ضرب المطر الحياة العارية بشراسة . تساقطت حباته حجارة صلدة شقت قشرة الأرض القاسية . خناجر الماء اخترقت خواصر التراب ، في طعنات سريعة متلاحقة ، كأنها مشحونة عاطفية ، أو مسكونة بكآبة عتيقة ، أو مشبعة بغل دفین . ظلت شرايين الأرض تنزف مياهة سوداء . أغرق الماء الهادر الشوارع ، ارتفع حتى غمر أعناق الأرصفة ، دقق في الأزقة ، فتشكلت جداول متثاقلة من الطين ، فيما حلقت شبكات التصريف قذارات بطونها في الطرقات . انهال الماء ، كوابل من الرصاص ، على النوافذ الفزعة . تسللت بعض الرصاصات من حواف الشبابيك التي انزاحت أطرها ، مترخرخة جراء تقادم العيش . شقت البروق السماء ، وتداخلت بالرعود التي زجرت البشر المكشوفين في شوارع الليل ، فيما احتمی بشر البيوت ، غير المحصنة تماما من تبعات الطبيعة غير المتعقلة ، بشاشات التلفزيون الخالية من ا الإثارة ، وأكواب الشاي المصبرة ، الماصة النقمة المختمرة ، العابقة بميرمية الشتاء والأنفاس المحتقنة لصوتيات الكاز ."انتهى الإقتباس!
هذه االخلفية المفرطة في سودوايتها،تهيء ذهن المتلقي لتتبع المصائر والتفاصيل الكئيبة لحياة شخوصها.
فالمطر هنا مطر أسود بدل أن يطهر النفوس ويغسل الأزقة والشوارع معيداً إليها النصاعة والإشراق،فهو يبقر بطونها لتفيض منه القاذورات والأوساخ!
وبتوظيف البراعة اللغوية،والقدرة على رسم المشاهد بالألفاظ،ومن خلال الإسهاب والتراتب والتكاتف اللفظي،تحقق الكاتبة غايتها،وترسم شريطاً من الصور المتجانسة في المضمون،وإن تنوعت شكلاً بتنوع الحدث وتفاوت إطاره الزماني والمكاني،إلا انه في النهاية يتلاحم في نسيج متضافر الخيوط،تقص الكاتبة منه الفستان الذي تلبسه لجسدها الروائي!
وعلى مدى الرواية تؤكد الكاتبة الحضور الأنثوي من خلال الجسدالفائض عن الحدود،والمعرض للانتهاك،لا بل والمستسلم لهذا الإنتهاك،كحتمية مغلقة لا مخرج متاح من حلقتها المحكمة،ابتداء بحوّا وأخواتها ومروراً بالسيدة قمر معلمتها وربة نعمتها،فهما يتقاسمان مصيراً مشتركاً رغم التفاوت الطبقي، وربما هذا هو سر التعاطف الذي ينمو بينهما تلقائيا،وتؤكد حزامة حضور الجسد الأنثوي بوصف سخي ضافٍ يمهد ببراعة لمصيره المنتهك،على يد المستبيح الذكري الذي لا يردعه رادع من خلق أو دين:
لتقف أمامها بتنورة كسرات سماقية عززت اتساع حوضها" ورفاهية اللحم في فخذيها ، وبلوزة زهرية ستريتش ضيقة أظهرت خصرها الدائري الصغير مقابل ثدييها مفرطي الضخامة . طلبت منها ست قمر أن تشلح البلوزة . ترددت حوا . نظرت إليها ست قمر آمرة . فخلعت حوا بلوزتها ووقفت أمامها خجلی ، محاولة أن تستر صدرها وبطنها المكشوفين بذراعيها . كانت حوا وحدها في البيت مع ست قمر . « افردي ظهرك ! » قالت لها ست قمر ، ثم تقدمت منها ودفعت كتفيها بلطف ، فحررت حوا ذراعيها إلى جانبيها وأرجعت ظهرها وكتفيها إلى الخلف . كانت حوا ترتدي سوتيانا بيج من قماش قطني مرخي ، ارتخى أكثر مع ثقل صدرها . وكان فنجانا السوتيان صغيرين ، محدودي العمق ، فغصتا بالثديين البركانيين ، اللذين فاضا على جانبي الفنجانين الضحلين ، اليبوا من تحت البلوزة الزهرية الضيقة كما لو كانا يتألفان من طبقتين متراصتين من اللحم اللدن . غابت ست قمر دقائق ، ثم عادت تحمل سوتيانا أسود ، وطلبت من حوا أن ترتديه تکورت حوا على نفسها تماما وهي تخلع سوتيانها ، معطية ظهرها لست قمر ، التي ساعدتها في إحكام إغلاق السوتيان الجديد الخلف ،، كما ضبطت لها الحمالات . أرتها ست قمر صدرها الجديد في مرأة نصفية معلقة عند مدخل شقتها السوتيان الجديد ذا حمالات عريضة ، من نسيج سميك غير قابل للارتخاء بسهولة ، صمم ليرفع أثقالا غير عادية . "انتهى الإقتباس"
،وحده أرتين راعي الست قمر الأول، يتعفف عن مثل هذا الإنتهاك،ولكنه في النهاية يفشل في أن يكون حامياً ذكورياً،لان الراوية أصلاً قررت حرمانه من هذا الدور،فيترك عاملته قمر تسير لمصيرها الأسود لا بل إنه بالفعل يشارك في إيصالها إلى هناك،فدوره في النهاية أكثر فظاعة،إذ ربما لو استاثر بها لنفسه لكان سلوكاً أقل خساسة ووضاعة، ولكنه يسلمها للغير،دون أن تستثار رجولته ولا حتى أنانيته.
هكذا تضع حزاما الأحداث ضمن قدرية محكمة الحلقات لا سبيل إلى كسر سلسلتها أو الفرار من حبكتها بفعلٍ أو خيارٍ فردي أو إرادة حُرّة!
أما المخيم كما رسمته الرواية فهو صورة رسمتها الراوية بأبعاد ومقاسات فصلتها وقصّتها سلفاً،فقد غابت الروح الوطنية والثورية تماماً كما غاب الحلم الوطني بالمثل عن حياة المخيم تماماً!
وكأن بينه وبين العالم عازل سميك،ويبدو المخيم في هذا الضوءوخلافا للواقع معزولاً عن النشاط السياسي،والتنظيمات السياسية،أما المتسلل الوحيد إلى هذه الساحة المغلقة فهم المجاهدون العائدون من أفغانستان،منفردون بالساحة وبالأنشطة الدينية،فلا حركة حماس ولا الإخوان المسلمون ولا حتى رجال الدعوة تسجل الرواية لهم أي حضور،فيما يبدو أنه كما قدمنا تجريف مسبق وبِنيّة مبيتة لهذا الحضور القائم فعلاً بموازاة الحدث السياسي الذي يتأثر به المخيم كأول المتأثرين!
لقد رسمت الرواية عالمها الخاص ورؤيتها الخاصة وألصقتها بأرض المخيم واسقطتها عليه أو حاولت إلباسه إياها ولكنها فشلت تماماً فليس هذا المخيم الذي يعرفه أحد ممن عايش بالفعل حياة المخيمات.حتى وإن زعمت الكاتبة أنها نفذت إلى أعماقه،ولكنها بالفعل لم تحِكّ حتى السطح.
ولكنها أصابت غاية أخرى هي تكريس المظلومية الأنثوية بلغة حيّة موحية حتى وإن تجاوزت ذلك إلى الفانتازيا موظفة باتتقائية ذكية عناصر التقطتها من بعض هوامش الحياة على سعتها حتى وإن حشرتها الراوية في نطاق المخيم
نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى