جار النبي الحلو - العصفورة لم تقل شيئاً.. قصة قصيرة

همست أمى: قالت لى العصفورة إنك تلعب معها .. وتسرق لها البرتقال وتدخل بها فى النهر.
كان أسمها جميلة.
نجرى إلى النهر، يانهر افتح لنا ذراعيك، خذنا بعيداً عن التراب والدور الفقيرة ونغنى طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة.
ترفض والكف فى الكف، يلتف العيال حولنا ندور فى لعبة طويلة .. ننسلخ هى وأنا من العيال، وندخل النهر على ماسورة طويلة لامعة سوداء، قطرها كبير، ماسورة تصل حتى المنتصف، نسير بوجل وعلى مهل يستقبلنا هواء النهر بفرح، نفرد الذراعين لنتزن ثم نصل لمنتصف الماسورة نجلس ندلى أرجلنا فى الماء ووجهها فى وجهى. كان لها وجه أسمر، وعينان ضيقتان وثلاثة أعوام تسبق عمرى بهم.
يداعب النهر رجلى بموجاته الحانية وهى تحكى لى عن القطن والخولى والدودة والدار، والنوم جوعا .. زقزق العصفور ولم أره .. نظرت للسماء الواسعة .. ياسمانى الواسعة أين عصفورك الذى يطير لأمى ويحكى لها.
تقول أمى: كنت مع جميلة! ثم تردف تجلسان معا على الماسورة.
اندهش كيف عرفت أمى ودارنا بعيدة عن الماسورة. حين أكون فى منتصف النهر أرى درانا بعيدة والأشخاص يكونون أصغر مما أعرفهم ولا أدرى لون حبات عيونهم.
- كيف عرفت أمى؟
تقول: العصفوره قالت لى.
ياسمائى الواسعة اين عصفورك؟
وتضحك جميلة ابنة خالتى والتى تحمل اسم أمى، تضحك ضحك الكروان ثم تصمت وتسألنى: أتحب المدرسة؟ فأقول لها: نعم أحبها. تنظر لى ولملابسى وأحذر أنها تحسدنى أنا النظيف .. ثم تبكى. هى الصغيرة وأنا الصغير أعرف لماذا؟
وأنا ذاهب لمدرستى كثيراً ما أراها وهى بين عدد كبير من العيال فى سنها وأكبر منها محشورين فوق مقطورة جرار فى رحلتهم للغيطان الجوانية لقتل الدودة أو لجمع القطن. ترفع يدها ملوحة بفرحة تلوح لى وتنادينى باسمى، ألوح لها بيدى .. فتضحك، وتقول للعيال: هذا ابن خالتى. ويسبقنى الجرار ويثير الغبار ويختفى.
فى الصورة وقالت أنه سركى المحلج!
تقول أمى: شفت جميلة فى الصبح؟ العصفوره قالت لى.
ضربت الماء برجلى.
- أنت طيبة ياجميلة وأحب اللعب معك.
تداعب الماء بقدميها السمراوين المعروقتين، ثم تسألنى أن نجرى للشط الآخر.
فى الشط الآخر تحكى لى أن أباها يضربها، وأمها تجعلها تغسل الصحون وتكنس الدار وتشترى الشاى والسكر والجاز والملح والكبريت.
ذات ليلة صيفية قمرية افترشنا أمام دارنا، كنا نطبل ونغنى وكانت هى لاتكف عن الغناء، أسمع صوتها، مايزال "الفجر ما طلعش الليلة أبدا عريس وعروسته مانا موش الليلة أبدا"
كنت أتناول الغداء حين داهمنا غول من الصرخات والعويل. جرى أبى .. وأمى .. وأخوتى، وجريت أنا فى الحارة الضيفة. كانت جميلة تحترق.
جميلة كتلة نار .. لم أسمع صوتها، الناس فى يأس يطفئون النار المتوهجة.
بالجاز اغرقت نفسها .. هى الصغيرة بالكبريت أشعلت نفسها .. هى التى تكبرنى بثلاثة أعوام.
ياولداه ... يابنتى .. ياجميلة.
شممت رائحة الجسد .. ورائحة عرق شمس الغيطان.
كل هذا النهر ولم نطفئ جميلة!!
ضربت وجهى. وفعلت مثل النسوة وهن يلبسن السواد.
انطفأت النار وعيون جميلة انطفأت وماتت.
أجلس وحيدا على ماسورة النهر أرى السماء الواسعة ياعصفورة السماء أين جميلة؟ لماذا لاتقول لى شيئاً؟


جار النبي الحلو / مصر
أعلى