أ. د. فراس عبد الرزاق السوداني - في شارع شُبرا..

خلَعَ المُبدع الدكتور شعبان على سرده «في شارع شُبرا» حُللَ الحُسن والبهاء مِن كلّ صنف ولون، بما أوتي من خيال القاصّ الموهوب ولغة الأديب المشبوب، فجاء نصّه هذا واسطة عقد نصوصه التي اطَّلعت عليها مذ جمعتنا صداقة فَسْبكيّة مباركة.
دقّةُ الوصف والتشخيص السمة الأبرز لهذا السرد، مع تشويق تنقطع دونه الأنفاس بكثرة التنقّل بين المشاهد المتوالية من جهة، والانتقال من وصف المشهد إلى الغور في أعماق الشخوص وترجيع صدى حواراتهم الداخليّة، أو نقل الحديث على ألسنتهم، من جهة ثانية.
والنصّ زاخر بالنقد محشوّ بالنصوص اللاذعة، وبعض هذا النقد يدلّ على وعي نادر من القاصّ بشتّى مناحي الحياة..
تأمّلوا معي نقده لحُمّى الإعلانات في مُدننا، إذ يقول: «لوحات الإعلانات تُخاطب أناساً لم يرهم مِن قبل»..
ثمّ ينتقل لنقد عِمرانها، قائلاً: «تبدو العِمارات على الجانبين بقايا جبال في مشهد يضج بالعبث»..
ويثنّي في ذات السياق قائلاً: «افترسَت المدينةُ التي بلا قلب شبابه»..
هذه النصوص الناقدة عجيبة مُعجبة، فقد استطاع بوعي الفنّان أن ينقد مآلات المدينة في نسيجها العِمرانيّ ومشهدها الحضريّ!!
أعجبني كثيراً تداخل الزمان والمكان في سرده، كقوله: «الآن.. غير بعيد منه» وأمثالها، وتقابل التشبيهات في نصّه وهو يصف محصّل التذاكر (الجابي) بقوله: «اقترب من نهاية الخدمة كما الحافلة التي تتداخل حوائطها»، فهذه التداخلات تشعرك باندماج الإنسان بزمانه ومكانه وبالجمادات من حوله، حتّى إنَّ نفحة من روحه لتضفي عليها شيئاً من روح!
فالجمادات عنده امتداد لحياة مَن يعيش فيها وبينها، فتتوهّم من مثل قوله: «يسرقان لحظة من حافلة مصابة بالخرس» بأنَّ الأصل في الحافة أن تتكلّم وتنطق وتعبّر. و«الحافلة -عنده- تتمايل طرباً» و«لوحات الإعلانات على جانبي الطريق تحاصر...» السائق.
وربما كان شغف القاصّ هنا بتحريك الجمادات وإنطاقها من نقده الخفيّ لأنماط عيشنا المعاصرة بتكنولوجيتها التي قرَّبت البعيد وأبعدت القريب، فلا يكاد الزوج يحكي مع زوجه ولا الولد مع والديه ولا الأخ مع أخيه ولا الصديق مع صديقه، ويجمعهم مكان واحد وتفرّقهم هواتف محمولة يتواصلون عبرها مع الأباعد من الناس!
وقد لاذ القاصّ بالكنايات، ليؤدّي الأغراض البلاغيّة من جهة، وليحافظ على مستوى نصّه الذوقيّ، من جهة ثانية..
تأمّلوا قوله: «كان ميتاً وحياته أن تأتيه أنثى تحرِّك ساكنه» وقوله: «يداعبها بعينيه» وأيضاً في قوله: «عيناه تقتحم خلوتهما المتوهَّمة».
في النصّ مقابلات مُبدعة أضفت على النصّ حياةً بما احتوت من مفارقة، كقوله: «تجاوب مع الفتى حين كان يُعابث الفتاة اللاهية.. امتعض من لحية الشيخ ذي العمامة»، فـ«عبث الفتى» ينفخ في مستكنّ الجمر تحت رماد الشباب الذاهب، و«لحية الشيخ» توقظه من هذا الشرود وتعيده إلى رشده الذي يؤرّقه، ولسان حاله يقول:
فلا يُبعد الله الشبابَ وقولَنا ** إذا ما صَبونا صَبوةً: سنتوبُ!
ويؤكّد على هذا المعنى من طرف خفيّ آخر، بقوله: «الفتى الذي كان يُعابث الفتاة يتصَّدر المشهد.. يحدث الركّاب عن مُتعة الحياة؛ أن يبحثوا عن الأمل.. ينهره الشيخ: الموت نهاية الأحياء».
ولا يخلو هذا النصّ الأخير من لمحة ناقدة لبعض دُعاة الدين المعاصرين الذين يقتلون في الناس الأمل بذكر الموت حيث يجب أن تُذكر الحياة، والحياة في سبيل الله أوّل مقاصد الشرع الحنيف؛ إذ الحياة خلقه والعيش فيها قيام بحقّ تكليفنا فيها!
آنسني كثيراً تضمينه البارع من فلم «Speed» الهوليوودي الشهير، في قوله: «على الشاشة نبأ عاجل: على المارين في شوارع المدينة توخي الحذر.. حافلة فقد السائق السيطرة عليها!»، وهي دليل آخر على وعي هذا الفنّان وتكريسه لمخزونه الثقافيّ في خدمة نصوصه.
هذه الثقافة التي يؤكّدها عدد من نصوص سرده هذا، فالسائق «يخرج عن وقاره في وصلة من موال الصَّبا»، والصّبا نغم حزين؛ لكنّ الحزن فيه مُطرب، وأصل الطرب في الحزن والفرح، كما هو معلوم.
ادّخر القاصّ نقده السياسيّ إلى آخر السرد، والتأخير كالتقديم يؤدّي معنى الاهتمام والتوكيد..
«توشك الحافلة أن تكون حديث المدينة، النسوة يحاولن ركوبها، يسابقهم الرجال.. وجدها المسئولون فرصة، أفسحوا لها الطريق!».
والرأي عندي أنَّ هذا النصّ الأخير هو مفتاح هذا السرد وغايته في آن، وإنّي لأتوهّمُ به «الحافلة» حياتنا المعاصرة بتناقضاتها، ومفارقاتها، وإيقاعها السريع، وحيرة أولي الأمر في إدارتها، ومحاولتهم لاستثمارها بما يضمن لهم كراسيّهم ومناصبهم، لا بما يؤدّي عنهم أماناتهم!!
ويأتي الختام ليزيّن لي وهمي الذي بُحت به إليكم هنا، فليس «بائع الأشياء الصغيرة» إلا واحداً من أولئك المسؤولين الذين يمكرون ويُغافلون ويسلبون، مُتَّكئين في ذلك كلّه على غباء الشعوب وغفلتهم..
«على حين غفلة شدَّ بائع الأشياء الصغيرة مقبض الحافلة.. توقَّفت، بعدما سلب عقد المرأة المتصابية!».
هذا نصّ مفعم بالحيويّة والنقد، موّار بالحياة، ولا غرو.. فالأديب من صُنّاع الحياة، والله تعالى أعلم بمراده من ذلك كلّه!



1617692015683.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى