أمل الكردفاني- دازاين الخلود- قصة

تلك النقطة السوداء تنمو كالشيطان..تنمو حمراء بلون الدم..بتخثره..برائحته المقززة، تنمو في كونها المظلم..ثم تقفز منه كلاباً وذئاباً وخنازير وحشرات وديداناً وأزهاراً وبشراً..ثم تزحف مثقلة بألألم، بالجوع، تزحف لتفكك تلك الشفرات المنقوشة على سطح أرضها الوعرة..تلك الأرقام المقلوبة، النجوم المعتمة، المثلثات والدوائر والمربعات والمستطيلات المشقوقة من المنتصف...وتلتفت طفله إلى الوراء بجزع فتلمع عينها اليمنى وتسد فمها بأصابعها لتبكي ثم تنشق لنصفين وتتناثر لتعبر بقاياها الكون ثم يبتلعها فَكَّان محاطان بالأنياب..
- ستندمين..
- ليس ذلك مرعباً كما تظنين..بل محزن..محزن جداً
...

هناك..مُلقى كخرقة..ينهض وقد تكوَّن من كل شيء..تلك النقطة السوداء التي تنمو حمراء كالدم..وحين يرفع عينيه إلى السماء..تتطاير النجوم والكواكب مبتعدة عنه..
- لا تهربي..
يصرخ دون جدوى..فينحني جسده العاري منهزماً ليراقب أصابع أقدامه الكبيرة..كبيرة لأنها متورمة..أظافرها محاطة بقشور من دم متخثر..فيسقط على الأرض ويبكي..
- لماذا؟
....
تتمزق الموسيقى..تتفرق حرفاً حرفاً..
- صداع ينفجر داخل جمجمتي..
يقول ويمسك برأسه بكلتا قبضتيه متألماً..ثم يدور راسه ويتقيأ..
- لن تكفي أبداً..لن تجعل أحداً يفهم...ولكن إن كان ولابد فعليَّ أن أعبر وديان الجحيم والشياطين..لا شيء يخيفني.. حين يكون التهديد مؤنساً فما الذي بقى لي من كينونتي؟.. لا شيء..
...

- لن يفزعك هذا وأنت تعرف ذلك.. بل يغضبك..
يبكي وهو يضغط على رأسه:
- بل يحزنني حد الشقاء..
يحيط به غبار اليأس ويحمله قاذفاً به إلى هوة سحيقة..
وتطلق ذات الفك ضحكتها الحاقدة:
- ستصل أسرع مما تتصور..أسرع مما تتوقع..أيها الملقى على قارعة الوجود..
يدور جسده في الفراغ وهو يسقط..يتقلب لأعلى وأسفل.. لكنه لم يعد يعبأ بكل ذلك..بل يبكي بلا صوت..ولكن بدموع تتطاير وراءه قطرات قطرات..تسافر..وتستقر على طيف من النور الأزرق ثم ترقص رقصة الارتعاش..
.....
وبين الصخور علِقَ رأسُه، وتوزعت أعضاء جسده الأخرى بين الأثلام وتحت جروف نهر العفن والنبتات الشوكية المنشورة عرضيا في الفلاة..
- هنا لا قانون..هنا الفوضى العارمة..
تقترب أشباح الشياطين وتجمع أعضاءه ثم تنتزع رأسه وتخيطهم جميعاً بشكل خاطئ. ذراع فوق رأسه أقدام عند أذنيه:
- لم نتعلم ذلك من قبل..ولا أهمية له.. أليس كذلك؟
يصدر صوتها كالفحيح، وتتقافز السنة اللهب من أعينها..
- لا..ليس له أهمية...
- لن يستطيعوا شنقك على الأقل..
يضعونه في بقجة من الظلمة ويربطونها على عصا من الفجيعة ويحملونها على أكتافهم النحيلة المشعرة ويمضون به وهم يرقصون..
راج..راج..راج..راج..شاه..راج..راج شاه..أمْها أمْها أمْها أمها..أدو..أدو..راج...راج..شاه...راج..
تنفجر السنة لهب البراكين من تحت أقدامهم ذات الأصبعين الطويلين بأظافر مخلبية.. يغنون ثم يرقصون في مشيتهم..يتقدمون خطوتين للأمام..وثلاث خطوات للخلف...ثلاث خطوات للأمام وسبع للوراء..إنهم يسيرون عكس الهدف..
ولكن..لا أهمية لذلك..
....
- حان الوقت..
يهزه الشرطي من أصبع قدمه الصغير..فينهض وجسده يتصبب عرقاً..
- حقا؟
- حقا..
يثقل جسده، ويسقط قلبه في أمعائه..
- وزنه تسعة وستون كيلو غراماً..هل الحبل جاهز..
- نعم..
- ولكن وزني كان خمسين فقط؟
- وهل يهم ذلك؟
يغطون رأسه بكيس قماش به رائحة الثوم الذي أكله من كان قبله...
- أبدلوا هذا الغطاء..
تظهر أسنان الشرطي من بين العتمة..
- وما أهمية ذلك؟
يستنشق رائحة الثوم ويهمهم:
- لا أهمية له..لا أهم...

يمتص العدم كل الأشياء من حوله فتتقلص حتى تمسي نقطة سوداء في كونها المظلم..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى