محمد أحمد مخلوف - العوالم الممكنة في نص الوفد لعبد الواحد السويح

عبد الواحد السويح ( تونس )
الوَغْد.. شعر

فِي هذا الكونِ ما يكفي لأتحوّلَ إلى وغدٍ:
عقاربُ ساعةٍ حائطيّةٍ
أوراقُ الخريفِ القديمةُ
صيحاتُ فرَحٍ يطلقُها الموْتى في كلِّ مكانٍ
أيادٍ تحمِلُ قفّازاتٍ خنجريّةً...
في هذا الكونِ ما يكفي مِنَ القهرِ لأتحوّلَ إلى وغد...
بالأمسِ قتلتُ طفلا كان يحلمُ أن يصبح مخرجًا سينمائيًّا
رسمتُ البياضَ على شَعرهِ وهَويتُ بسكّين أخطُّ به خيبتي على جبهتهِ
واليومَ دفنتُ قلبي تحت حائط يتبوّلُ عليه المارّون في مدينتي
لم يبق لي إلاّ أن أقتلَ الشّجرةَ
حملتُ الفأسَ ونظرتُ إلى العالَم
كم كان العالَمُ يشبهني:

سماءٌ بلهاء تدخّن البحرَ
الخريف العبدُ
ضحكاتٌ بلا لون...
أهوِي بالفأسِ أقتلعُ الشّجرةَ وأدفنُ نفسي مكانَها
كاميرا الطّفلِ المقتولِ تحاولُ تحتَ الأرض أنْ تصلَ إلى القلبِ المدفون
في كلّ مرّةٍ يتلوّثُ المشهدُ بالبوْل
والخريفُ يلغي الفصولَ الأخرى من مُخيّلتهِ.
🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹

لنتفق أولا أننا بصدد الاشتغال على نص منطوق قد يراه البعض شعرا و قد يراه آخرون سردا ، و لكن ما يهمّنا هنا هو هذه التجربة الإنسانية لعبد الواحد السويح من خلال الولوج إلى بعض عوالمه الممكنة من خلال نص " الوغد" ، الذي يصدمنا منذ العنوان الذي جاء معرفا مطلقًا فلا نعرف له حاملا لهذه الصفة ، أي شخصا بعينه ، إلاّ أنّ هذه الاطلاقية سرعان ما تنتفي في السطر الاول ليكون الإقرار بواقع يعيشه السويح فيستعمل حرف الجرّ " في" الدالّ هنا على التمركز في المكان الذي هو في مقام الحال " الكون " في اطلاقيته ثم يقرنه ب" لام " نقول تجوّزا أنها لام التوكيد:« في هذا الكون ما يكفي لأتحول إلى وغد ».
ثم يأتي التفصيل عبر وضع نقطتي التفسير في آخر الجملة الأولى " :" ليفتح لنا عالما تعودناه عند السويح وهو عالم يقوم على الثنائيات ( حياة / موت ، ظلام / نور ، بداية/ نهاية ...) ، فإذا بالإنطلاق في الزمن أو بداية الحياة « عقارب ساعة حائطية» ، لتتواصل الصيرورة الزمنية مع فصل الخريف ( أوراق الخريف القديمة ) الذي هو عنوان للذبول و السقوط ،لتكتمل دورة الحياة أو لنقل ليكتمل المشهد بالموت الذي أصبح فرحا و نجاة عند السويح :« صيحات فرح يطلقها الموتى في كل مكان »، لنعود إلى فكرة الخلاص التي تلازم السويح في أشعاره و لعلّ الموت إحداها ( ألم يتحدث سابقا عن اغتيال دون دم ؟ ) خاصة و أن ما يحيط به يشي بهذه الرغبة المليئة خوفاً من " أيادٕ تحمل قفّازات خنجريّة ".
إن العوالم الممكنة التي يحيلنا إليها السويح هي عوالم ذات علاقة مرجعية واقعية حيث تحكم الصراعات و المجازر الدموية و الخناجر المسلولة هذا الكون ، ليأتي التوكيد في السطر السادس مرة أخرى كلازمة في أغنية الحياة :« في هذا الكون ما يكفي من القهر لأتحوّل إلى وغد ... ». في عملية انزياح عن اللازمة الأولى بإضافة كلمة " من القهر" التي شرّعت له التحوّل إلى " وغد " ، و ربما بهذا الانزياح بالمعنى نوع من الخلاص من تأنيب الضمير ممّا اقترفت يداه ف " بالأمس قتلت طفلا كان يحلم أن يصبح مخرجا سينمائيا " ، فهل بعد هذه الجريمة جريمة ؟!
ها هو يبحث كيف يواري سوءته أو بالأحرى خيبته على جبهة الطفل ،« و هويت بسكين أخطّ به خيبتي على جبهته » ، ليكون الهروب من هذا الإثم عقابا للذات المذنبة :" و اليوم دفنت قلبي تحت حائط يتبوّل عليه المارّون في مدينتي " ، ليكون السؤال هنا أي جرمٕ و أي عقاب ؟!
الجرم هو اغتيال حلم هذا الطفل أو قتل الحياة فيه ، و العقاب الذي حكم به على نفسه هو أشد أنواع المهانة و جلد الذات في فعل مازوشي / سادي قلّما يترك السويح فرصة الا و يناله فرحا ، فإذا به يدفن قلبه " تحت حائط يتبوّل عليه المارّون " . إنها سقيا لهذا القلب الآثم ببول نجس يسقي به عبد الواحد السويح " شجرة الحياة" ليقتلها " عرقا عرقا"، « لم يبق لي أن أقتل الشجرة »، و هنا يحيلنا على العالم الأسطوري للشجرة المقدسة، من ذلك شجرة" الحماطة" أو شجرة الحيّات أو شجرة التين ، وهي رمز الخطيئة التي أخرجت آدم من الجنة ، فإذا بها تخرج السويح من عالم الإنس إلى عالم " الأوغاد" . و لكن كيف له الخلاص ؟
« حملت الفأس و نظرت إلى العالم » ، مع فعل الحمل للفأس يكون فعل « نظر إلى العالم» في عملية تردد و إعمال عقل قبل الفعل في الشجرة بالقطع ، فإذا بالدهشة تصيبه و إذا به و العالم سيّان متشابهان ، « كم كان العالم يشبهني » ، ليعدد أوجه الشبه و الإلتقاء بينهما من ذلك « البلاهة و التدخين » و « الخريف العبد » لتكون في الأخير خاتمته « ضحكات بلا لون » ، ليكون العالم الأسطوري مسيطرا على فكر السويح ، فإذا به يستحيل « سيزيف» و لكن دون صخرة بل هو « أقتلع الشجرة و ادفن نفسي مكانها » ، في عملية تتكرر مع كل شعور بالذنب مما سبق فعله و مع كل رغبة في الخلاص من صورة الطفل و " كاميراه التي تحاول أن تصل إلى القلب المدفون " مكان شجرة سقيت من البول الذي " في كل مرة يتلوّث المشهد " به لتسقط مرة أخرى أوراق الحياة مع كل خريف جثم على مخيّلته فألغى الفصول الأخرى " قهرا" حتى أقرّ لنا السويح بأنّ « في هذا الكون ما يكفي من القهر لأتحوّل إلى وغد ... ».
و هكذا كانت العوالم الممكنة بما فيها من مبادئ الصدق و الكذب و اختلاط الواقعي بالنفسي و الأسطوري ترجمانا لرحلة الذات المتعذبة التواقة للخلاص من " حماطة " الحياة
و إن تجرّعت قبح المشهد الحياتي الذي « كل مرة يتلوّث بالبول ».

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى