محمد علي عزب - المشهدية الشعرية

المشهد لغةَ كما ورد فى معاجم وقواميس اللغة العربية هو ما يُرى ويُشاهَد, ومكان المشاهدة, والجمع من الناس, والمشهد اصطلاحا هو وحدة درامية جزئية ـ جزء من فيلم أو مسرحية ـ تشير اٍلى آداء تمثيلى فى فضاء مادى محدد, وقد استعار الشعر الحديث والمعاصر مصطلح المشهد والمشهدية من السينما والمسرح والفنون التشكيلية، واستطاعت شعرية الشعر الحديث أن يكون لها مشهديتها الخاصة التي تخاطب مخيلة القارئ وتستخضر أمامه العالم الدي يشير إليه النص الشعري، عبر تحويل الثيمات والمعاني المجردة إلى معطي بصري تصويري / مشهد .
وإن كان المسرح هو أبو فن التمثيل فإن المسرح كان شعريا في بدايته عند الإغريق، بدأ بممثل واحد يقف على خشبة المسرح يصف ويصور ويجسد الشخصيات وكان آداءه التمثيلى ممزوج بالاستعارات والصورر الشعرية، التى تتناغم مع الآداء التمثيلى الحركى, وإن كان الفن التشكيلي بالأساس فن بصري يخاطب العين مباشرة لاستشارة الخيال عبر الرسم أو النحت فإن الشعر هو فن التخييل وتشخيص المعاني والرؤى عبر اللغة الواصفة المُشَخّصة، وقد أولى القدماء اهتماما بالصورة الشعرية حيث قال أرسطو في كتابه "فن الشعر" عن الاستعارة والتصوير المجازى ( أعظم الأساليب حقا هو أسلوب الاستعارة .. وهو آية الموهبة )1، وفي تراثنا العربي تحدث العديد من النقاد عن الصورة ومنهم الجاحظ الذى قال: ( اٍن الشعر صناعة, وضرب من النسج, و وجنس من التصوير )2 , واعتبر "ابن سينا" أن الشعر ( كلام مُخَيّل مؤلف من أقوال موزونة متساوية )3, وهكذا فرق العرب بين الشعر باعتباره كلاما مخيلا ذا معنى, وبين النظم الخالى من التخييل, ولم يعتبروا ألفية ابن مالك فى النحو شعرا رغم أنها منظومة ملتزمة بالوزن والقافية.
إذا فجذور التمثيل والتصوير موجودة في الشعر منذ القدم، فالصورة الشعرية والتخييل هما الأساس الذي ارتكزت عليه المشهدية الشعرية، وكذلك اهتمت المدارس الشعرية الحديثة بالصورة وتشكيلها, وصبغها بالرؤية الفنية لهذه المدرسة أو تلك, فالرومانسيون اعتمدوا فى تشكيل صورهم الشعرية على التشخيص واٍضفاء صفات اٍنسانية على عناصر الطبيعة التى أعتبروا أنها مصدر النقاء والفطرة, واتجه الرمزيون اٍٍلى اٍضفاء طابع رمزى على الصورة الشعرية, وجاء الشعراء التصويرون فى انجلترا وأمريكا فى منتصف العقد الثانى من القرن العشرين وأطلقوا على أنفسهم هذا االاسم نظرا لاهتمامهم بالصورة الشعرية التى ( تتميز بالوضوح وبقدرتها على الاٍيحاء بصور مرئية تفيض بالحياة )4, أما السرياليون فقد أطلقوا على غرابة الصورة الشعرية, والتباعد بين طرفيها عن المألوف للعقل والحواس ( مسمى الاٍشعاع أو اللهب السريالى, كقول الشاعر "ريفردى" : مثلا "فى الساقية تجرى أغنية", أو قوله "العالم يدخل فى كيس", أو قوله : "وانتشر النهار كغطاء أبيض" )5 .
وهكذا كان للتصوير الشعرى دورا محوريا فى كل المدارس والتوجهات الشعرية قديما وحديثا, والتصوير باللغة الواصفة المشخِّصة ذات الطابع الانحرافى عن معيار بناء اللغة العادية هو الأساس الذى ارتكزت عليه الشعرية المعاصرة, التى استعارت المشهدية من حقل السينما والمسرح لتضفى عليها طابعا شعريا, وأصبحت القصيدة عبارة عن مشهد كلي دال يتكون من عدة مشاهد جزئية، وكل مشهد من مكون من لقطات، والرابط بين هذه اللقطات والمشاهد التمثيلية هو السرد الشعري الذي يقوم بنفس الدور الذي يقوم به المونتاج في الفيلم السينمائي في انتقاء اللقطات والمشاهد الموحية المؤثرة والربط بينها .



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ اٍحسان عباس ـ فن الشعر ـ دار الثقافة ـ بيروت 1959م ط 2 ص 141
2 ـ الجاحظ ـ كتاب الحيوان ـ ص 133
3 ـ على العلوى ـ مفهوم الشعر عند ابن سينا ـ كتاب المجلة العربية العدد 133 أغسطس 2008م
4 ـ معجم مصطلحات العربية فى الأدب واللغة ـ مجدى وهبة وكامل المهندس ـ مكتبة لبنان ـ بيروت 1984م, ص 107
5 ـ المعجم المفصل فى اللغة والأدب ـ د. اٍميل بديع ود. ميشيل عاصى ـ دار العلم للملايين ـ بيروت 1987م المجلد الثانى ص 717

* مقتطف من الفصل الأول من كتابى النقدى "مقاربة مفهومية فى مصطلحات شعرية معاصرة" ـ قيد الكتابة












تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى