الدكتور عادل الأسطة - أحمد دحبور: وصلت حيفا ولم أعد اليها

يجدر الوقوف عند أحمد دحبور بخاصة، فهو، مثل يحيى يخلف، من مهجري عام 1948 الذين حلموا منذ الهجرة بالعودة الى مدنهم وقراهم، وقد زادت حياة اللجوء القاسية من حنينهم، وظل هؤلاء ينظرون الى المخيمات على انها مخيمات العودة لا مخيمات التوطين. واذا كانت المأساة الفلسطينية عربية وفلسطينية، فانها لهؤلاء عربية وفلسطينية وخاصة.

ولد أحمد دحبور في حيفا عام 1946، وعاش في مخيمات اللجوء حياة صعبة يصفها على النحو التالي: "كان لوالدي الشيخ مهنة غريبة، فقد كان يغسل الأموات ويقدمهم للدفن، وكان يسحر في رمضان، ويقرأ القرآن على القبور، وكان هذا يعطي انطباعا في المخيم اننا أسرة على علاقة وطيدة بالموت، وكنا فقراء الى حد يصعب وصفه، ويمكن القول اننا كنا أفقر أسرة في المخيم" ويتابع: "كنا أسرة كبيرة العدد، ولم يتوفر لنا الا غرفة واحدة، حتى أن اخي الكبير عندما تزوج اضطر الى وضع ساتر قماشي بيننا وبينه هو وعروسه في الغرفة نفسها" (انظر: أعلام الأدب العربي المعاصر، سير وسير ذاتية، بيروت، 1996، مجلد 1، ص 589. وانظر ايضا مقدمة اعماله الكاملة، بيروت 1983، ص 21، ص22).

ولعل هذا هو السبب الذي حدا به الى الانحياز الى الفقراء واللاجئين معا، حتى اذا ما نضج والتحق بالثورة الفلسطينية وشهد المعارك التي خاضتها في الاردن ولبنان انحاز الى حيفا انحيازا مميزا. حقا ان محمود درويش غنى لحيفا وكرملها، وهو ما بدا في اشعاره التي كتبها بعد خروجه عام 1970، الا ان ثمة فارقا بين الاثنين، ففي حين غادر درويش حيفا واعيا لما يقدم عليه، غادر دحبور المدينة وعمره عامان، وكان حنينه اليها عائدا الى حياته في المخيم، لا لأنه عاش في حيفا، كما هو الحال مع درويش.

ويصبح دحبور الصوت الشعري المميز المعبر عن تطلعات شريحة كبيرة من شرائح المجتمع الفلسطيني، هي شريحة اللاجئين التي خرجت، نتيجة للحل السلمي، من المولد بلا حمص، مع أنها دفعت على مدار خمسين عاما ثمنا باهظا، حتى لكأن اللاجئين أصبحوا يهود التاريخ، وحتى ليبدو ما قاله مظفر النواب فيهم قولا غير مبالغ فيه. يقول مظفر:

"ومرت جنازة طفل على حلمي بالعشي

يراد بها ظاهر الشام

فقلت أثانية كربلاء

فقالوا: من اللاجئين

كفرت:

وهل ثم ارض تسمى لجوءا ليدفن فيها

وهل في التراب كذلك مقبرة اغنياء ومقبرة فقراء"

(أ.ك، لندن، 1996، 268)

وقوله:

"هنا دفن الطفل في آخر الامر

يا أرض غزة فاسترجعيه لئلا مقابرهم تستفز" (ص 270)

واذا كانت سميرة عزام صورت، قبل انطلاق الثورة، واقع اللجوء، وذلك في قصتيها “لأنه يحبهم” و “فلسطيني” وأبرزت لنا فيهما صورة اللاجيء، الخانع أو اللص او المتواطيء…الخ، فان دحبور الذي كبر واشتد عوده الشعري ابان تألق الثورة، يقدم صورة اخرى للاجيء، ويصبح الاخير رافضا للذل ثائرا على القيد:

“أسمع أبيت اللعن راوية المخيم

افتح له عينيك وافهم:

هذه الخرائب والمجاعة والخفوت

هذي الاعاشة والصدى الخاوي واشباح البيوت

فيها كبرت، بها كبرت

وفوضتني عن جهنم” (أ. ك، بيروت، 1983، ص 213)

على أن افتخاره هذا لم يجعل منه انسانا متعصبا، ولقد علمته حياة الناس في هذه البيئة حب الناس، كما علمه الجوع ورباه ان همومه ليست فردية ذاتية، وانما هي ذات بعد عربي، وإن ضن العرب عليه. وكما يذكر احمد دحبور، فانه نشأ كما نشأ جيله، المولود في أوساط الاربعينيات، حيث كانت القوائم المشتركة لما يسمى بجيل الستينيات تشمله من حيث كتابة قصيدة التفعيلة والالتزام بالثورة الفلسطينية، على خلفية هي خليط من وجودية وقومية" (انظر: الحياة الجديدة، رام الله، 12/2/1997). وقد عبر عن هذا في غير قصيدة، ومنها القصيدة السابقة نفسها:

"لي وجه وذاكرة

ولي في العمق بيت ما تهدم

فاترك علي الهم استأصل غرابه

اترك على الجوع، هذا الجوع رباني وعلمني كتابه

واذكر اذا استحلفت اني لم ابع اهلي وإن ضنوا عليا

(عربية هذي الهموم وانت تعلم

عربية، فانظر اليا)” (أ. ك، ص 216)

وبناء على ذلك فان عناوين بعض مجموعاته “حكاية الولد الفلسطيني" (1971) و "طائر الوحدات" (1973)، وعناوين بعض قصائده “حكاية الولد الفلسطيني” و “عرس على الطريقة الفلسطينية” و “راوية المخيم” و “الولد الفلسطيني يدعو الى الكلمة التي حذفتها الرقابة” و "لا مرثية الولد الفلسطيني" و "ساعتان من الكهولة على حساب الولد الفلسطيني" و "فلسطين الهوى"، لا تعبر عن اقليمية ضيقة.

وقد أصدر الشاعر مجموعته الاولى "الضواري وعيون الاطفال" (1964) يوم كان عمره ثمانية عشر عاما، وهي مجموعة يصفها بأنها "تتنطع لهموم" أكبر بكثير من الفتى الذي كتبها، وأكبر من وعيه ايضا" وقد ذهب فيها "الى تقليد الشاعر خليل حاوي الى درجة لا تخفى على أي مطلع” وكان يرى في "الغموض لوجه الغموض مسحة من عبقرية" (أ.ك، ص 18). واختلفت عنها مجموعاته اللاحقة، فلقد ارتطم عام 1969 بمشكلة الشاعر والجمهور، وذلك يوم تدفق الناس بالالاف ليتفرجوا ويسمعوا "شعراء الثورة"، ومن يومها اصبح الجمهور هاجسا له (انظر أ. ك، ص 10)، وان عاد، في فترة متأخرة ليكتب عن اعتراض الشاعر "على أشكال التعبير السائدة مما يماليء رغبات الجمهور السطحية" (انظر: الحياة الجديدة، 12/2/1997).

ويلاحظ الدارس لاشعار دحبور ان هناك توازيا طرديا ما بين اشعاره ومسيرة الثورة.. تقوى الثورة اثر هزيمة حزيران 1967 ويشتد عودها، فيكتب الشاعر يوم انطلاقتها في 1/1/1969 قصيدة "حكاية الولد الفلسطيني"، وفيها يتساءل عم سيخسره الفقراء، سوى جوعهم والقيد، حين يقاومون، وينهيها، وهو ممتليء إصرارا على المقاومة. يقول:

"لأن الكف سوف تلاطم المخرز

ولن تعجز

ألا لا يجهلن أحد علينا، بعد، إن الكف لن تعجز ( ص 202)

ومع أن الثورة خسرت مواقعها في عامي 70/1971، نجده يصر على ان زمانه زمان للبطولة، وأن الوصول الى كربلاء ليس معجزة، وكان أن خطا فانهدم الجدار المستحيل، علما بأنه كان مطلوبا على كل الحدود، ويكون دمه ليلا عربيا ممهورا بتواقيع الفقراء، وتظل دربه سالكة من ماء الجدب الى أقصى الطوفان. ويظل هذا الاصرار ماثلا على الرغم من تعرض الثورة، من جديد، لأزمات جديدة. وينهي الشاعر قصيدة "لا مرثية الولد الفلسطيني" التي وردت في ديوان "بغير هذا جئت" (1977) بالمقطع التالي:

"نعرف قبل هذا أن للفرس الفلسطيني همته

وأن عليه أن يتفرس الطرقات:

لا قمصاننا بيض فنرفعها

ولا أعناقنا جفت فنقطعها،

ولكنا نقوم الى بدايات الزمان -

وقبلنا دمنا يعوم على الصهيل:

لو قلت إن يد الفلسطيني مشركة لكفرني الجليل” (ص 454).

وتستمر هذه الروح في قصيدة "كلام الغريب" (1980)، وفيها يقول صاحب انا المتكلم له: أدرك التعب القافلة. وعلى الرغم من ذلك يطلب منه مزيدا من التعب.

وتختلف نغمة قصائد دحبور بعد الخروج من بيروت. إنها تبدو ذات نغمة هادئة. وعلى الرغم من أن الشاعر يشير الى أنه منذ "واحد وعشرون بحرا” (1980) بدأ يلجأ الى التجريب، حتى ليبدو هاجسه، إلا أنني أرى أن انطفاء جذوة المقاومة كان عاملا مهما في ذلك، ودليلي على هذا أنه كتب مع بداية الانتفاضة وإثر عودته الى غزة قصائد تذكر بقصائده ذات النزعة الغنائية. ويجدر هنا الوقوف قليلا امام مقالته "كيف تهدم؟ كيف تبني قصيدة" (الحياة الجديدة 12/2/1997)، ذلك أن جزءا مما ورد فيها يعارض ما ورد في مقدمة أعماله الكاملة، وبخاصة فيما يمس العلاقة مع الجمهور والموضوعات التي يمكن ان يكتب الشاعر فيها.

يرى الشاعر ان لكل شاعر بيئتين؛ عامة تشتمل على منظومات من القيم والاسئلة الثقافية والاجتماعية والسياسية وما الى ذلك، وبيئة ضيقة توجهه وتؤثر فيه بما يشبه التأثير الحزبي الخلوي، وتأثير الثانية يكون الأخطر والأعمق. وهذا ما انعكس لديه، ومن هنا اختلفت قصائده في الثمانينيات، الا اقلها، عن قصائده في السبعينيات. ولم يعد ارضاء الجمهور الذي كان هاجسه يفرض عليه أشكالا تعبيرية سائدة تماليء رغبات الجمهور السطحية.

ولعل دحبورا في مقالته يعفينا من تساؤلات عديدة، فهو ينهيها بقوله: "فأخشى ان يكون جوابي عن هذا السؤال الهام كيف تبني قصيدة؟ هو: كيف تهدم قصيدة ناجحة؟.. لست سعيدا بذلك لكنني احاول، أتعلم وأتألم.. انها مشكلتي اولا وأخيرا.. ولن أتوب"

ولكن ذلك لا يمنع من ابداء بعض الملاحظات فيما يمس شعره، ومنها ان قصائده التي كانت تثير الجماهير، وتلك التي كتبها فيما بعد على شاكلتها، هي قصائده التي نقرأها ونقف عندها لنتمعن فيها، خلافا للقصائد التي كتبها تحت هاجس التجريب. ولربما يعترض دحبور على ذلك، ويقول ان هذه القصائد لن تصمد أمام الزمن، واذا كان لها حتى الان سحر ما، فان سحرها يختلف من قاريء لقاريء، ويبدو تأثيرها على القاريء الفلسطيني مغايرا لتأثيرها على القاريء الاوروبي او القاريء العربي غير المسيس، وقد يضيف ايضا: إن تأثيرها على القاريء الفلسطيني نفسه سيختلف اذا ما اختلفت الظروف. وهذا رأي نقدي يحترم ويؤخذ به، ولكن قصائد الشعر التي صمدت هي تلك التي كان أصحابها يعبرون فيها عن تجربة انسانية او قومية او وطنية تعبيرا حارا، لا تلك القصائد التي كتبت في لحظات هادئة، تحت هاجس التجديد في الشكل.

وليس هناك من شك ان ثمة فارقا بين قصيدة دحبور "مفردات في المكان" (ابداع، نيسان وآيار، 1997، ص 27) وقصيدته "مسافر مقيم” (ابداع، كانون ثان، 1997، ص 19).

ولا أريد هنا أن ادخل في حوار حول طبيعة الشعر، ذلك أن ما يهمني هو الوقوف أمام المضامين ورؤية اصحابها فيها. وسوف اقف امام ثلاث قصائد هي “بنود الطموح” (1985) و “العودة الى شاي الصباح” (1988) و “مسافر مقيم” (1995).

كتب الشاعر "بنود الطموح"، وهو في تونس، ونشرها في مجلة "الكرمل" في العام نفسه (عدد 16)، وهي قصيدة من سبع قصائد، وفيها نصغي اليه يحصي بنود طموحه: أن يشرب الشاي فجرا، وأن يذهب الى كنوزه الدفينة في المدينة، وأن يراسل ايضا من خففت عليه جروحه، ولكي يحقق ذلك فلا بد من انجاز مدينة روحه التي تتكون من وقت وأرض أمينة. وكأنما هناك صوت يستكثر عليه هذا، ولكنه لا يتراجع، فلكي يحصل على الشاي والفجر والدفتر والطوابع لابد من قلاع وعسكر ومدافع، والأهم من هذا كله، لا بد من ان يدافع. (الكرمل، 16، 1985، ص 150)

وليست هذه القصيدة ذات نبرة خطابية. انها قصيدة هادئة، والهم الذي يؤرق الشاعر هو هم فقدان المكان الامين. وثمة قصيدة من القصائد السبع عنوانها "بلادنا" وفيها يتساءل "أليس من حقنا ؟ أليست بلادنا؟"

وكتب "العودة الى شاي الصباح" ليخاطب طفل الحجارة، هذا الذي أعرب، يوم خرج منتفضا، ان ضميرهم في السوق مستتر، ورأى فيه آخره الذي سينبت فيه ثانية، كما أنه - أي الطفل - سينبت في الشاعر. ويذكرنا قوله فيها:

"وقد أعربت يوم خرجت:

أن ضميرهم، في السوق، مستتر" (محمد علي اليوسفي، ابجدية الحجارة، 1993 ط 2، ص 117)

بقوله في قصيدة "العودة الى كربلاء":

"شاهدتهم - عين المخيم في لا تخطي - وكانوا:

تاجرا ومقامرا ومقنعا

كانوا دنانير الدخيل" (أ. ك، ص 259)

والثنائيات هي هي: الثوري والمقامر، صاحب الضمير والتاجر.

وتشعره الانتفاضة بالنشوة، فقد جعلت عودته الى حيفا قريبة جدا، وهو الذي عاش بعد الخروج من بيروت حياة صعبة، لأنه لم يكن يتنقل من مكان الى مكان بسهولة. لقد كان كل شيء يكشفه: الحقائب والملامح، واذا ما ابتسم بحث الاخرون عن القذيفة في ابتسامته، وهنا لا بد من ان يعبس. ولا يرى في ثورته، حين يثور، أنه يشاغب أو يعاتب، انه يلبي الينابيع الدفينة، ولا تعني هذه سوى العودة الى الوطن الذي هو وحده يمنحه الأمان، الأمان الذي لم يحصل عليه من العمومة والاخوة القساة، حتى اذا ما جاء الغزاة أدركته الجنازير وأدركه الشتات. وهكذا يعبر دحبور عن فرحته بالانتفاضة/

"فيا مقلاع

وجهتك الجهات

وما من وردة نصفين، بل هي وردة وردة

ولا سفر

بل العودة

ووحدك تطلق العصفور من حجر

فينفض ريشه الحجر"

أو "ويا شرري ومقلاعي

تعال نركب الدنيا

فسوف يعود، بعد الغيبة، البشر

ولا تبطيء..فها شاي الصباح السخن ينتظر” (اليوسفي، 122).

وليست هذه النغمة نغمة استثنائية في قصائد تلك الفترة (1988)، وقد أشرت الى قصيدة درويش "مأساة النرجس…ملهاة الفضة". ولكن ما يهمنا هنا هو قصائد دحبور بعد عودته الى غزة.

عاد الشاعر الى غزة، وكان واحدا ممن وافقوا على الحل السلمي، وكتب العديد من القصائد، وسوف اتناول واحدة منها هي قصيدة "مسافر مقيم” التي نشرها في مجلة ابداع المصرية، لانها تعكس، بوضوح، مشاعره بعد مجيئه الى غزة ضمن الحل المنجز.

والقصيدة تعبر، بحق، عن خيبة الشاعر من العودة التي تمت. ولا يختلف عنه يخلف في روايته المدروسة. حلم دحبور، كما حلم يحيى، بالعودة الى مسقط رأسهما، وكان الحلم يراودهما، على مدار رحلة النفي والشتات كما راود اللاجئين كلهم، وكانا يأملان -أي دحبور ويخلف- بعودة المقيم، لا عودة الزائر، وبعودة المنتصر لا عودة الضعيف. ولما جاء الأول قال:

“وكيف جئت أحمل الكرمل في قلبي

ولكن كلما دنا بعد ؟

حيفا، اهذي هي؟

أم قرينة تغار من عينيها ؟

لعلها مأخوذة بحسرتي

حسرتها علي أم يا حسرتي عليها ؟

وصلتها ولم اعد اليها

وصلتها ولم أعد اليها

وصلتها ولم أعد…” (ابداع، ص 25)

وليس هناك من شك في أن صوت الشاعر هنا هو صوت معظم العائدين، وما من شك ايضا في انه يعبر عن شعور اللاجئين القديم بالظلم الذي ألم بهم، الظلم الذي اخذوا يشكون في أنه سيزول عنهم يوما ما. ومن هنا دلف الى رسالة الغفران للمعري، واتخذ من حالةالانتظار التي عاشها بعض شخوصه في يوم الحشر مثالا لحالة انتظار اللاجئين. ومن قرأ المعري يتذكر علي بن منصور قبل ان تحل مشكلته. ولئن كان علي دخل الجنة في النهاية، فان اللاجئين الذين ما زالوا يعيشون في المخيمات فقدوا الأمل، ومن هنا كرروا تلك النكتة التي تذهب الى ان مشكلتهم لن تحل حتى في يوم البعث: لقد حوسب الناس جميعا، ودخل من يستحق النار النار كما دخل من يستحق الجنة الجنة، وامتلات هاتان قبل ان تحل مشكلة اللاجئين، ولما جاء دورهم ولم يكن لهم متسع، تقرر ان يعيشوا في الخيام من جديد. "لا أمي تريدني ولا أبي، والشاعر الاعمى يحار بي" هذا ما يقوله الشاعر الذي يقول ايضا: ‏

" كأن الشاعر الأعمى رآني

عند واد غير ذي زرع

وكنت خارج الفردوس والجحيم" (ابداع، 19)

ومن هنا جاء العنوان "مسافر مقيم". فالشاعر مسافر ومقيم، وهو لم يعرف الاستقرار من قبل، ولا يشعر به الان، ولن يشعر به الا اذا عاد الى حيفا. واذا كان الجار، وهو عائد من الحجاز، قد مات دون ان يعود الى حيفاه الخاصة فان الاخرين عادوا الى حيفا هم الخاصة: "كل حي وله حيفاه الا انت دون حيفا". وما كانت حياة دحبور وحياة اهله، يوم خرجوا، الا ضربا من الشقاء - وكان ينبغي الا يخرجوا، ولم يكن شخصيا مسؤولا عن خروجه، فقد كان ابن عامين، وقد رأى أبوه النجاة مخرجا-. ويطالع الشاعر الأعمى صاحب البصيرة الخطوط في كف الشاعر كما يطالع الجريدة، ويقرأ له ايامه القادمة:

“ - تخرج من مكيدة، تدخل في مكيدة

تخب في الدوار والحمى

جحيمك الفقدان

فردوسك الرجوع والأمان

فاهبط الى بداية الخروج

حرر جمرة الذكرى تحرك جبل النسيان" (ابداع، 21).

والعبارة التي تتكرر في القصيدة هي: "جحيمك الفقدان، فردوسك الرجوع والامان"، وهذا ما يعتمل في وجدان دحبور واللاجئين، وهذا ما قالته ام سعد في رواية كنفاني "أم سعد". لقد بدأ جحيم اللاجئين منذ اللجوء، واذا كانت حيفا هي الجنة، كما قالت ام الشاعر له، فان حلم العودة مثل حلم دخول الجنة، وكان درويش ومعين بسيسو قد استعارا مقولة ناظم حكمت ووظفاها في شعريهما: "أدخلوني الى الجنة الضائعة، سأصرخ صرخة ناظم حكمت "آه يا وطني"، هذا ما قاله درويش في قصيدة "النزول من الكرمل" (انظر ديوان أعراس، 1974، ص 30)

وتكمن الفجيعة في أن دحبوراً يكتشف بعد عودته انه وصل ولم يعد، وان الكرمل كلما دنا بعد. "وحيفا هذه ليست مدينة، انها الجنة، ومن لا يصدق فليسأل أمي" (انظر: أ. ك، ص 22). ويسأل امه، وهو طفل: يمه…خذيني الى حيفا" ويأتيه جوابها: "غدا تكبر، يا حبيبي، وتأخذني انت اليها"، وكبر ووصل حيفا، ولكن ليزورها لا ليعود اليها، ولعل امه التي كررت مع الاف اللاجئين: عائدون، لعلها ماتت دون ان ترى اجمل البلاد.

ويعبر الشاعر عن حقيقة مشاعره، وعن خيبته من الحل الذي لم يعد اللاجئين الى ديارهم "كان الجوع في خياله مدينة، ولم تكن حيفا هناك". فهل كانت ام حسين، وهي ام سعد الحقيقية، مخطئة حين قالت قبل موتها، وقد سئلت عن رأيها في (مدريد): "الان اشعر انني خسرت فلسطين، ولن اعود اليها (انظر الاداب 7 و 8/1992، ولم اطلع شخصيا على المقابلة التي اجريت معها، واعتمد هنا على الدراسة التي انجزها الدكتور اشتيفان فيلد ونشرتُها مترجمة في كنعان، عدد 83، 1996).

لقد ورد في قصيدة "كلام الغريب" التي نظمها الشاعر عام 1980:

"قال لي صاحبي: أدرك التعب القافلة

فمزيدا من التعب

ان غربتنا في قطار الدم العربي

تقتضي ان نواصل رحلتنا الشاملة

الطريق معذبة

وفلسطين ليست فلسطين الا اذا طلبت كاملة " (أ. ك، ص 688)

ولا يرمي الشاعر من رواء ذلك الى رمي اليهودى في البحر او طردهم منها، وكل ما يأمله ان يعود الذين هجروا منها اليها حتى تنتهي غربتهم وحتى تزول المشاعر التي تولدت نتيجة حياة المنفى. ولنلاحظ ان نهاية "مسافر مقيم" تختلف عن معظم نهايات قصائد الشاعر: من "لابد من أن ادافع" الى "يا حسرتي عليها!!".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى