محمد البنا - قراءة تحليلية لنص (حمل ثقيل) ل / صديقة علي

عندما يتكلم النص بصرف النظر عمّا أراده مبدعه، فذلك هو الإبداع الصرف النقي، وهو إبداع ينسب لصاحبه شئنا أم أبينا، وخير دليل لما اقوله هو هذا النص الذي بين أيدينا ( حمل ثقيل )، لا يملك عقل القارئ إلا استحضار خلفية البدء..بدء الخليقة والخليفة على الأرض التي نحيا عليها، قصة آدم عليه السلام وأمنا حواء والشجرة المحرمة ومن ثم إبليس مختبئًا في جلد أفعى، ومن عنوانه هذا ومما سنراه بأعيننا وتستوعبه عقولنا، لا يمكننا إلا التنبؤ بمشهدية معاناة زوجة مكافحة من ظلم وتجبر زوج ظالم، ومن متابعتنا لمعظم نصوص الأستاذة المبدعة صديقة صديق علي نستقي ونخلص دون أدنى شك إهتمامها الشديد بقضايا المرأة عمومًا والعربية خاصة، والشامية بخصوصية أدق، وهكذا جرى ظاهر هذا النص في مجراه الطبيعي، ورافده خلفية مشبعة بالإحساس بالظلم، زوجة تحتطب -وما في ذلك من إشارة سيميائية مدلولها تبدل التكليف الوجودي، وقيام المرأة بما هو منوط أصلًا للرجل - بكل من لهذه المهنة من مشقة، وزوج ينتظر ليفرز ويُقيّم ومن ثم يتذمر ويضرب بعصاه..منوال ثابت درج عليه الزوج فتأصلت الكراهية في أعماق الزوجة المقهورة ضد الزوج وضد عصاه، وهنا أيضًا بتجميع الصور المشهدية يكتمل المراد ( الأنثى تشقى وتجلب الرزق، الذكر ينتظر ويقيّم ويتذمر) دون أي ذكر يبرر تقاعسه عن أداء وظيفته الأساسية أو علة تمنطق هذا التقاعس، في إنعكاس كلي وسلبي للوظائف، لذا استدعى المشهد تدخل طرف ثالث ليستقيم المشهد، (شعرت بجسم ناعم يلامس رقبتها) لبيرز النص الطرف الثالث في دور المخلص ( أفعى ) وهو عكسٌ آخر للدور الذي قام به إبليس متمثلًا في أفعى ( غواية بعصيان ومخالفة الأمر الإلهي) فاختارت أن تمضي وظاهر النص يبوح بجلاء مبررات اختيارها المضي، وباطنه يشي ب ربما .. ربما ماذا ؟..ربما هذا الناعم يكون في أنيابه خلاصها من ظلم الظالم، القت أمامه حزمة الحطب وهى تعلم يقينًا أنه سيتفحصها فتلك عادته، وربما تغافله الأفعى بغتة فتقضي عليه، ولكن الرجل ينتبه فيطاردها بعصاه، العصا التي لطالما آذتها، ها هى الآن طوق نجاة لها وله، هذا المتجبر انقذ نفسه وانقذ زوجته من لدغة أفعى، تلك العصا أيضًا، وكأن ( تلك عصاي أتفحص بها حطبي ولي فيها مآرب أخرى) وكأن الرجل رغم تجبره ( حماية أيضًا للزوجة ) وللسخرية تعمد الكاتبة بوعي تام إلى تهريب الأفعى ( نصًا ) لم ؟..وتبتسم لم ؟..لا لشيء إلا عقد نية وإصرار على تكرار المحاولة، فالأفعى لم تمت، إذن ربما عادت ولدغت!...من منهما الأفعى؟..وكلاهما أنثى والعدو المراد التخلص منه ذكر...ومن لم يلحظ أن هذه المرة لم تمتد العصا لعقاب الزوجة، فليلحظ وليقل لي ..لم ؟ فامتنع الضرب وآل إلى نكز بالعصا وتقريع باللسان ( امراة مثلك..ماذا ستجلب لنا سوى الأفاعي ).. وهنا نلمح من طرف خفي إشارة باهتة الملامح إلى انجاب الإناث دون الذكور، وهو موروث شعبي تلام فيه الأنثى، رغم ثبوته علميًا وطبيًا أنه خاص بالذكر حصريًا، ودينيًا بمشيئة الله ( ويهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء ذكورا، ويجعل من يشاء عقيما)، وفي رافد آخر تستوي الجملة التقريعية في تماهي تام بالمثل الشعبي المصري ( ياما جاب الغراب لأمه )، وهو انقلاب رابع يضاف للانقلابات الوظيفية الثلاث السابقة، والتي ابتنى عليها متكاملة ثيمة النص.
عرض سلس كعادتك، مفعم بالتفصيل الموحي كعادتك، تركيز على المرأة المقهورة كعادتك، شجن باكي كعادتك، وما لم يكن كعادتك هذه المرة، هو أن النص أفلت من قبضتك ليبرق إبداعٌ تجاوز إبداعك كمبدعة إلى إبداع النص ذاته بذاته.
محمد البنا..٤ أبريل ٢٠٢١
...............
النص
.....
حمل ثقيل
أدارت ظهرها،قرفصت بتثاقل لتتدبر أمر كومة الحطب الهائلة.
بخطافها الموصول بحبل رفعت الحمل الكبير على ظهرها،نهضت بعزم متكئة على كفها المتشققة.
صعدت السفح بدربه الطويل، تدلّت بعض الأعشاب العالقة بالعيدان، فغبشت رؤية لا تحتاجها، فهي اعتادت الطريق وتحفظ معالمه.
أفتقد الدرب هذا الصباح مواويلها اليومية، في انحدارها المعتاد لقعر الوادي،قد أجهض سلواها في دربها الطويل شقاء الأمس ، وحرارتها المرتفعة، وتوبيخ زوجها المستمر لها،على تأخرها بجلب الحطب كما الإنجاب، السبب الحاضر دوما لتبرير عنفه.
جمعتها صداقة شقيّة مع البريّة، كانت متنفسها وراحة بالها، رغم اقترانها بالجهد المضني .
خطواتها تتباطأ بصعودها الشاق،ووجهها يزداد اقترابا من الأرض، فقد شغلتها برودة ناعمة، تلامس رقبتها الحارة المتعرقة، لا بد أن أحد العيدان قد امتص ماء الوادي، لكن ماذا لو كانت أفعى؟ ...لا.. لايمكن،فلو كانت أفعى، ماالذي منعها عن لدغي، ...عليّ إنزال الحمل والبحث ...لا سيتعذر عليّ رفعه من جديد، قد يتدحرج .. وقد أتدحرج معه.واصلت سيرها وقد هيأت نفسها لشتائم جديدة ، وتحميلها مسؤولية عطب الحطب ،وهي تطرد الاحتمال الأسوأ ..قد أجففه قبل أن ينتبه، وتمنت ألا يقوم بتفتيش الكومة كعادته.
ما أن أطلت على مجلسه.. البساط الممدود وكأس الشاي وأرائك تسند مرفقيه والشمس المتوارية خلف الدالية
حتى سمعت صرخته المتحشرجة:انتصف النهار وأنت كالسلحفاة ..اسرعي قليلا.
لم يعد صراخه يخيفها، ما يخيفها فقط تلك العصا التي يضعها بجانبه.
أسقطت الحمل عن ظهرها، وانسحبت البرودة عن رقبتها، جلست فوق كومة الحطب تمسح عرق جبينها.الراحة من هذا الثقل لها طعم حلو رغم كل المرارت.
ـ هذا هو كله ألم يبق شيء؟
أومأت برأسها أن نعم ..دون أن تنظر في وجهه، وصدرها يعلو ويهبط ..ويداها المتيبستان ترتجفان ..
فزّ بسرعة، يحمل عصاه، وينطلق باتجاهها ...فوجئت به ،يضرب بعنف الأرض بجانب قدميها، وتفلت منه أفعى سوداء تنسل بهدوء وتختفي بين حجارة المصطبة .تبسمت بسرور واضح، وهي تراقب آخر جزء من جلد الأفعى وقد عكست الشمس سواده اللامع.
.
نكزها بعصاه الغليظة غاضبا:

ـ وتتبسمين لها!؟ وتحميلنها من الوادي إلينا ...؟! يابنت الكـ... ..امرأة مثلك ماذا ستجلب لنا سوى الأفاعي.
صديقة علي22/4/2020



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى