عصري فياض - زغرودة أم علي

في قلب حي الحواشين،انزرع بيت أبو علي المنحدر من بلدة إجزم قضاء حيفا،أبو علي وأم علي أنجبا عددا كبيرا من الأبناء الذكور، كان أكبرهم بعد النكبة بسبع سنوات،وأصغرهم بعد النكسة بأربع سنوات، بيت تربى على جلسات الحديث عن الوطن، والشوق للعودة إليه،أبو علي تعود على إرتداء لباس يشابه البزة العسكرية،وأم علي تمسكت بتراث الوطن من زيّ شعبي، يتوسطه زنار، تعتمر كوفية بيضاء،تشد وجع رأسها أحيانا بعصبة لونها خضراء أو بيضاء أو حمراء، أو سوداء وكأنها تماهي علم فلسطين،وتتناغم مع إحساس أبو علي الدفاق في الاستعداد الدائم للمواجهة الطريق الأوحد لتحقيق حلم العودة...
*
كانت بداية شهر نيسان من العام 2002 مختلفة في مخيم جنين عن باقي الأماكن في فلسطين والكرة الأرضية، هنا استعدادات لمواجهة الموت، لصنع التاريخ، المخيم من طرف عباءته إلى طرف عباءته يضج بالانتظار،مصمم على قبول التحدي الذي صنع بدايته،يريد أن يكمل الرسالة حتى النهاية مهما كان الثمن، هذه الأجواء كانت في كل حواري المخيم وخصوصا القلب منه حي الحواشين المحمي بأحياء أخرى،اشتعلت المواجه بعد تقدم الدبابات،وتغطية طائرات الاباشي الستة سماء المخيم، وانتشار وحدات المشاة والاقتحام،المقاتلون انتشروا في كل زقاق وحيّ، وأخذوا لأنفسهم أماكن محدده،خرج فارس أصغر أبناء أم علي،وحط في مكمن قريب من البيت،مكمن متقدم مع بعض رفاق السلاح، تقدمت وحدات المشاة والفرق الخاصة العسكرية،فحاصرت الزاوية التي يستحكم فيها فارس، وبدأت تمطرها بوابل من رصاص القنص،غطى فارس رفاقه ليلوذوا إلى مكان آخر، ثم صاح فارس الذي كان وحيدا يرد الرصاص...:- أنا محاصر ...أريد التغطية حتى أنتقل إلى مكان أكثر أمانا
أم علي والدة فارس التي تقف على ناصية البيت تُعلى الزغاريد التي يقطع لحنها رصاص المواجهات، إنتخت لابنها ولباقي المقاتلين،وأبو علي يتفقد الجرحى، صاح أبو علي في إبنه أحمد بصوت النخوة وقال :- ولك يا أحمد أخوك يابا !!
خرج ولدها الثاني أحمد لإنقاذ شقيقه المحاصر.. لحظات عصيبة، لحق به بعض المقاتلين،صعدوا الشرفات رغم المخاطر،شرعوا بإطلاق النار اتجاه الوحدة المتقدمة ...إنكفأت للخلف قليلا، عندها زال الخطر عن فارس،وخرج سالما من مكمنه القاتل.. نجح أحمد ورفاقه في تخليص فارس، وإنتقل لمكان آخر،فتقدم جنود الاحتلال من جديد ،فحوصر فارس مرة ثانية ، وأعاد شقيقه أحمد الكرة عليهم، وأنقذ فارس من الحصار من جديد،لكن الطائرات صبت حممها على ذلك الحي...
*
هظول شباب فلسطين مية عمية ....حاربوا بناموس لا تحاربوا بذلية
ريت كل من دعت عليكم مشحرة ......تبقى من قاع الدست مطليــة
هظول شباب فلسطين الله يسلمكموا .... لابسين الخواتم بخناصركـــوا
سألت رب السما من فوق ينصركموا....نصر عزيزة ما بيخلف خواطركوا
بهذه الصليات من الزغاريد كانت أم علي تحث المقاتلين على المواجهة،مر أبو جندل، فقالت، ومر آخرون فصدحت، ومع إشتداد المعركة، كانت زغاريدها تثير الحماسة، فيخرج المقاتلون من الأزقة يكبرون،كانت تكبيراتهم تثير العزيمة، وترفع المعنويات ،...عدد منهم خرجوا يحملون جريحا أصيب لتوه برصاصة في ظهره، كان شابا وسيما، حسن الوجه، جميل الملابس أنيق،جاء من أحد أحياء مدينة جنين القريبة يحمل قطعة سلاح صغيرة مصنعة ليدافع فيها عن المخيم،المجموعة التي كانت تحمله حائرة أين تذهب به، ناداهم أبو علي قائلا: أحضروه هنا... يقصد إلى بيته..فأدخلوه المكان الذي سيرتقي منه إلى السماء..
*
في إحدى غرف بيت أبو علي الصغير،لا زال الجريح جابر مسجا يتألم، وأبو علي لا يغادره، ويقوم بسد جرحه بالشاش والقطن وما تيسر من مسكنات، ويرشه ببعض المطهرات، كان طلب جابر المتواصل هو شرب الماء، كان أبو علي يضع له رشفة ماء في يده ويقدمها له بروية ويقول له لا استطيع أن أسقيك الماء وأنت جريح، هذا فقط لتبتل شفتيك...
يومان على هذا الحال تحت وطئة اشتداد المعركة،في اليوم الثالث تدهورت حالة جابر،ألم وتوجع وانين لا يتوقف، مشهد بكت له عيون عشرات النسوة والأطفال ممكن ازدحموا في بيت أبو علي، حتى رأى أبو علي في عيني جابرا رجاء حار بحاجة شفتيه اليابستين للماء.. مليء أبو علي كفة يده... وقدمها لجابر، فرفع رأسه يستقبل الماء، وكأنه يسبق يد أبو علي التي تتهادى إلى شفتيه.. أمسك يد أبو علي بأسنانه.. عضها.. وشد عليها حتى كاد أن يوغر أسنانه بها..وأسلم الروح، فبكبى أبو علي بكاء شديدا ،وبكى معه من في البيت، في هذه اللحظة عادت أم علي من بيت أحد الجيران.. سألت ماذا هناك؟؟
قال أبو علي: لقد قضى جابر... زغردت ثانية ام علي، وحلت زنارها من على وسطها وغطت به جسد جابر،وتقدم أبو علي بغطاء من الصوف ووضعه عليه.
*
حضر شهيد آخر، نضال.. فوضع أيضا في البيت، وإرتقى ثالث خلف البيت، وبدأت الجرافات العملاقة تنهش البيوت، لا بد من المغادرة ،وإلا هدمت البيوت فوق رأس ساكنيها، خرج أبو علي وأم علي في رحلة لجوء جديد،وحطت بهم أقدامهم المنهكة في بيت أحد المعارف، ليعودوا بعد أيام إلى البيت الذي كان وقد سوي بالأرض،إلا من عمود لازال قائم،إرتفعت عليه قطع من قماش ملابس تعود للعائلة ،عرفت أم علي مكان بيتها من تلك الملابس،تقدم أحمد إبنهم يبحث عن مكان جثة جابر بعد أن حضرت شقيقته التي تبحث عنه،حضرت الجرافة الصغيرة، قال أحمد إحفر هنا... هنا تركناه..
بدأت الجرافة بإزاحة الردم... سرعان من إنكشف طرف الغطاء الصوفي " الحرام" فصاح احمد : توقف... هذا غطاء جابر ... أزيحوا عنه التراب باليد ألان...
فقام من تواجد بالمكان بمساعدة شقيقته بإزاحة التراب والحجارة لنكشف وجه جابر المتلألئ نورا بعد ثلاثة أيام الهدم،فحملوه... وإنساب من على جسده تراب الردم على رؤوس الناس، نظر أبو علي لوجهه المنير،فوجد شفتيه قد سكنت عليها إبتسامة كانت وداعه الأخير للحياة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى