صديقة علي - الورد.. قصة قصيرة

*(وسلالٌ منَ الورِد،
ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقه
وعلى كلِّ باقةٍ
اسمُ حامِلِها في بِطاقه
***
تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلهْ
أنَّ أَعيُنَها اتَّسَعَتْ - دهشةً -
لحظةَ القَطْف،
لحظةَ القَصْف،
لحظة إعدامها في الخميلهْ!)
باقة وردٍ دون رائحة، أرمقها في غرفةٍ بيضاءَ وأنا على سريرِ المشفى، ونظراتٍ مشفقةٍ من ابن شقيقي تلسعُ روحي. أسلِّي نفسي عن تململهِ، فهو يتناوبَ مع بقيةِ الأحفادِ على رعايتي.
مرَّ العمر ُدون أن أُهدى وردةً، لا وقتَ لديَّ للحبِّ، أجبرني مرضُ والدي بالتَّبتلِ، وأقنَعني جميعُ من حولي بأنَّني ملاكٌ نذرَت نفسها لخدمةِ والديها على التَّتالي، مَرَّ الحبُّ من تحتِ نافذتي، أسند ُمرفقي إليها وتسندُ راحتي المتعبةَ رأسي، كنتُ أتابعُ وردةً حمراءَ تُهدى على ناصيةِ الشارعِ، وكنتُ استمعُ لهمساتِ العشَّاق تتصاعدُ إلى شرفتي، كان هذا العالمُ بعيدًا حتى عن أحلامِي، ماتت أُمي وهي توصِيني:"اتركي الكتبَ واخْرجِي للنور، فالعريسُ لا يخرجُ من دفتيِّ كتابٍ "
أمِّي تعزيِّ دمارَ الكونِ كلَّه لقراءاتي وتنسَى انشِغالي بها وبوالدي.
وماتَ أبي وهو قلقٌ عليّ من وحدةٍ تركَها تنهَشني لأستيقظَ فجأةً أمامَ المرآةِ، على خطوطِ الزَّمنِ السَّاخرةِ من عينيَّ الدَّامعَتَين.
باقةُ وردٍ تأْخذنِي إليهِ:
إعصار ٌبحريٌ ضربَ سفينةَ حياتي، هزَّها، خلخلَها، وتركَها لنسائمَ بحريةٍ لطيفةٍ يداعبُها الموجُ.
قال لي بأنَّ الحبَّ قد عَمي عن خطوطِ الزمنِ، اهتمامُه اليومي بوحدَتي جعلَني أتفقدُ ما لم تشوِّهه الأيامُ بِي، فعثَرَت على روحي العطْشى، أكَّد لي بأنَّ حرارةَ المشاعرِ تصهرُ المسافاتِ، ذهلتُ باستسلامي لكلماتهِ الآسرةِ.
صرتُ طفلةً تحتاجُ حليبَها اليوميَّ من هاتِفها النَّقال الذكِّي، صرتُ مراهقةً تتلمسُ أولَ قبلةٍ على شفتيِها، صرتُ أمًا حنونًا تقلقُ لغيابِ ولدِها، علَّمني الخوفَ عليهِ من مخاطرِ مهنتهِ في البحاِر، أصبحتُ اتتبعُ نشراتِ الطَّقس في بلدانٍ يبحرُ فيها بلدان لم اسمع بها من قبل.
كيفَ لا، وهو الذي أهداني بحارًا من الأملِ، وأحياني بأشعارٍ ووردٍ، يذهُلني بوصولِها الى عِنواني، يقولُ لي ثبّْتي كاميرةَ هاتفكِ على البابِ، واهرعي إليهِ، سيدقُّ بعدَ قليلٍ وكنتُ قد تحولتُ لفراشةٍ أطير ُ، يريدُني أن أفتح البابَ لتلفحَ دهشَتي وأختنق بشهقتي أمامَ باقةِ وردٍ كبيرةٍ، ورد جوريٍ دمشقيٍ، أضُّمها وأدور ببيت خالٍ إلَا من ذكرِه، نظراتِه تتابعُ نشوتِي عبرَ الشاشةِ المشعَّةِ بحبهِ.
أسحبُ البطاقةَ كتبَ:"لامرأة من نورٍ تعبرُ إليَّ بحنانِها فتذيبُ صقيعَ العمرِ،"
وماذا أريدُ إلا شخصًا أهتمُّ به؟ أرعاهُ أغدقُ عليهِ كلَّ ما قرأتهُ من قصصِ الحبَّ.
يكلَّمني من وراءِ زجاجٍ باردٍ فيغرقُني بطوفانِ المحبةِ النَّابعة من عينيهِ يسألُني عنْ أبسط تفاصيلِ حياتي فيعطيْ لكلِّ تفصيلٍ قدسيةً.
أخبرتُه يومًا أنَّني عملتُ بنصيحتهِ وأقلعتُ عن التدخينِ؛ فأخذَ يكافئُني بحبة شوكولا لم أذقْ أشهى مِنها من قبلْ، يرسَلُها إليّ بتوقيتٍ أسبوعيٍ منتظمٍ.
أشرحْ لهُ عن عاداتِ الشرقِ فأكتشفُ فيه ثقافةً عابرةً للقارَّاتِ، أقرأُ له أشعاراً، فإذا بي أجدهُ يعلمُ كلَّ شيءٍ عن شعرائِنا، هو حالةٌ من الجنونِ والمعرفةِ، ربانٌ بارعٌ يديرُ دفَّة حياتي وفكريْ ومشاعِري فتبحرُ كلُّ مراكبي إليه.
مضَت أيامي اعتزلتُ من اعتزَلني، لا وقتَ لديَّ إلَّا لحروفهِ، وللترجمةِ الفوريةِ، ولتعلُّم لغتهِ، كنتُ أغبط نفسي أمازالَ في العمرِ بقيةٌ للتعلُّمِ، ولسماعِ بيتهوفن وباخ وشبنهاور؟
وكان َيطربُ لسماعِ صباح فخري وفيروز وكنتُ أطربُ لسماعِ صباحِ الخيرِ.
أجملُ صباحِ الخيرِ باللغةِ العربيةِ سمعتها في حياتي كانت تنساب من شفتيه بعذوبة. مع كلِّ شمس ٍ يأتيني صوتهُ ليعيدني الى الحياةِ من جديدٍ. علَّمني كيف تصيرُ الحروفُ أناملَ تلامسُ الاشتهاء، َ وكيف للهمسِ أنْ يسري في شراييني فأنتشي بهِ. يرافقني عبر َهاتفي إلى المطبخِ، صارَ يردد ُبالعربيةِ (كبة مقلية) و(كبابٌ) و(كنافة)، كلُّها صارَت من قاموسِهِ يقولُ لي: "متى ستطبخينَ لي وحدِي؟" أكادُ أجنَّ وأنا أتخيلهُ يجلسُ إلى مائِدتِي، يتذوقُ طَعامي وشفتيَّ، يرافِقني إلى شُرفتي، يسقي ورودي وشجيراتِ الحبقِ مَعي.
كنتُ اسألهُ عن نساءِ الكونِ اللواتي تركَهنَّ ليتعلقَّ بي، فيقولُ:"إنني أجملَهنَّ روحًا وحنانًا.
لطالما كنتُ أفخرُ بنقائِي من الحب ِّ حتَّى تجاوزتُ مراهقَتي، أشغلُ نفسي بالقراءةِ ، أعيشُ قصصَ الحبِّ معَ أبطالِ الرِّوايات. وهاهو بطلي قادمٌ بجرارٍ من العسلِ، أشكُّ أحيانًا بقطراتِ العسل ِ التي تنسابُ من حروفهِ، لكنَّ حلاوتَها تمحُو مرارةَ أيَّامي فتغرِيني على تذوّقها أكثرَ وأكثرَ.
آخرُ باقةٍ وردٍ وصلتْ منهُ كانت بعد َكلِّ هذه المتعةِ والألقِ، وذاتَ صباحٍ فقدتُه، فجأةً بدأت أبحث عنهُ، لا جديد َعلى حسابهِ أرسلتُ له رسائلَ الشوقِ اليوميةِ محملةً بدموعٍ تضاهي محيطاتٍ يَمخرُ عبَابها، فراغٌ يوميٌ منه كشفَ لي كمْ أنا مدمنةٌ عليهِ، كم أحتاجُه، كيفَ رمَاني بصحراءٍ قاحلةٍ، أتلظَّى شوقًا، أذبلُ يومًا بعدَ يومٍ، والوردُ يذبلُ فيجفُّ، أعلِّقهُ على محملِ الصَّبر، صار عالمي مقتصراً على حياة التمسها من هاتفي البارد، الذي لا يتجاوز حجم الكف والذي لا يفارق قلبي، أنام وأصحو على انتظار ضوءَه الأخضرَ كي يعيدَ لعينيَّ نورَهُما، كي يعيدَ توازني، فالأرضُ تميدُ بِحيرتي، بقلقي، بقاربَ قحط يعود مرة أخرى .
ثلاثين يومًا مرَّ، وهو يتجاهلُ رسائلي، كدتُ أن أفقدَ الأملَ بعودتِه، وما أنْ لمحتُ ضوءَه الأخضر َحتى أزهرَ عمري من جديد، وفاحَ عطرُ وجودهِ، فصرتُ أبكي فرحَتي، ومن دونَ أن يقدِّمَ مبرراتٍ لغيابِه قال َ:
-سنتزوج ُ …..
الكونُ كلُّه لا يتسعُ لبهجتي، باشرنا بترتيباتِ الزواجِ، كان أوَّلها حذفُ التَّجاعيدِ، وشدُّ الجفونِ المتهدلةِ، صارت المرآة رفيقتي وصرتُ أجملَ، وبريقُ عينيَّ يشعُّ بالتجدُّدِ والخَلْقِ، كنتُ كفراشةٍ زاهيةِ الألوانِ أحلِّقُ وسطَ لومِ اللائمينَ، الذين حسدونِي على فرحَتي، فصاروا يطلقونَ النَّار عليها، وأخذت مقصَّاتهم تستطيلُ للنيل ِمن أجنحتي، لكنَّ حبَّهُ علَّمني أنْ أثورَ، أنْ أتخلَّصَ من استكانَة لازمتني ، فمضيتُ قدُمًا باتجاهِ عمرٍ جديدٍ وُهب لي، كهديةٍ من السماءِ ِ.
تخلَّصت من ثقلِ ريشي، وعدتُ كصقرٍ نبتَ منقارُه وريشُه من جديدٍ، فمُنحَ سنواتٍ أخرى للطيرانِ. لم أكترث لتحذيراتِهم الجَّبانةِ، فحبُّه أكسبَني شجاعةً لا يدركونَها.
إلى أن تعثَّرَت الترجمةُ، فذهولي ممَّا كتبه جعلَني لأوِّلِ مرةٍ أشكُّ بدقةِ التَّرجمةِ، طلبُه كانَ يصعبُ تصديقُه، ولا سيَّما ونحن ُفي حربٍ قاسيةٍ، كنتُ قد شرحْتُ له كمْ أفقرَتنا تلكَ الحربُ ومع ذلكَ، طرقتُ بابَ كل من يستطيعُ مساعدَتي كي لا أخذُلَه، كانَ عليَّ إرسالُ عشرةِ آلافِ دولار ٍلحسابهِ وإلَّا سيسجنُ، ولمَّا قدَّمتُ مبرراتِي، طلبَ منِّي أنْ أبيعَ البيتَ الذي لنْ احتاجَهُ بعدَ اليومِ، وما حاجَتي لبيت ٍوبانتظاري مرافئُ العالمِ وشوقُه؟ ما حاجَتي لبيتٍ كانَت جدرانُه شواهدَ قبورٍ؟
عملتُ بنصيحتهِ فعرضتُ البيتَ للبيعِ، كلُّ منْ حوليّ استغربَ غيابَ عقلي، ووضعَ لي فرضيةً وحيدةً، ماذا لو كانَ نصَّابًا؟ عقَدَ إخوتِي اجتماعًا حولَ طاولِتي، كانَ محورُ الجلسةِ ثنيي عن بيعِ البيتِ، وكنت أراقِبهم بابتسامةٍ ساخرةٍ، وأتساءلُ أتأتونُ الآنَ ولديكم كلُّ ذلكَ الوقتٌ الكافي لاستجوابي؟ أين كنتمْ بعد وفاةِ والدي؟
أفردُ لهمْ أوراقَ استقدَامِي التي أرسلَها إليّ لأكذِّبَ ظنونَهم.
تعثَّرت البيعةُ، ما تركتُ سبيلًا لمساعدته إلِّا وسرتُ فيه، فاستدنتُ بذلٍّ لم أعتده ، فاقتصرالمبلغُ المحوَّل لحسابهِ على الألفِ دولار ..استلمَها ثمَّ كتبَ لي :
"كنت ِحكيمةً جدًا، كلَّفني ترويضكِ وقتًا طويلًا، أنتِ مدينةٌ لي بثمنِ الوردِ والشوكولا،سأعتبرُ الباقي ثمنًا بخسًا للحلمِ".
استفقتُ من الصدمة ِوالحلمِ على رائحة العقاقير الطبية وغاب عطر الورد.
رفعت ُرأسي بثقلِ الذِّكرى التي تتوسدُهُ، وتابعت استراحَتي مِنها بتأملِ الورد والقصائدِ:
"* كلُّ باقة..
بينَ إغماءةٍ وإفاقهْ
تتنفسُ مِثلِىَ -بالكادِ - ثانيةً.. ثانيهْ
وعلى صدرِها حمَلتْ -راضيهْ...
اسمَ قاتِلها في بطاقهْ!"
سألتُ ابن شقيقي:
-من أرسلَ الوردَ؟
اقتربَ مِنها بهدوءٍ، رفعَ البطاقةَ الى النُّور، قرأَ بهمسٍ:
-من مجهول...
*الأبيات للشاعرالكبير أمل دنقل

صديقة علي – سوريا




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى