عبد الجبار الحمدي - العقدة وصاحب الطامورة

عندما تجتاحك القوة من الله لا يكابدك الوهن والألم... هي عبارة طالما رددها صاحب تلك العقدة التي قضيت اكثر من نصف عمري وأنا احاول فك طلاسمها دون نتيجة... كنا أربع أشخاص لم نعرف بعضنا من قبل.. شُدَ وثاقنا بحبل من مسد نراه لا يبرح مكانه بعد ان أخرج لنا نتؤات نمت على جلود كواحلنا تلك التي مارسنا ضدها حالة ما حك ظهرك مثل ظفرك... لكننا ولغبائنا بل لفقدان ذاكرتنا نسينا اننا بلا اظافر وصار هو يحك مكانه حتى جعله ملجأ لكل التقيحات والجراحات التي لا يسعفها مراهم السجون كلها، كانت فكرة من احدنا الذي قبل ان يفارق الحياة بأن يسوقها إلينا، الحقيقة كنا نترحم عليه فهو الذي امتلك اللحظة التي جعلته ينطق بها قبل أيام من رحيله عن عالم النصف متر الذي كان يرتبط به وبنا، إنها المسافة بين بعضنا البعض، نلتقي رغم أنوفنا نسمع بعضنا انين و وجع، تغوط واطلاق ريح، جميعنا نشترك في أذن وعين وأنف واحد ما عدا اللسان فكل لنا حال لسانه وإن صار أخرسا من كثرة أجب وإلا؟؟ صارت اللطمة شبه علاج لقفا نمت براعم فيه تئن، لا يسكن أنينها إلا بلطمة، كذلك سائر الجسد الذي تسري الحمى تطبيقا للحديث الذي يقول إذا اشتكى عضو... ، ههههههههه مهزلة نعيشها في حياة ذؤابات رؤس رماح صارت خوازيق لفتحات است من ينطق بالحق بينما كانت تصول وتجول في سوح الفتوحات، الحق إننا لا نعيش في حالة من الوعي، إنه الجهل الذي يقودنا نحو الظلام، فمن يعتاش بيننا غير الغربان... أما صناعة القيود فتلك لها سوابق كان صاحب الطامور قد اذابت رقبته ومعصمية وقدميه، تقرح لحم جلده الطاهر من كثرة اكل الحديد، واُقسم اكاد اسمع الحديد يبكي ويعتذر، لكننا لا ندرك وكنت اشكر الله ان قيودنا من حبال وليست حديد وإلا أكل عظامنا قبل لحمنا... قطعة من بقايا اسمال نرتديها كنا قد أزلناها من جسد من فارقنا وجعلناها عازل بين عقدة الحبل وجلد اقدامنا... كانت العقدة في بعض الأحيان تضج مضجع صاحبي الذي يبكي ليل نهار حتى أنها صارت أشد رخاوة عن بقية العقد، الواقع إستغربنا!!! وتسألت ظنوننا في آذان بعضنا البعض خوف سماع العقدة قولنا فقال: لا ادري!؟ فجأة وجدتها قد أرخت من شدتها.. صمتنا وقلنا لنصبر في اليوم التالي والذي يليه وقد ضاع اهو الخميس ام الأحد؟ نهار ام ليل؟! شعرنا به يتحرك وصار يمد رجله الى تلك المسافة الخالية التي اُورثناها من كان يتوسدها.. وبعد وهلة من زمن تداركنا أن بكاء وأنين صاحبنا هو من جعلها تحن عليه وترخي من قبضتها عليه، تلك التي اوصاها السجان ان تؤديه كعمل لها... شرعنا في البكاء والانين وصبرنا يوم، أثنان وثلاث ... كانت الاستجابة عقيمة فالعقد التي بأرجلنا ليس لها قلب كما تلك العقدة.. فصاحب الحكمة مات والذي صار يردده صاحبنا هذا في كل ليلة ( عندما تجتاحك القوة من الله لا يكابدك الوهن والألم )، لكن عن اي قوة يتحدث؟ وهو الذي يبكي ويئن طوال يومه، قفى بنا اليأس ونحن لا ننفك نلف قطع لباس بالية أسفل تلك العقد الكبيرة... كانها انشوطة منصة إعدام ما ان تمسك بالرقبة حتى تفصم عنقها الشوكي عن باقي الجسم... أظن عقدنا كذلك!! تريد ان تحز أعقابنا حتى نرغب بقطعها... عذاب مستجد يُستحدث على فئران السجون مثلنا... في يوم لا ادري اهو نهار ام ليل في ساعة فاقدة الوعي أظنها ونحن نأكل كسار الخبز العفن الذي يقدمونه لنا كوجبة دسمة في يوم احتفالهم بنهاية اسبوع... نحن نطحنه نشاهد صعوبة طحنها بأسنان أصابها التسوس، صارت لا ترغب في طحن تلك الكسرة لشدة عفونتها وقساوتها فعفت عنها.. صرنا نكابد توفير لعاب كي نمضغها ونبلعها دون استخدام رحينا أو قواطعنا والاضراس... برقت فكرة مجنونة لصاحبي فقال: ما رأيكم لو استطعنا ان نجعل حروف الخبز القاسي تعمل في الحبل علها تقطعه، فهي من القسوة ما يحطم اضراسنا فلم لا نحاول مع العقدة؟ كانت تلك العقدة التي تراخت قد سمعت حوارهما فأوحت الى صاحبها أنها فكرة عقيمة لكن لا بأس فيها... ولكن ألا يداخلكم الظن اهو حلال ام حرام؟
لم يكترثا صاحبا العقدتين لذلك وشرعا بالعمل في حك العُقد بقاسي حروف الخبز، ساعات مضت كررا العمل لمدة اكثر من شهرين يجمعان حروف الخبز اليابس من كل اسبوع ثم يدفعان به الى حك تلك العقد التي جعلت من استغرابهم الدهشة والصراخ لقد نجحنا هاهي العقد قد تراخت، يبدو اننا قطعنا فيها شوطا من حزيز... لعلنا لا نراه لكننا نتحسسه... كانت لحظة رائعة بالنسبة لهم قادتهم الى تحرك اقدامهم وهزو وسطها كأنها تتراقص، ضحكوا طويلا كانت تلك اللحظة بعيدة عن صفحات السجن والزنزانة... هوس الحرية الذي شعروا به كان كافيا لأن يصنع بداخلهم قوة عجيبة مثابرتهم وتكبدهم الجوع هو من ساهم وبشكل كبير على اجتياز الألم الوقتي لكن الوجع الاكبر لا زال.. شعر السجان بأن هناك شيء ما قد تغير بهم، باتوا ليسوا الذين يعهدهم، يتلقون الشتم والذم والضرب كأنه غداء جسدي اعتادوا عليه... مارس السجان وثلة معه سحلهم من ارجلهم في ممرات خشنة وآسنة لكنهم لم يبدوا كما كانوا يفعلون من قبل... الصراخ والترجي والالم صار بعيدا، لم يتوصل السجان الى حقيقتهم، شعر بالحقد والألم كأن الوجع تحول إليه، فتحول الى شيطان زاد في الكيل لهم ابتكر طريقة لم يعهدوها لكنهم تكابروا على ألمهم وهم يمسكون بتلابيب تلك العبارة يعضون عليها كأنها حبة مسكن او مهديء لأوجاعهم..
لم يعي انهم قد عبروا الألم جاوزوه فألم الجسد يمكن تركه خلف باب الجلاد، لكن الروح والنفس متى ما تعايشا معا قلا يمكن لمخلب او فك مفترس ان يغير من قوة الإيمان... تلك صفة لم يشعر بها من تحيون وصار بطانة لنعل حاكم او سلطان.. كل الذي استطاع ان يقوم به بعد ان رأى فشله هو ان يغير عقد الحبل الكبيرة الى أصفاد حديدية اكثر قسوة واكثر ضيقا من الحبل... في ذلك اليوم سمعهم يتضاحكون فيما بينهم ويهنؤون أنفسهم بنيل الأمل في النجاة من الحياة بعد ان تذكروا صاحب الطامورة.
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى