- رسالتان من مارسيل بروست إلى أمه

الأحد الساعة الخامسة
8شتنبر 1901

عزيزتي الصغيرة أمي :

ليس أني لا أفكر فيكِ هو الذي يفسر قلة رسائلي إليكِ،أو لما أكون بصدد الكتابة إليكِ لا أعتز باللحظات التي قضيتها وحدي معكِ.لكن لأني أكابد باستمرار أزمتي النفسية،أفضل البوح بشكاوي إلى مُؤتَمنين أكثر لامبالاة.آنيا،أنا في أفضل حالاتي.انتهيت منذ قليل من تناول وجبة الغذاء التي أعتبرها لحظتي العذبة.لكن سرعان ما أعقبها نزوع طفيف نحو الشعور بالاختناق،إلا أنه اليوم على العكس،ابتدأ هذا الإحساس ثم توارى. أبرقت لكِ من مقاطعة "أميانز"،حيث توقفت هناك لتناول الغذاء لكن في واقع الأمر كنت قد ذهبت برفقة ياتمان إلى''أبدوفيل '' ويريد أن يكمل غاية مدينة ''بولون- بيانكور''وعوض تناوله هناك وجبة الغذاء مع زوجته مثلما كان مقررا، سيقضي بلطف شديد الظهيرة معي حتى الساعة الخامسة ثم أخذ القطار ثانية إلى "بولون'' . رجعت وحيدا إلى ''أبدوفيل''،اشتغلت قليلا أمام الكنيسة.على الساعة السادسة ونصف سافرت مرة أخرى بالقطار إلى ''أميانز''وتناولت وجبة العشاء في مطعم المحطة. لما علمت أن قطارا سريعا،سيمر على الساعة التاسعة ليلا من محطة تسمى ''لونغو''مجاورة لأميانز استقلت قطار الساعة الثامنة والنصف للوصول إليها كي أدرك السريع المتوجه صوب باريس التي وصلتها على الساعة العاشرة ونصف بدل منتصف الليل.استقبلتني تلك المحطة المنكوبة لشرق تروكاديرو(لاحظتِ بأن الورقة التي كتبت لك فيها كانت ملطخة، أعتذر).الجزء الأول من هذه الرحلة الاستكشافية لم يكن مطاقا فقد عانيت وقتها بشدة.لكن قسمها الثاني،اتسم على العكس بروعة مفرطة بحيث لم أشعر بألم مؤرق،ثم سعدت وأنا أكتشف من حولي أجواء الصيف في بداياتها.فقط منذئذ،لم أنعم بليلة هادئة تسعفني على محو هذا التعب، النتيجة لم أعد آمل كثيرا كي أكون صاحب صورة جسد وافر النعمة(مثلما) أتطلع جدا كي أظهرها لكِ،ثم الحلم بالليل الذي أخلد فيه للنوم كأني تلقيت رصاصة.مع ذلك، الأكثر أهمية ويبهج قلبي أن ليلكِ ينقضي بسرعة. صحيح لم تخبريني بأي شيء،لكن ممارستكِ للمشي عند الساعة العاشرة فاجأني وأسعدني.إلى حد هنا،أخبارك جد فضفاضة، لكني خمنت أنكِ تمارسين المشي لمدة نصف ساعة بجوار الفندق.يعتبر ديك Dickحقا قيمة أخلاقية وذهنية وكذا جسدية.لقد تلقيت منه شيكا بمبلغ 400فرنك،وقت ذهابي إلى ''أميانز''وعلى الفور أشعرت أبي بالتسليم.في هذا الإطار أسرد لك بعض التفاصيل. تجنبا لأي طارئ مع أن مبلغا من النقود بقي معي غاية يوم الخميس (ظل حسابي مغلقا خلال الأسابيع الثلاثة) وكما أخطرت ''ناتان'' سابقا فقد طلبت منه يوم الثلاثاء 100 فرنك وأرجعت إلى "أرثر"100فرنك كما قلت لي وبقيت في حوزتي 200 فرنك. لكن مصاريف قضاء يوم في أميانز-أبيفيل،بما في ذلك تكلفة استضافة يتمان إلى وجبة الفطور. أما وجبة عشائي فقد كلفتني0-7 ولازلت مدينا لأرثر بتذاكر المسرح إلخ(أشير هنا إلى مسرحية عن البطل ويليام تيل.أظنني تحدثت لك عن هذا).تقريبا ثلاثون فرنكا،ثم مع مصاريف هذه الأيام لم يبق في محفظتي سوى150فرنكا.

هل أخبرتك أن السيد بوريل أتى للالتقاء بأبي.في كل الأحوال،لا أعتقد ذلك(أيضا غالبا لم أكتب لكِ بأن صيدليا اسمه بوشير راسل أبي متحسرا على غيابه مادام كان عليه القدوم كي يعبر له عن شكره لكونه بدل ما في وسعه داعما له حتى يصبح مندوبا لا أعرف عن أي هيأة للمساعدة العمومية).ليست لدي حبوب روش منذ الأربعاء ولا أرى خارجا أي سيارة رابضة.صبيحة اليوم الذي قضيته في أميانز،احتاج جيلون زهاء ساعة وربع كي يعثر لي على علبة واحدة،لا ألومه أبدا،فهو غير محيط بالأمور.لقد تزامن انعدام الدواء مع توقف للشعور بالاكتئاب،بحيث عجزت على تبين علة ذلك في خضم أسباب واضحة وأخرى متأتية عن طريق الصدفة. حاليا عاودتني الأزمة النفسية، ربما جراء تعب رحلة أميانز الذي بلغ منتهاه وكذا الليالي المضجرة،ثم عدم البقاء طويلا على السرير إلخ إلخ(كي أحافظ على تناول وجبات الغذاء، وإن خلال أوقات متأخرة نتيجة سوء أحوال نومي فقد أجبرت كثيرا على تقليص ساعات بقائي ممددا على السرير).أخبري روبير أنه لأسباب عدة (أتجنب أن أتعب بالكتابة كثيرا)أتساءل مع نفسي إن كان مرض الربو لدي مصدره حشرات الفراش،بالتالي ألا يحتم علي الأمر، محاولة أي شيء مهما حدث.لقد نصح بريسو في كتابه، بالتنظيف بواسطة الزئبق، بيد أني أتجنب المبادرة بمفردي إلى صنيع من هذا القبيل.لكن إذا رأى روبير إمكانية الاختيار بين كالوميل ثم التطهير بماء ممزوج بالغليسيرين وفي هذه الحالة فليرسل إلي برقية.أما إذا تبين له انتفاء أي حظ كون مرضي مرده إلى وجود حشرات الفراش فلا يبرق(معذرة على عدم اللياقة).لا أقدر على الإسهاب في الكتابة تجنبا لارتفاع حرارتي مع أني صرت أرشح بشكل أقل.سأرسل لكِ عِرقا معدنيا حول مدينة كومبيين، بدا لي جذابا.

ألف قبلة حنونة.

مارسيل.

إحساسي النفسي بالاختناق لاينتابني دائما.

تسألين إن وضعت مشاريع.بالتأكيد إذا تحسنت حالتي وصرت أفضل !عموما لا أعرف فيما يتعلق بهذه الأيام.

أعيد فتح رسالتي خشية أن لا تتخيلي بأن أزماتي النفسية تكون أكثر حدة شهر يونيو.لكن وضعي جيدا منذ بضعة أيام. لا أسيقظ أبدا ليلا. فقط أحس بالانزعاج.اليوم ومنذ تناولت الغذاء بقيت حالتي مستقرة ثم ها قد مر وقت طويل.تشير الساعة حاليا إلى السابعة (لقد كتبت لكِ نحو الساعة الخامسة).

******

الرسالة الثانية

السبت ليلا

24 شتنبر1904

عزيزتي الصغيرة أمي

يظهر لي أني أفكر فيك أكثر وبمحبة أكثر ما أمكنني السعي(مع ذلك لم أدركه بعد)اليوم 24شتنبر(مرت عشرة أشهر على وفاة أب بروست،أستاذ الطب بجامعة باريس،وبالضبط يوم 24نونبر1903) كل مرة أتذكر فيها تلك اللحظة،مع تراكم مختلف الأفكار ساعة بعد ساعة ومنذ اليوم الأول،يظهر لنا مدى طول الوقت الذي انقضى سلفا،مع ذلك فعادة الإحالة باستمرار على ذاك اليوم وكل السعادة التي سبقته،دأب أن تعدّ للاشيء فقط لأجل نوع من الحلم الميكانيكي السيئ،ومختلف ماتلاه،بيد أنه على العكس سيبدو كالبارحة وينبغي احتساب التواريخ لتأكيد مرور فعلا،حتى الآن عشرة أشهر،وأنا أكابد الشقاء لمدة طويلة وسأكابد لأجل أطول،ثم منذ عشرة أشهر لم يعد المسكين الصغير أبي يبتهج بأي شيء، مفتقدا حلاوة الحياة.أفكار تصير أقل قسوة بالنسبة إليه عندما نكون الواحد بجوار الثاني لكن بما أننا على الدوام مرتبطين بتلغراف لاسلكي،فأن نكون تقريبا قريبين أو بعيدين،يعني أن نتواصل حميميا دائما ونظل جنبا إلى جنب.

لقد أجريت فحصا،زيادة أثر السكر والألبومين،ما تبقى يعتبر تقريبا عاديا(يلزمني أن أجري آخر كي أقارن).تأويلي كالتالي :ربما مصدر التعب أني لم أنم كفاية،ولم أسترح سوى قليلا حينما كنت على متن السفينة مما أفرز لدي قليلا من الألبومين وكذا نسبة السكر.لكن حقيقة لا أعتقد ذلك،لأنه عموما استرحت كفاية ثم عوضني الهواء كثيرا ،إلخ .أو أن ارتفاع النسبة مردها كوني تناولت وجبتين عوض واحدة،تفسير أيضا لا أظنه صائبا ،لأنهما كانتا خفيفتين ومشبعتين جدا''بالزيت'' .إجمالا،لا أعتقد أني كنت لحظتها في حالة أسوأ مقارنة مع الفترة التي أعاني خلالها حقيقة. بقيت فرضية أخرى(لكن هذا ربما يتناقض مع الجانب الفيزيولوجي ،الطبيب وحده من بوسعه تأكيد المعلومة أو دحضها)مفادها استمرار إفراز السكر والألبومين خلال المدة التي كنت أستنشق قليلا من الهواء،وقد شعرت بتوعك أكثر فترة تواجدي على متن الباخرة(ربما تصور غير ممكن ومجرد هلوسة).أو أن الهواء أحال دون التعرق ،مما حتم على السكر والألبومين كي يمضيا عبر البول ويخرجا حاليا بواسطة الجلد…لكن لا أفترض أن العملية تمت على هذا النحو.أشعر دائما باعتلال فظيع .رجعت البارحة ليلا، لم أحس بأي أزمة نفسية،ثم نمت عموما على ذات الوضع كما لو أني لم أخرج.في المقابل،عانيت صباحا من نوبة طويلة لكن دون تشنج أرغمتي على العودة ثانية إلى النوم حتى وقت متأخر جدا،وأستيقظ على عجلة مما عكر صفوي من جديد ولم ينفع في شيء ثم استمر ذلك بحدة لمدة طويلة.وبهدف إنهاء صداع رأسي الدائم،وكذا التهاب حلقي إلخ إلخ، تناولت هذا المساء جرعة قوية من الأعشاب متمنيا أن أستعيد بها عافيتي.إجمالا،لقد صممت على الوصول إلى ذلك المبتغى مهما كلف الأمر. ظهر لي أن الأمر يأخذ وقتا أكثر مما ينبغي،ولأني أتمتع بهدوء تام في الوقت الحالي تماما،فسأبقى بصراحة خلال ليلة ما نائما وأستيقظ في اليوم التالي صباحا.أعجز على فعل ذلك هذه الليلة لأنه بعد الأزمة النفسية (مع أنها لم تكن قوية جدا لكنها في نهاية المطاف استمرت طويلا)أحس بالارتياح وأنا أتناول الطعام واقفا.فضلا عن ذلك لو عرفت أني سأتبنى هذا النظام لم أكن لأستبق نظامي الزماني،لأنه عندما أستيقظ في حدود الساعة السابعة أو الثامنة يسهل علي حينئذ كثيرا أن أبقى على السرير قياسا بالوضع الراهن وقد استيقظت على الساعة الثانية أو الثالثة ثم يبدو لي كئيبا جدا البقاء نائما.البارحة ليلا مع أني تناولت وجبة العشاء قبل الخامسة فلم أخلد للنوم إلا متأخرا تقريبا(الثالثة ونصف صباحا)لأني كنت مضطرا لفتح نافذتي وقد شرعت وقتها أكتب إليك حتى ساعة متأخرة.ولأني أدخن صباحا،ثم عدت من جديد إلى فراش النوم غاية الرابعة والنصف موعد استيقاظي. لم يكن العشاء جاهزا إلا عند الساعة السادسة والنصف.

لقد استحسنت موقف إيمانويل أرينAréne الذي تنازل عن رئاسة المجلس المجلس التنفيذي لكورسيكا كي لا يضطر إلى التصويت على الرجل الكورسيكي الأكبر سنا المتواجد في قاعة المؤتمر،باعتباره مجرد تمثال نصفي لنابليون. قرأت البارحة ماكتبه المدعو ''أندريه بيونير''حول الانفصال،دائما نفس الحكايات الساخرة، واستشهادات بهنري ماري والفعل و رانك إلخ.أخبار عالمية متفرقة،السيد نيدونشيل يقضي فترة اصطيافه في منزل عريق يعود تاريخه لنبلاء القرن الثاني عشر إلخ ثم معلومة واحدة اعتقد بأني أخطأتها''ابنة للسيد لوغران هي خطيبة السيد جورج مونيي"( بل تعتبر زوجته)والحال أن الصدفة جعلتني أكتشف بأني كنت بصدد قراءة جريدة ''فيغارو'' قديمة تؤرخ لسنة 1903 . أؤكد لكِ بأنه يمكنك الاطلاع على مجموع صفحاتها دون أن تقفي على شيء يستحق،الموضوعات نفسها فقط التاريخ يختلف.

أنا بخير جدا لما أكون بصدد الكتابة إليك،عموما لاشيء يتناقض مع راحتي سوى نظير ما أزعجني قبل ثمان أيام.لكني لست قلقا قطعا،ربما سأكتشف السبب صدفة.راسلت السيدة لومير رينالدو كي تستفسره إذا :((امتلكت الشجاعة كي أذهب لتلقي العلاج إلخ))وكتبت إليه ابنته كي تقول له بأن والدتها جعلت الحياة لاتطاق.هذا شيء لا يمكنني قوله !عزيزتي الصغيرة أمي !والتي ستغمرها سعادة عارمة حينما تلاحظني على مايرام مثلما أنا عموما، مادامت نوبة هذا الصباح كانت الوحيدة وأضيف أنها بليغة لكنها ليست عنيفة،على سبيل الإشارة عطس متواصل كما اعتدت حينما أستيقظ صباحا. لقد أخطأتِ بما يكفي وأنتِ تنسبين أقوال فرانسيس دو كرواسي(كاتب) إلى الحنق الشديد.إجمالا قال إميل فاغي(كاتب) بأن هذا يتأتي مباشرة من ماريفو (كاتب)الذي كان محبوبا جدا حد مائة مرة.لا، لقد صارت أناقة لدى الفتيان الصغار تدوين اسم فاغي مثلما حدث سابقا مع فرانسيسك سارسي(كاتب). من الغباوة جدا التذكير بفداحة جهله للغة الفرنسية.الأمر مقصود ويعرف جيدا مايفعله. على النقيض،إذا أمكن الدفاع عن شيء فهي هيأته.أبعث لكِ هنا جزئية بلا أهمية وردت ضمن مقال لصاحبه "ألفسا''في منبر''مجلة باريس''،لكن فقط لأن اسم أبي ورد بين طياتها.كنت اليوم وحيدا،لما أخبرني أنطوان بيبيسكو،أنه سيأتي في وقت متأخر لزيارتي والجلوس معي قليلا.ربما أذهب إلى البادية غدا،إذا صارت حالتي جيدة بفضل جرعة من الأعشاب،لكني أشك في ذلك جدا.حاليا أنا على سريري مغطى،لكن ماذا لو أصابتني نزلة برد عندما أستيقظ.هل اعتدتٌ ربما على التخفيف من مضايقة رينالدو (الوضع حاليا الآن على أحسن ما يرام).إذا اطلعتِ على الحقبة الزمانية للرسالة التي دبّجها أوجين لينتيلهاك (كاتب)فعليكِ بقراءة رسالة أوكتاف ميربو عن السيدة نويلز.أية مدائح!.

أوضحي لي بكيفية دقيقة طبيعة الشروط التي يمكنني في إطارها المجيء كي أقطن مدينة ''دييب''،مسألة تعتبر مهمة بخصوص اليوم الأول من العلاج.لقد نامت فيليسيي في ساعة جيدة تماما،أفترض نحو التاسعة ونصف مع أني لم أنتبه للساعة لحظتها.بقيت ماري تشرح لي قليلا مختلف مشاريعها ورفضت بطريقة مهذبة جدا أن لا أستقدم بروتستانتيا معمدانيا إذا كن محتاجا كي أحظى بالنوم ولو لليلة،مؤكدة بأنها ستفعل ذلك عن طيب خاطر.

أشارت علي كي أخبركِ بأنها نسجت لكِ ياقة يغطى بها الصدر. بما أن جرس الباب معطلا(نعم مطلقا)(ربما أخبرتكِ البارحة)فقد استدعينا كهربائي حي مونسو،السيدة جيسلاند تجهل رسالتك.

ألف قبلة حنونة.

مارسيل.

*أشعر هذا المساء أني بخير إلى أبعد حد، سأنام مبكرا وإن تناولت وجبة العشاء متأخرا.

المصدر :

Ma chère Maman : De Baudelaire a Saint-Exupéry ;des lettres d écrivains . Gallimard ;2002.

ترجمة سعيد بوخليط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى