د. نعيم محمد عبد الغني - الشعر الأندلسي وتأثيره في الشعر الأوربي” – د. الطاهر مكي

يعرض الدكتور الطاهر مكي في كتابه "دراسات أندلسية.. في الأدب والتاريخ والفلسفة" لمجموعة من القضايا المهمة المتعلقة بالأندلس من حيث تاريخه وأدبه والفلاسفة الذين كانت لهم صلة به، ومن بين القضايا التي عرضها دراسة بعنوان: “الشعر الأندلسي وتأثيره في الشعر الأوربي”، تلك الدراسة التي نقلها عن مستشرق إسباني كبير اسمه أنخل جونثالث بالنيثا، وكانت عبارة عن محاضرة ألقاها في المعهد الإسباني التابع لجامعة كولومبيا في نيويورك ونشرتها المجلة الإسبانية الحديثة الأولى في عددها الثاني سنة 1953.

إن هذه المحاضرة التي ألقاها ذلك المستشرق تنبع أهميتها في موضوعية الحكم على العرب والمسلمين الذين فتحوا الأندلس؛ فبين أنهم لم يكونوا كالرومان الذين غزوا أوربا ببربرية ووحشية ومزقوا إسبانيا شر ممزق، بل جاء العرب لينقذوا أسبانيا من براثن الظلم والطغيان، وتعايشوا معهم، وأدى ذلك التعايش إلى التزاوج بين العرب والإسبان، وارتقت الحياة رقيا طبيعيا، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وكان السبيل إلى الوصول إلى المناصب الكبرى متمثلا في حفظ القرآن ودراسة السنة والفقه وعلوم العربية؛ فأقبل الإسبان على ذلك واستمتعوا بهذه العلوم حتى ترددت في دولة الأندلس إبداعات في العربية ألفها أناس من أصول إسبانية.

ولقد فتن أهل الأندلس بالقصيدة العربية من حيث موضوعاتها وبنائها الشكلي والفني؛ وإذا كان العرب تقليديين في عرض موضوعات القصيدة من حيث استهلالها بالغزل والانتقال بعد ذلك لأغراض أخرى كالفخر والمديح والهجاء، فإن أهل الأندلس رغم ذلك قدسوا هذه الموضوعات وأضافوا عليها وجعلوها أطرا يمشون فيها خاصة فيما يتعلق بشعر الغزل، وهذا لا يعني أن العرب كانوا شهوانيين كما يذاع ويشاع عنهم، بل إن عواطفهم سمت وعبرت عن تجارب شعرية صادقة جعلتهم سعداء وأشقياء على حد سواء.

إن موضوعات الشعر الأندلسي وإن تحركت في إطار موضوعات الشعر العربي إلا أن براعة المعالجة في بناء القصيدة من حيث الصور والموسيقى كتب لها الخلود والشهرة، ومن ثم استحق شعراء الأندلس لقب أرباب البيان بجدارة إذ «أساطين البيان أربعة: شاعر سار بيته، ومصور نطق زيته، ومثال ضحك حجره، وموسيقي شدا وتره” كما يقول أحمد شوقي رحمه الله.

إن من الموضوعات الخالدة في الشعر الأندلسي التي تأثرت بالشعر العرب موضوع الغزل، ومن الممكن أن نقول إن غزل الأندلسيين كان أشد رقة وعذوبة من غزل العرب الأصلاء في هذا المقام وليس أشهر من نونية ابن زيدون التي مطلعها:

أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا

وليس أروع من قول حفصة الركونية إحدى شواعر الأندلس التي قتل حبيبها على يد ابن السلطان عبد المؤمن الذي كان ينافسه حبها:

أغار عليك من عيني رقيبي
ومنك ومن مكانك والزمان
ولو أني خبأتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني

أما كتاب طوق الحمامة لابن حزم الذي يعد دراسة نفسية لمشاعر الحب بين الرجل والمرأة والذي تمكن قراءاته في الروسية والفرنسية والإنجليزية باعتباره تجارب إنسانية؛ فأصول نظرية ابن حزم الفلسفية مبثوثة في كتاب البدور الزاهرة للأصفهاني وتتكأ كما يقول المستشرق الفرنسي ماسينيون على النظرية الإغريقية التي ترى أن “الحب تعاسة مادية، وقوة طبيعية، لا مهرب منه، أعمى لا عقل له ولا غاية”.

غير أن شعراء الأندلس لم ينجرفوا وراء عاطفة الحب في شهوانية الرذيلة بل كان غزلهم عذريا نسبة إلى قبيلة عذرة التي يفضل رجالها “الحزن الحلو، المستسلم للشوق، للحب الأفلاطوني على العواطف الحادة للغرائز الحيوانية البهجة، ويعرفون كيف يموتون حبا قبل أن يدنسوا بالشهوة الملول المشبعة عرس الأفراح العفيفة”.

ويصرح ابن فرج الجياني بذلك بقوله:

وطائعة الوصال عففت عنها
وما الشيطان فيها بالمطاع
بدت في الليل سافرة فباتت
دياجي الليل سافرة القناع
وما من لحة إلا وفيها
إلى فتن القلوب لها دواعي
فملكت النهى جمحات شوقي
لأجري في العفاف على طباعي

…..

كذاك الروض ما فيه لمثلي
سوى نظر وشم من متاع

لقد كانت هذه النظرة متأثرة بنظرة الإسلام للحب الذي يحرص أن يكون طاهرا عفيفا، “فمن أحب فعف فمات مات شهيدا”، وبقول أصحاب القيم من شعراء الجاهلية كعنترة القائل:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها

إن المستشرق الإسباني بعد هذه الدراسة التاريخية التي أثبت فيها أن الشعر الأندلسي حلقة من حلقات الشعر العربي بصفة عامة ينطلق، وتناول موضوع الغزل والخمريات كشاهدي إثبات على ما يقول انطلق بعدها ليبين تجديد الأندلسيين في شكل القصيدة، فذكر أن الأندلسيين ابتكروا الزجل الذي استخدم العامية الأندلسية وابتكر الموشحات التي خرجت عن عروض الخليل ونحو سيبويه في قالب موسيقي جديد لم يكن معروفا في الشعر العربي.

وكانت هذه الدراسة التاريخية لتطور الشعر الأندلسي ضرورية لبيان تأثيره في الشعر الأوربي الذي يطلق عليه الشعر البروفينسالي؛ حيث إن أوربا كانت تعتقد كما يقول ريبيرا بأن شعرها منذ نشأته بعيد عن أي تأثير أجنبي، “لقد انبثق فجأة، كزهرة انشقت عنها الأرض بلا ساق ولا جذور”. ولكن هذا المستشرق يطرح نصوصا من الشعر الأوربي تأثرت بنمط الزجل والموشحات ليترك القارئ حكما على هذه القضية.

فأما المثال الأول فيسوقه عن جيوم التاسع الذي شارك في الحروب الصليبية سنة 1094م ميلادية وعاد سنة 1126 ونظم قصائد على غرار الموشحات والزجل الأندلسي مع تغيير في بعض الأشياء كالغصن والقفل والمركز ..إلخ هذه المصطلحات الفنية.

وساق أمثلة أخرى عن شعراء التوربادور الذين صاغوا كلماتهم على موسيقى الزجل الأندلسي وما زالت آثار الموشحات والزجل باقية في ألحان أوربا وموسيقاها خلال العصور الوسطى إلى اليوم خاصة في الأغاني الشعبية الفرنسية المعروفة باسم “الروندو”، وهناك مقطوعات شعرية فرنسية راقصة سارت على موسيقى الشعر الأندلسي.

أما الشعر الإيطالي في القرون الوسطى الذي كان يطلق عليه اسم”المدائح” وينظم بلهجة لا يفهمها الجمهور كان على صلة وثيقة بالزجل الأندلسي .

وهكذا ظل هذا المستشرق متتبعا موسيقى الشعر الأوربي فوجد أن جلها يرد إلى الزجل والموشحات ونسوق ترجمة من تراجمه لبعض مقطوعات الشعر الأوربي لم نشأ أن نرهق بها القارئ؛ إيمانا منا أن الشعر لا ينبغي أن يقرأ مترجما بل ينبغي أن يقرأ في لغته الأصيلة فمتعة الشعر تكون في كلماته التي ترسم صورة لفكرة بموسيقى تطرب المتلقي.

وهذه المقطوعة من أغنية المسلمات الثلاث في ديوان بلاثيو

ثلاث مسلمات عشقت
في حياتي
عائشة وفاطمة ومريام
ثلاث مسلمات رائعات الجمال



قلت لهن من أنتن يا فاتناتي
وقد سلبتنني حياتي
قلن مسيحيات وكن مسلمات


1618192340649.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى