خير جليس أحمد سعداوي - ذكريات القراءة..

في القراءة سِرْتُ على وفق المتوقَّع ممن يعشق القراءة، ابتداءً من مجلّات الأطفال، التي كنت أقتنيها مع دخولي مرحلة الدراسة الابتدائية، ثم القصص المصوّرة وقصص الفتيان. وفي فترة المراهقة كان أول كتابٍ للكبار أخْذتُهُ من مكتبة خالي "رحيم العبّودي" هو رواية لأجاثا كريستي. الدهشة الأولى مع هذه الرواية أن حروفها كانت صغيرة، والصفحة ممتلئة بالكلمات، على العكس من كتب الفتيان التي تبدو صفحاتها صغيرة وكلماتها كبيرة مفرّقة مع رسوم توضيحية تملأ نصف الصفحة أو ربعها.

قرأت أكثر من كتاب ورواية من مكتبة خالي الصغيرة، التي لم تكن سوى خزانة من خانتين تصطَفُّ الكتب القليلة فيها خلف حاجز زجاجي.

لاحقاً، قال لي خالي مندهشاً من سرعة قراءتي ونفاد الكتب المناسبة لي، إن علينا أن نذهب إلى المكتبات لشراء الكتب. وكانت هذه أيضاً دهشة جديدة بزيارة مكتبات شارع الرشيد مع خالي، واقتناء العناوين التي أثارت انتباهي، من بين صفوف عديدة للكتب المتنوّعة.

كانت غالبية قراءاتي في ذلك الوقت هي لأعمال أجنبية مترجمة، أما أول رواية عربية فكانت "الأشجار واغتيال مرزوق" للراحل الكبير عبد الرحمن منيف، وكما في التجارب السابقة، كان خالي رحيم هو من أعطاني إيّاها، وعلى ما أتذكر هو استعارها من صديق، لذلك طلب مني قراءتها بسرعة حتى لا يتأخر في إعادتها إلى صديقه.

بعد أن عرفتُ طريق المكتبات المتوزّعة في شارع الرشيد، صرت أبحث بنفسي عن بقية مؤلفات عبد الرحمن منيف، ومن خلال روايتهما المشتركة "عالم بلا خرائط" سلّمني منيف إلى جبرا إبراهيم جبرا، فصرت أتتبَّع أعماله هو أيضاً.

حينما أستعيد ذكريات القراءة هذه لا يمكنني أن أنسى تلك المتعة النادرة التي يصنعها الاستسلام لعالم من الدهشة من خلال الإبحار في القصص والحكايات، خصوصاً حين تكون غرّاً صغيراً، غير عابئ بأحمال الكبار وهمومهم، وليس لك هدف من القراءة سوى القراءة نفسها، على الضِّدّ من الحال التي فيها الآن، فهامش القراءة من أجل القراءة صار ضيّقاً، لصالح تلك القراءة الوظيفية التي لها علاقة ببحث أو تتبُّع لأجوبة على سؤال، أو شيء له علاقة بمشروعٍ كتابيٍّ قادم.

كما أن تلَقّي الدهشة الجمالية التي يصنعها كاتبٌ ما، يقتل تلك الدهشة المشابهة الموجودة عند أسلاف الكاتب، كما جرى معي مثلاً مع أعمال فرانتز كافكا، فهو واحدٌ من مؤسّسي المنحى الغرائبي والفانتازي في الكتابة السردية العالمية، مع إدغار ألان بو. ولكن من سوء حظِّه معي أني قرأته بعد "سُلالته" من الكتّاب الكبار، أمثال بورخيس وكتّاب الواقعية السحرية، فلم أتحسّس دهشة الصنعة الخيالية في أدب كافكا، بل إن عمله الأشهر "المسخ" لم يُثِر عندي أيَّ انطباعٍ حسن!

خلال ذلك كلّه لم يكن الأمر مجرد رحلة من الدهشة، وإنما هناك الكثير من الكتب السيّئة، وهذه الأخيرة تترك في النفس أثراً مشوّشاً، فهناك الكتب التي أكملتُ قراءتها وتيقّنتُ أنها سيئة، وكتب أخرى لم أستطع إكمالها، فأتركها مع حسرة أنها ربما كانت جيّدة ولم أصبر معها بما يكفي، والنوع الثالث هو الكتب التي شعرت بأنني لم أفهمها أو أن الخلل نابعٌ منّي، وأن ذائقتي لم تكن بمستوى تذوق جماليات هذا الكتاب سيئ الحظّ معي. ومع ذلك لا أتذكر أنني رجعت الى هذا الصنف الثالث من الكتب مرّةً أخرى، فالكتب التي تستحق القراءة تبقى أكثر، والجديد ينادي عليّ لألتحق به.

من التجارب الطريفة أنني، بسبب قلة المال في يدي وصعوبة شراء كلّ ما أريده من الكتب خلال فترة الدراسة الثانوية، كنت أعتمد على الاستعارة من مكتبات الأصدقاء، أو بالأحرى؛ الاستعارة من مكتبات آباء أصدقائي. وكنت أحرص على سلامة هذه الكتب وعدم تلويثها أو تعرُّضها لحادث يؤدي إلى تخريب ما فيها، حتى أضمن استمرار تدفّق الكتب من مكتبات الآباء!

ولكنني في مرّة، وبعد الانتهاء من قراءة الجزء الأول من رواية "الإخوة كارامازوف" لديستويفسكي، وكانت بطبعة دار رادوغا الروسية ذات الغلاف الجلديّ المقوّى مع غلاف ورقي للحماية.

أعطاني صديقي الجزء الأول فقط، وكان بدون الغلاف الورقي، ونبّهني أنه يستلُّ الكتب خلسةً من مكتبة والده دون علمه.

حينما انتهيت من قراءة هذا الجزء انتبهت أن اللون الأبيض للجلد كان شاحباً بسبب التراب وقِدَم الكتاب. وكنوعٍ من العرفان والشكر استخدمتُ سائلاً مطهّراً مع القطن في تنظيف جلد الغلاف بعناية، فعاد أبيض كأنه خرج من المطبعة توّاً.

لكن الصدمة أن صديقي كاد يُغمَى عليه حين رأى نظافة الكتاب، متحسّساً للمشكلة القادمة مع والده، وبالفعل بعد أيام ذكر لي أن والده أجرى معه ما يشبه التحقيق. ادَّعَى صديقي أنه هو من نظّف الكتاب وأنه قرأه، فأجرى والده نوعاً من الاستجواب لمعرفة أحداث الرواية، وفشل صديقي بالطبع، وكان العقاب هو إقفال زجاج المكتبة بالقفل.

ـ "آسف لن أستطيع بعد اليوم أن أجلب لك أي كتاب من مكتبة والدي".

قالها صديقي مُنهياً أي أملٍ عندي في استعارة الجزء الثاني من "الإخوة كارامازوف"، وفي السنوات اللاحقة كانت الرواية تُعرَض أمامي في مكتبات شارع المتنبي أو مكتبات الأصدقاء، ولكن رغبتي كانت ضعيفةً لاقتناء الكتاب من جديد، وكأنه نوع من الشروع بمهمة مرهقة لمعالجة جرح عاطفي مع كتاب قديم، لن يندمل، في الواقع، إلا باستعادة اللحظة القديمة نفسها، والحصول -من يد صديقي- على الجزء الثاني، طبعة دار رادوغا.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى