محمود عبدالوهاب - سيرة بحجم الكف.. (فصل من مخطوطة رواية)

– 1-
جئت إلى سوق الكتب القديمة ، لأن صديقاً ذا دراية بالكتب ، وشغف بقراءتها واقتنائها قال لي إنّ الكتاب الذي تبحث عنه تجده في تلك السوق. لم يذكر اسم مكتبة معينة، لكنني احتكمت إلى حدسه ، الذي يكاد يكون يقيناً . قال
تذّكر انه في غير هذه السوق لن تعثر على كتاب قديم صدر قبل سنوات . شكرته ، ولكثرة ما ألح على ضرورة الإسراع بالذهاب الى السوق خشية أن يتلقف الكتاب مشترٍ آخر ، قررت الذهاب في هذا النهار القائظ من آب. تأسرني الكتب كثيراً، متى نشأت هذه الهواية ؟ . هل أسميها هواية بعد هذا العمر ؟ . متى تأصلت ؟ أجهل تحديد الزمن تماماً ، لكنها إذا اقترنت بعمر إنسان تجاوز العقد الخامس الآن تعدّ تاريخاً متقدماً . ربما حدث ذلك في سن مبكرة ، سن الطفولة مثلاً ، سن المراهقة ، غير أن ما أسميه بالهواية بدأ ينمو في داخلي ، على شكل رغبة أو ولهٍ أو توكيد للذات حتى أكتمل بأن أصبح الكتاب ذاكرة يقظة مدهشة ، لفهم ما يجري في الحياة ، واتساع للمخيلة.لكي أصل الى سوق الكتب القديمة، عليّ أن أجتاز سوق العطارين ، وبائعي أدوات الزينة والحلي النسائية ، وسوق النجارين ، صانعي الأثاث المنزلي ، ودكاكين الخياطين والرفائين ، ثم انحرف قليلاً الى اليمين حيث دكاكين الندافين وباعة الافرشة ذات الملمس المسترخي ، قبل نهاية السوق تتعرج الأزقة الترابية والرطبة والمقفلة النهايات حيث يفترش أرضها باعة الأقفال والمفاتيح وعدد من المتسولين. تقع سوق الكتب القديمة في نهاية هذه الأسواق المختلطة والمحتشدة التي تنتشر من واجهات دكاكينها ومن داخل عنابرها، روائح الافاويه الهندية وعود البخور ودهن الورد والحناء ، كأنها تجمع في داخلها أمزجة حقب تاريخية متعددة في حقبة معاصرة. قال الصديق: ستجد الكتاب هناك جو المكتبة التي دخلتها الآن ، ذو طابع حلمي ورائحة ورقية ، معتم كأن صخوراً تحاصره من كل جهاته ، تقدمت قليلاً ، كنت كمن سيصعد سلماً ضيقاً ، شديد الانحدار ، يستدير في كل لحظة . لم أتبين المكان جيداً ، غير انه يبدو مقعراً وعميقا ورخامياً ، مثل حوض نافورة متيبسة ، لم يكن المكان غريباً عن ذاكرتي . لم ادخله من قبل ، لكنه كما لو كان مكاناً رأيته في الأحلام . أو قرأت عنه في كتب الاسمار والرحلات . في الوسط ، حيث تستدير ، رفوف الكتب ، كان هناك صاحب المكتبة : غاطساً في كرسيه ، ويداه مسترخيتان على مسنديه ، وساقه اليمنى ممتدة على الطاولة، وربلة ساقه تبدو من فتحة أذيال دشداشته ممتلئة ووردية.وبدأت أتطلع إلى الكتب في المدخل: كتب الفلك والرحلات والسحر والطب الشعبي والمسامرات وكتب أخرى بلا أغلفة، بعد قليل دنوت منه: آسف قلتها بصوت خفيض. أما هو فقد تململ في مكانه ، فاتحاً إحدى عينيه ببطء ، رفع ساقه من على الطاولة ونهض، صار طويلا وضخماً وأخذ يحملق فيّ كمن ينظر الى شخص مريب . سألته ، أجابني بضجر ، ثم أشار بسبابته الى كتاب كان على العارضة الخشبية للمدخل – هل ينفعك الكتاب ؟ قلت : أبحث عما هو أكثر تخصصاً . لا يهم . استأذنته ، وخطوت داخل المكتبة. كانت الممرات تشبه الأقبية تتقدم على أرضية هشة وممتدة في متاهة تتدرج كثافة عتمتها كلما ابتعدت عن مدخل المكان، حيث الهواء يثقل، وضوء شحيح متعرج، يتسرب من درج منبعج يقع في مؤخرة المنعطف ، يبعث ثقوباً من الضوء تلتمع مثل ماء في ظلمة ، الكتب ، في الرفوف، مبعثرة ، ومرصوفة بشكل اعتباطي ، وتمتد أعدادها في شكل طولي كالرقم الطينية .
توقفت عند الرفوف. صوت الرجل كان يأتيني من الخلف ومن نبرات صوته ، وهو يحدث زبونه ، كنت أميّز تقلصات وجهه : فكه و بروز أسنانه ، وجهه البيضوي المدبب الحنك . انه يضحك الآن ، يتقلص خداه ، يهتز جسده ثم يتصلب وراء المنضدة . أتخيله من نبرات صوته قبل أن أصل إلى السوق ، في ركن من الساحة ، قبل المدخل ، ارتميت على مقعد تحت شجرة معرّشة تعتليها لفائف كثيفة الأغصان ، مستديرة ومشذبة ، تلقي ظلاً دائرياً حول المقعد . كنت أشعر بالإعياء ، وقد أنهكني الحرّ الذي لفّ جسدي ، حرارة بلا هواء . قال الصديق : لا تيأس ، ستجد الكتاب الذي تبحث عنه الى اليسار تنخفض سوق الكتب عن مستوى السوق التي حولها : تستدير دكاكين باعة الكتب والقرطاسية على شكل نصف قوس ، محاطة بأعمدة مقرنصة من نهاياتها ،مثل تيجان رومانية ووضعت قدمي على الدرجة الأولى من الدرجات الأربع التي تؤدي الى سوق الكتب : عالم يتلألأ في انعكاسات ضوء الشمس والتماعات الإعلانات الزجاجية رجال ونساء يصطحبون اطغالهم وهم يحتضنون ، في زهو حقائبهم المدرسية المصنوعة من الكتان ، يضطجع في اسفل حاشيتها دببة صغار ترمش بعيونها أمام حركة المارة . تتباين هيئات الباعة وأعمارهم بتباين بضاعتهم : معظم باعة القرطاسية شباب ، دقيقو الملامح ، يقظون ، ذوو قامات يتقافز بين سيقانهم صبية صغار يعملون معهم ، كأن الصبية يحملون في براءتهم نصاعة أوراق الدفاتر والكراريس التي تحتفظ بنقاء فضائها الورقي الصقيل . باعة الكتب الحديثة رجال في متوسط العمر، غالباً ما يكونون هادئين على الرغم من أمزجة بعضهم المتقلبة، لكن باعة الكتب القديمة مكتهلون، بطيئو الحركة ، يسقبلون زبائنهم بحذر كما لو أن كتبهم القديمة علمتهم ألا يفرطوا في حسن النية ، ولن يتذرعوا بالحكمة
. قال صاحب المكتبة ، بعد أن اقتربت منه ، خارجاً من ممرات مكتبته كدت أنساك
هل حصلت على ما تريد ؟ كنت أحمل معي مجلدين ومجلة شهرية قديمة . قال والآن ؟. تداولت الكتاب من على المنضدة ، وضعته فوق المجلدين والمجلة بدأت أفياء المكتبة ترتد الى الداخل، أما هو فكما لو كان يغوص في ماء ،.
بدأ يختفي من أمامي .في نهاية السوق كان شريط ضيّق من ضوء الشمس يستطيل ويتوهج ، كأنّه يضع حداً فاصلاً بين سوق الكتب والشارع الآخر الذي يقاطعه ، يتراءى لمن في داخله مثل واجهة زجاجية مضاء


أعلى