عمرو الزيات - #أنا والسَّحور

من الذكرياتِ المرتبطةِ بشهر رمضان، والتي لم تفارقْ خيالي قَطَّ، تلك التي كانت في طَوْر الشباب، وفي الشباب يَطِيبُ السهَرُ والسمَرُ، فيه الحريةُ والانطلاق، فيه المجازفةُ والمخاطرة، وفي شباب كلٍّ منا وصِباهُ ذكرياته التي تأبىٰ ألا تفارقه.
وفي رمضان تتضاعف الرغبةُ في السهر؛ فمعظم الناس ينتظرون وقتَ السَّحور وصلاةَ الفجر، ثم تلاوةَ القرآن حتى الضحىٰ، ودومًا نعتبر رمضانَ فرصًة نتقرَّبُ بها إلى الله تعالىٰ، وفي حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذي رواه البخاري (الصلواتُ الخَمسُ، والجمعةُ إلىٰ الجمعة، ورمضانُ إلىٰ رمضان؛ مُكَفِّراتُ ما بينهنَّ إذا اجتنبَ الكبائر )
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ورمضانُ إلىٰ رمضان) أي أن الله امتنَّ على عباده بأن جعل لهم رمضانَ موعدًا سنويًا يتزودون فيه من الطاعات، ويغترفون فيه من الحسنات، ويتوبون فيه من الخطيئات، فيغفرُ الله لهم ما اقترفوه خلال السنة من صغائر الخطايا، فمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا وقام بفعل ما أوْجَب الله عليه فيه، وترك ما نهىٰ الله عنه، ومع ذلك قام بفعل المندوبات والمستحبات، وأكثرَ من نوافل العبادات، وترك المكروهاتِ فإن الله يغفر له ما تقدَّمَ من ذنبه من صغائر الذنوب والسيئات، والله ذو الفضل العظيم، وقد جاءت بتأكيد ذلك أحاديثُ كثيرةٌ، فمن ذلك ما أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ وغيرهما: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ومَن صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه).
وأذكر أنني في رمضان كنتُ أجتمعُ وأصحابي، نخرج ليلًا بعد صلاة العشاء والقيام، نتمتع بهواءِ بلدتنا العليل؛ فمَسقطُ رأسي بلدٌ يحتضنه فرع رشيد؛ إذ يقع على النيل من جهة، وعلى البحر المتوسط وبحيرة البرلس من جهة أخرى. كنا نطوّف في عالم الثقافة والأدب والشعر، كان معظم أصدقائي من الأدباء، بعضُهم يقرِضُ الشعر، وبعضُهم يكتب القصة، وكنتُ – منذ خلقني الله – أحب النقدَ وأرى في نفسي وريثًا لشيخي العقاد، ورِثْتُ من الرجل قسوتَه وحِدَّةَ لغته، وأحسب أن أسلوبي الآن قد مال للاعتدال؛ إذ تخلَّيتُ عن حدة اللغة؛ مراعاةً للعلاقات الاجتماعية؛ وحفاظًا على مشاعر الآخرين، ولما قرأتُ المازنيَّ في شبابي ترك فيّ هذا الأسلوبَ الساخرَ الذي لم أجد له مثيلًا في أدبنا العربي، كنت مفتونًا بالرجال الثلاثة: العقاد والمازني وشكري؛ لم يتركِ الثالثُ أثرًا في كتاباتي يُذكَر؛ رغم أنه مُقَدَّم على الآخرَيْن حين تركا على أدبي وكتاباتي حتى الآن بصماتهما التي لا يمحوها الزمن.
كنا نقضي ليلنا كله في مثل هذه المناقشات البديعة، وكان رفاقي عندما يحاولون إغاظتي يذكرون أميرَ الشعراء أحمد شوقي؛ فيُمَجِّدون شعرَه، ويذكرون قَدرَه ومنزلتَه في الشعر العربي؛ نكايةً فيّ وفي العقاد، وكنتُ – وما زلتُ - سريعَ الغضب خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالعقاد، وهُم – أعني رفاقي – يفعلون ذلك لأرويَ لهم من قصص العقاد ما لا يعرفون ولا يسمعون به إلا مني؛ إثباتًا لعُلُوِّ كعبه ورسوخِه في العلمِ والنقدِ والأدب، وكان النِّقاشُ يعلو ويهبط حسب انفعالاتِ نفسي، يرتبط ذلك بمقدار استفزازِهم لي، ونظلُّ نفعل الأمرَ نفسَه طوالَ الشهرِ الفضيل، يَعُدُّ كلٌّ منا قصيدةً أو قصةً نقلِّب فيها وجهاتِ النظر، وربما أحضَرَ أحدُهم ديوانًا لأبي الطيب أو لجميل بن معمر أو غيرِهما من شعراء العربية، ونختار من هذا الديوان أو ذاك قصيدةً نتبارىٰ في إلقاء الشعر أولًا؛ ثم نتناولُها بيتًا بيتًا بالشرح والتحليل مع ذِكر محاسن كل بيت، وما نأخذه على الشاعر من عيوب كما كنا نظن ذلك في شبابنا؛ لقد كنا أو قُل: كنتُ (أنا) أرى في نفسى قاضيًا؛ لي الحق دون غيري في أن أحكمَ للشاعر أو أحكمَ عليه.
وعندما يحِينُ السَّحورُ نعود معًا إلىٰ بيتِ أحدِنا لنتناول السَّحور، وقلَّما تناولَ أحدُنا السَّحورَ دون رفاقِه؛ فاليوم نحن في بيت فلان، وغدًا في بيت آخر وهكذا دواليك، حتى إذا انتهينا أعَدنا الكَرَّةَ من جديد. وبعد تناول السَّحور نذهب جميعًا لصلاة الفجر، وبعدها يذهبُ كلٌّ منا إلى بيته ليقرأَ وِردَهُ من القرآن، ثم يخلُدُ إلىٰ النوم، وبعدها نبدأ يومًا جديدًا وقصيدةً جديدةً، وثورةً جديدةً على شوقي، وحكاياتٍ جديدةً عن العقاد..رحم اللهُ العظيمين: العقادَ وشوقيًا، وما أجملَ لياليَ رمضان!!


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى