بسمة مرواني - كتاب سكرة… في خمارة الرومي

دخلت دراسات ابن عربي دوائر الاستشراق منذ منتصف القرن 19، فنجد العديد من ترجمات لرسائله للغات اجنبية كالإنجليزية والإيطالية والفرنسية، الامر الذي جعل ابن عربي موضوعا حافلا في أبحاث المستشرقين.

الناقد عبد اللطيف الحرز في هذا الكتاب الصادر عن دار سطور تناول موضوع حياة جلال الدين الرومي احد المتصوفين الذي ظل ملهما ومثيرا للجدل الطويل بين من يعتبرونه أعظم معلم روحي في التاريخ الوسيط، وبين من يرونه زنديقا ويظل الولوج في عالم التصوف العالم والتصوف يخفي حقيقة تفكيره, وجماليته المخبوءة من حيث التشويق ونكهة المزج بين العشق والايمان بين دقة علمٍ وجنون البيان.

وما تعمق فيه الحرز من حقائق كتبت عن الرومي أو خرافات محققا معها حسب منهجه الثقافي المعتاد، نلمسه في لغته المتينة الللينة ذات المسحة الأدبية العالية ويمكن اعتبارها خلاصة تجربة الكاتب في الكتابة الطويلة حيث أنها تتشاكل مع الموضوع من ناحية النوع وناحية العمق، فلا تغادر صفحة ألا وتجد عبارة أو عبارت تفتح أمام القارئ كوى الدلائل الصوفية والشعرية أو الادبية بنحو عام على أوسع نطاقها.

هذا وانه الغى أي هامش من الكتاب طالما الهامش بحسب رأيه يزاحم السكرة ويقتلها.. وما يلاحظ على خلاف كل المستشرقين انزل الكاتب الرومي من صعيده القدسي والمتعالي الذي طوقته به الكتابات الاستشراقية والمخيالات الادبية ﻷسباب ثقافية ترجع الى جدل السياسي والخرافي واﻷقتصادي والايديولوجي ! الى أرضه التأريخية ووضعه الحقيقي أو أﻷقرب للحقيقي، لكن مع اﻷنتباه الى نقطة منهجية مهمة كونه برغم ذلك لم يجعل من التأريخية بوابة أو حيلة لﻷنتقاص منه والقذف به وهي مرونة نقدية تحسب له كنقطة ايجابية بجدارة.

اضافة انه في عين لحظة سكرته بالرومي وتجربته ابى أن ياخذه المخيال العاطفي بعيدا، كما حدث لكثير من أهل التصوف حيث الطيران الوهمي على سحب التعالي! فمن جهة يتتبع تكوينات تجربة الرومي التاريخية موضحا أسباب التخريف والتحريف الذي حصل في الكتابات حوله، وجهة هو يناولك الكأس تلو الاخر في حانة التصوف خاصته شارحا مضيفا معدلا للالئ قولات جلال الدين، ومن جهة ثالثة يحاول تشخيص اخطاء الرومي نفسه ناقدا اياه بمرونة فائقة جميلة..

اما في الفصل الاخير والطويل ختم الحرز بمتن فلسفي عال جدا بلغ من المتانة حدا كبيرا، ناقش فيه مسألة اللغة والعقل والحب منتقدا الاتجاهات الفلسفية التي افتقدت لمرجعية المعنى والاقتصار على حروفية النصوص وتيه اللاتحديد، فلطالما العقل عبر اللغة يفتقد ﻷي انطلاقة تمكنه الثبوت على نقطة أو اطار، كل انطلاقة بحاجة لانطلاقة قبلها “الاركيولوجيا الفوكوية مثلا” وهكذا بعكس ما لو اعتمدنا الحب ومرجعية القلب الاولى وبالتالي أرجاع القصدية الى اعتبارها بعدما فشلت المحاولات الهوسرلية في مشروع الظاهريات وأجهزت عليها من ثم أتجاهات مابعد البنيوية والتفكيك الغربي..

ويظل دوما السؤال عن كينونة هذا الانسان ما وجه به الحرز دراسته إلى وقائع الفكر والمعرفة دراسة وصفية عميقة محضة، دون التقيد بأي رأي مسبق، ليثبت ان التعمق في اعلام الصوفية عمل بالغ الصعوبة حقاً ويتطلب نظاماً عقليا دقيقا للغاية على الكاتب أن يتأكد من أنه أستطاع أن يشد القارىء الى جميع افتراضاته حول موضوع ما أو في ذات الوقت أن يكون على يقين من النقطة التي انتهى بها كتابه يبدأ معها الاستدلال أو التفسير واستقراء الافكار فمن سكر في سكرات االرومي ولج اسرار روحه سيبعد عنه بهذه السكرات ضجيج العالم .

بسمة مرواني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى