أحمد النائلي - فيزياء الكوانتم : من الحقيقة الواحدة إلى الحقائق المتزامنة ..

هل يمكن لعقولنا وفق إستراتيجيتها الذهنية الحالية أن تمتلك القدرة على تفسير الطبيعة المحيطة بنا ؟ ، أليست هذه الإستراتيجية القائمة على ثنائية المنطق الأرسطي عاجزة عن إيجاد تفسير مقنع للكثير مما نواجهه في الطبيعة المحيطة بنا ؟ ، فعلى سبيل المثال لا الحصر كيف يمكن أن تقتنع عقولنا بقانون بقاء المادة The law of conservation of mass للعالم الفرنسي لافوازية Antoine Lavoisier's ، والذي يرى أن المادة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم ، فكيف إذن جاءت المادة الأولى؟ ، هل جاءت من شئ لا نعرفه ؟ ، ألا نرى ببداهتنا الأولية المزعومة أن البداية يجب أن تكون من العدم ؟ ، فلو تكونت أية مادة من أخرى والأخرى من أخرى والأخرى من أخرى , سنصل في النهاية إلى فكرة أن هناك نقطة للصفر (العدم) تكونت منها المادة ، ولكن في هذه اللحظة التفكيرية كيف يمكن أن نطبق قانون بقاء المادة للافوازية على الحالة صفر(الأولى) ، أي كيف سنبرر تكون المادة من العدم ، إلا إذا كان العدم حالة لا نعرفها بل نحن الذين افترضناها لنريح عقولنا .
وهنا نطرح سؤال آخر : هل قانون العلة والمعلول Law of cause and effect الذين اعتمدنا عليه في طرح الفكرة السابقة هو أحد مبادئ العقل التي لا تتعارض مع الطبيعة المحيطة ؟ , أم هو نوع من الإكراه نمارسه تُجاه الطبيعة ؟ ،التي هي ليست بالضرورة ما نعتقده ، فقانون العلة والمعلول يبدو مقنعاً , ولكن هذا الاقتناع مستمر إلى الوراء حتى موعد الانفجار العظيم Big Bang قبل 13.8 مليار سنة (رغم أن البعض يرى بطلان هذه النظرية )، ولكن بعد ذلك يتوقف هذا القانون ، لأن الإنسان لا يعرف سبب حدوث الانفجار العظيم والذي أسس هذا الكون ، فهل هو يتوافق مع قانون العلة والمعلول أمْ أنه شئ أخر لا ندركه , ومن قال إن تاريخ الطبيعة يسير في خط مستقيم لا يتكرر , لماذا لا يسير بشكل دائري متكرر مثلما طرح ذلك فردريك نيتشة في فكرة إكراه العود الأبدي Eternal return , والتي هي فكرة قديمة .
وينطبق ذات الاستشكال على فكرة اللانهاية Infinity (∞) ، هل يمكن قبولها وفق الذهنية الحالية المعتمدة على المنطق الثنائي الأرسطي ،حيث تضطر عقولنا إلى تقبل فكرة اللانهاية للكون وفي ذات الوقت تقبل بفكرة المحدودية للكون ، فإذا قلت إن الكون لديه حد معين فماذا بعد هذا الحد ، وإذا قلت أنه ممتد إلى ما لانهاية لا تنتهي أبدا كيف يستقيم ذلك ،هل فكرة اللانهاية هي تعبير عن العجز المعرفي ,هل يمكن أن نجد لهذه الفكرة (اللانهاية) مصوغات تبريرية نقتنع بها ، بمعنى آخر هل يمكن أن نقبل بوجود صيرورة مستدامة لحجم الكون لا تنتهي أبدا ، فنحن نقع أسرى فكرتين متضادتين لم نستطع أن نقبل إحداها على حساب الأخرى ، بمعنى آخر هل فكرة اللانهاية هي حالة تعبير عن العجز التبريري ، لأن طريقة تفكيرنا الحالية تميل إلى إيجاد حدود للأشياء ، ففكرة اللانهاية تجعلنا نحتفي دائما بسؤال .. ماذا بعد ؟ ، فنحن نميل إلى إيجاد الحدود وفي ذات الوقت سنضطر إلى طرح سؤال "ماذا بعد هذه الحدود ؟ .
المشكلة الأساسية التي نقع فيها أننا أحيانا نعتقد أن رؤيتنا وإدراكنا للطبيعة هو الطبيعة ، كما يقول الفرنسي رولان أومنيس Roland Omnès , فالعلم سيظل حالة إدراك مؤقتة للظواهر ولكن ليس هو الظواهر ، لذلك نجد أنفسنا نقع في كارثة منهجية لو وقعنا في تقديس المقدمات العلمية أو اللوجوس المعرفي السائد logocentrism الذي صنعناه بأيدينا ، لذلك وبعد ظهور فيزياء الكوانتم بدأنا نُعيد النظر في طريقة تفكيرنا التقليدية ، وتبين لنا أن أوّليات وبديهيات عقولنا ما هي إلا حالة من حالات إدراكنا , فنحن في الماضي كنا مهووسين بوجود الحقيقة الواحدة التي نسعى إلى الوصول إليها ، ولكننا لم نفكر أنه لماذا لا توجد أكثر من حقيقة متزامنة ، لماذا الإصرار على الحقيقة الواحدة ، أليست الطبيعة هي من تملي علينا خصائصها ، أم أننا مغرمون بإلصاق ما نحبه فيها , فعندما تبيّن لنا وبالتجربة أن طبيعة الضوء هي موجية و فوتونات في ذات الوقت , وأن الإلكترون موجود في أكثر من موقع في ذات الوقت ,أليس ذلك دليل فيزيائي يجعلنا نقبل مفهوم تعدد الحقيقة ؟ , فلماذا لا يكون سبب التصاق الأرض بالشمس في مدار اهليجي يعود إلى أكثر من سبب متزامن , وليس إلى - الزمكان Spacetime - لاينشتاين أو إلى جاذبية نيوتن أو إلى أي سبب آخر , لماذا نعتقد أن هناك فكرة تسمى الذرة , أي أن هناك جسم صغير لا يقبل التقسيم كما قال ديمقريطس Democritus , لماذا نفترض ذلك وليس لدينا دليل تجريبي دامغ يؤكد ذلك , نحن فعلنا ذلك لأن إستراتيجيتنا التفكيرية هي من قادتنا إلى ذلك , لأنه لا يمكن أن نقبل أن المادة غير متناهية الصغر , فماذا لو كان أحدُنا بحجم الذرة , بالطبع ستكون هناك أشياء أصغر منه بشكل كبير , نحن هنا لا ندافع على نظرية "" لانهائية صغر المادة "" بقدر ما ندافع على أن الطبيعة ليست هي ما توصل إليه العلم , هي أكبر مما نتصور , ويجب أن نُعيد النظر المنهجي في التعامل معها , وهنا تروقني كثيراً أطروحات فيلسوف العلم بول فيرابند Paul Feyerabend المنهجية , والتي طرحها في كتابه ضد المنهج Against Method, بأن نشرع الاستخدام لكل المناهج لمقاربة الظاهرة , وأن نبتعد عن النمطية المنهجية , فالظاهرة الطبيعية أكبر من أن يختزلها منهج ما .
إن الوجود مازال غامضاً إلى درجة كبيرة , لذلك يجب أن لا نقع أسرى ماتوصلنا إليه , فوجود الوجود لا يتفق مع أوّلياتنا العقلية , لأنه يتعارض مع قانون العلة والمعلول وقانون لا فوازيه , فكما أشرنا سابقاً تميل العقول التقليدية إلى أن تكون هناك بداية للأشياء , أي بداية للوجود , وأن المادة يسبقها العدم , ولكن ماذا كان قبل البداية لذلك تبنى الكثيرون أزلية الوجود وسرمديته أوكما قال الفيلسوف اليوناني بارمينيدس أنه ليس هناك شيء يأتي من العدم , أي أنه لا يوجد العدم البتة , وهذه الأطروحات حول طبيعة غموض الوجود تقودنا الى انتهاج نتاج تأثير فيزياء الكوانتم وما توصلت إليه , فلا مجال لحقيقة واحدة بل إلى زمن الحقائق المتزامنة , فلا مجال للهروب من غموض الوجود الطبيعي إِلّا بتبني وجود الحقائق المتزامنة .
من القصص الطريفة التي استحضرها في هذا المقام الكوانتيمي ما يتعلق بمدى أخلاقية فعل قتل الأسد للغزال في سبيل العيش , فمن جهة نقول إن فعل الأسد غير أخلاقي لأنه حرم الغزال من حق الحياة , ومن جهة أخرى نقول إنه فعل أخلاقي لأن قتله شرط لبقائه وهو مكره عليه بيولوجيا .
إذا فعل الأسد أخلاقي وغير أخلاقي في ذات الوقت وبشكل متزامن , لذلك لم نعدْ أمام أحد الخِيارين بل مع الاثنين في ذات الوقت ,وكذلك حالة الرجل الذي سرق مالاً من الأغنياء ولكنه قام بصرفه على الفقراء (قصة روبن هود و قصة عروة بن الورد) , فالفعل الأخلاقي الخيّر والفعل الشرير متوافران وبشكل متزامن , لذلك تُقدم هذه القصص بشكل ايجابي في الأدب وتُعظّم من شأن الأبطال رغم أنهم لصوص .
وينطبق ذات الموضوع على قيمة الجمال , فاللوحة التشكيلية هائلة الجمال أو المرأة الجميلة لدى البعض هي قليلة الجمال لدى البعض الأخر , فيتوافر الجمال وعدمه وبشكل متزامن .
إن تبني مفهوم الحقائق المتزامنة هو أحد ركائز المجتمع المدني الديمقراطي , فالعيش مع الآخر وبشكل متزامن هو ديدن السلام والرفاه , والأخر ليس النقيض بل هو الوجه الأخر للوجود , إن الارتهان للأحادية وفي هذه الأرض الواحدة التي تجمعنا هو تأسيس للإقصاء والاعتداء .
لقد صنعت الفيزياء الكمومية Quantum Physics قطيعة معرفية جديدة لإدراك الواقع ، فلم يعدْ المنطق الثنائي الارسطي مقنعاً لرفضه مبدأ الثالث المرفوع أو التزامن الوجودي مع الضد ، فهذا المنطق يبدو أنه حالة إكراه للواقع ولكنه ليس الواقع ؛ لأن ما قدمته فيزياء الكوانتم من نتائج مبهرة تجاه العالم تحت الذري قدم منطقاً جديداً يجعلنا نقبل بمبدأ وجود الحقائق المتعددة المتزامنة وليس الحقيقة الواحدة القابعة في عالم المثل الأفلاطوني السماوي، أو كما ذكر فيلسوف العلم كارل بوبر طريقة إدراك العالم الأول (world one ) وفق طرحه لنظرية العوالم الثلاث Popper's three worlds .
ويُعد قبول المنطق المتعدد هو أحد الخطوات المهمة الأولى للانطلاق من الثنائية المنطقية إلى التعددية المنطقية ، و لتكن الخطوة الأولى لقبول الذهنية الكوانتيمية فيما بعد ، قبولا يعتمد على تبني وجود الاحتمالات المتزامنة وليست الأحادية ، أي أن كل الاحتمالات موجودة وبشكل متزامن . ويبدو أن المنطق الثنائي الحالي لم يكن مقروناً بوجود البشر أو هو عبارة عن مبادئ عقلية أولية راسخة في العقل بل هو حالة من حالات صنع الإنسان , مغرمة بوجود الحقيقة الواحدة ،والتي ربما يكون التفكير الثيوقراطي قد ساهم في ترسيخها ، والدليل أننا نرى وجود منطق لغة شعب أيمارا Aymara في أمريكا الجنوبية ، والذي هو منطق ثلاثي وليس ثنائياً ،فوجوده لدى شعب أيمارا مبرر لاحتمالية وجوده لدى شعوب أخرى قديما ، ولغة أيمارا هي من اللغات القليلة جدًا التي يبدو أن المتحدثين فيها يستخدمون الماضي كما لو كان مضارعا ويستخدمون المستقبل وكأنه الماضي ((Aymara have an apparently unique understanding of time, and Aymara is one of the very few languages where speakers seem to represent the past as in front of them and the future as behind them )) .
فوجود هذه الحالة اللغوية يشير إلى إمكانية شيوع المنطق المتعدد لدى الإنسان قبل انتصار الذهنية الثنائية ،والتي ربما ساهمت في تأخر البشرية مقارنة بفرضية لو أن الإنسان انتهج المنطق المتعدد .
إن فيزياء الكوانتم والتي تتجاوز المنطق المتعدد إلى المنطق الاحتمالي المتزامن صنعت مفاهيم جديدة رسمت متن هذا الفكر نذكر منها : مفهوم التشابك entanglement و مفهوم التراكب Superposition و مفهوم التزامن simultaneously ومبدأ عدم التيقن Heisenberg Uncertainty Principle للألماني هاينزبيرج وثابت ماكس بلانك الكمومي Planck's constant .
كلها جميعاً صنعت طرحاً جديداً يقترب لدى البعض من دائرة المستحيل ، فكيف يمكن للإكترون أن يكون في مكانين مختلفين في ذات الوقت ، أو أن يملك الضوء حالتين للظهور متزامنتين متناقضتين ( الموجات والفوتونات ) ، وفق ما طرحت ظاهرة التراكب Superposition ، أو أن يكون هناك تأثير واتصال بين جسم و آخر يبعد عنه ملايين الكيلومترات وفي ذات الوقت , ليتجاوز هذا التأثير سرعة الضوء ( والتي هي أحد ثوابت انشتاين الفيزيائية ) ، فمجرد أن يحدث التغيير في الجسم A يحدث التغيير في الجسم B وفق ما يطرح مبدأ التشابك entanglement , وما ذكر سابقاً ليس حالة فيزيائية نظرية محْضة ، بل تم تقديم التجارب للتدلال عليها ، مثل تجربة الشقين والتي بيّنت الطبيعة المزدوجة لطبيعة الضوء .
والفيزياء الكوانتيمية حطّمت فيزياء إسحاق نيوتن وتجاوزت فيزياء انشتاين ، فلقد صار المراقب للتجربة مؤثراً فيها ، إلى الدرجة التي لا تمكنه من تحديد سرعة ومكان الإلكترون في ذات الوقت و بنفس الدقة لكليهما ، فإذا تمكّن من تحديد سرعة الإلكترون لم يتمكن من تحديد مكانه والعكس صحيح .
هذه الانجازات الفيزيائية الكمومية انعكست على بقية مجالات العلم والحياة مثلما انعكس مفهوم البردايم لتوماس كون على مجالي علم النفس والاجتماع ، فاليوم أصبحنا نرى امتداداً لهذا التأثير في مجالات عدة نذكر منها المسرح , ففي المملكة المغربية نرى المسرح الكمومي أو الكوانتيمي والذي قدّمه فهد الكغاط ،ومنها مسرحيته "الرَّاجِحُ والمُتَعَذِّر" و التي استفاد فيها من مبدأ التراكب Superposition , و وظّفه على شخوص المسرحية , فصارت الشخوص طيبة وشريرة في ذات الوقت ، كما حاول أن يعكس حالة الاندماج بين المراقب والتجربة , من خلال جعل الجمهور ضمن مكونات المسرحية ،فلم يعد الجمهور مراقباً مشاهدا غير مؤثر, بل أصبح جزءً منها .
وتأثير فيزياء الكم بدأ ينتقل إلى مجالات غير متوقعة مثل مجال التصوف , حيث بدأ الحديث عن التصوف الكمي أو الباطنية الكمومية، وهي عبارة عن مجموعة من المعتقدات الميتافيزيقية والممارسات المرتبطة بها والتي تسعى إلى ربط الوعي أو الذكاء أو الروحانية أو النظرة العالمية الباطنية بأفكار ميكانيكا الكم .
وقادت فيزياء الكوانتم الى ظهور فلسفة الكوانتم Quantum Philosophy , والتي تهتم بنتائج فيزياء الكوانتم المادية وتأثيرها على الذهنية البشرية , وكذلك تفحص المعرفة الكوانتيمية ، ويعد فيلسوف العلم الفرنسي رولان أومنيس Roland Omnès ،أحد المهتمين الذين كتبوا حولها وخاصة كتابه "" فلسفة الكوانتم "" ( نشر عام 2002) ، والذي استعرض فيه تاريخ العلم من خلال رصد التاريخ الكلاسيكي للرياضيات والمنطق والفيزياء , وكيف انطلقت الفيزياء الكمومية النظرية إلى الفيزياء الكمومية المادية ، وعلاقتها مع الفطرة أو الحس العام common sense .
وكذلك بدأت سيمياء الكوانتم quantum semiotics ترسم وجودها من خلال مقاربة فيزياء الكوانتم , مستفيدة من نتائجها في مقاربة ظاهرة المعنى والتدّلال semiosis, لننتقل من مرحلة تعدد التأويل إلى تزامن كل التأويلات , وكما يرى الصديق والباحث الجزائري سمير عباس إلى أن العلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة غير مستقرة , فيشير الدال إلى كل شئ ولا يشير إلى أي شئ في ذات الوقت , فمدلولات الدوال منفتحة ضمن سياق حتى الثمالة .
في الختام أقول إن فيزياء الكوانتم سيكون لها تأثيرات مهمة , صناعية وعلمية وثقافية , وستفتح الباب لقبول ثقافة الاختلاف وانتهاء زمن المعيارية المقيتة , فلم يعدْ ذلك الزاهد زاهداً مكتمل الزهد ,ولم يعدْ ذلك اللص شيطاناً لا يحوي بعض الخير , الحياة أكبر من أن تحتويها تجربة إنسانية ضئيلة , وفي الختام أقول : مازلنا نبحث في طبيعة الوجود , وبما أن الغموض يحتوينا من كل جانب فالاحتمال المتزامن هو ديدننا المنطقي .


أحمد النائلي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى