عبير عزاوي - الموتى ينهضون باكرا.. قصة قصيرة

ألقاني صاحب اليدين الفولاذيتين من أعلى درج ما ، انزلقت وتدحرجت الى أسفل الدرج ، غطت لزوجة دبقة ماتم هتكه من ستر جسدي، فقد مزقوا ملابسي وبقي قليل منها لايستر معظم أعضائي ، شعرت بأيد تنهضني وتحملني ثم تنزع عني عصابة عينيّ السوداء التي عصبوني بها عندما تلقفوني من بوابة كلّيتي وأحاطوا بي بصمت شرس بعد أن همس أحدهم باسمي ولم ينتظروا الإجابة ألقوا بي في سيارة مغلقة عوت كذئب، وانطلقت تنهب الطريق بينما تتقاذفني جدرانها الحديدية مع تعرجات الطريق ومطباته.
عندما توقفت السيارة سحلتني أيدٍ قاسية ونزلت بي درجاً طويلاً شعرت أنه لن ينتهي إلا بخروج روحي، كان قلبي يتقافز في صدري كطفل لسعته عقرب .
التقطتني كفان مصنوعتان من فولاذ حتماً فلايمكن ليد بشرية ان تكون بهذه الصلابة والبرودة . ولولا ملمس جلدها على جلدي لما عرفت للحظة أنها لإنسان. هصرت اليدان رأسي و تركتاني كخرقة مدعوكة بالطين ،
لا أحد يتكلم ولا أحد يسألني شيئا ، لا أحد يهمس ولو مجرد همسة . حتى عندما فتحت فمي لأنبس بحرف جاءتني صفعة فولاذية خيل إليّ معها أن لساني قد قطع وأني لن أتكلم مجددا. المهم أن عقلي بقي صاحياً ويحاول استيعاب مايجري حولي.
الآن تلتقطني مرة أخرى أيد أشعر أنها تختلف عن تلك الأيدي فهي دافئة رغم لزوجتها. سارعت الأيدي لازاحة القطعة السوداء عن عيني لكن لافرق غرقت بفيضان من العتمة ، أخذت أمد يدي وأتحسس ماحولي ، تلتقي يدي كل مرة بيد جديدة أكاد أعرف صاحبها ؛ هم مثلي إذاً .
كنا جميعا نخوض في ماء لزج بارد يغمر أرجلنا الى الكعبين ؛ رائحة القذارة تزكم انفي .
همس لي أحد قرب أذني شعرت بفحيح صوته وحرارة أنفاسه ( كانت هي الحرارة الوحيدة التي شعرت بها منذ اقتيادي) :
- " لاتخف ستعتاد كل شيء هنا طالما أنك لم تمت بين أيديهم ووصلت إلى هنا فستتحسن أمورك ."
وتساءل عقلي بسرعة:
-" تتحسن أموري، بأي شكل ؟؟ .
اعتادت عيناي الظلام فميزت أشباحاً كثيرة تشبهني؛ مجرد ظلال لم أميز ملامحها ولا ملابسها (إن وجدت) . الظلمة تطبق على المكان يتسرب ضوء خفيف باهت من مكان ما لا أعرفه فيكشف مقداراً قليلاً فقط لايسمح لأحد أن يميز الآخر. اقتادني صاحب الصوت الى زاوية بعيدة في عمق المكان حيث كانت الأرض جافة قليلاً ، أجلسني مستنداً الى جدار ما لسعتني برودته في خاصرتي جلس الى جواري صامتاً شعرت بأنفاسه تتلاحق وصدره يعلو ويهبط بسرعة حتى ليكاد ينفجر وهو يتوجس أن يسألني عن أي شيء في الخارج.
اقترب مني شبح لرجل هزيل قصير القامة، أفسح له صاحبي مكانا بجواري وبدا بأن بينهما تفاهما من نوع ما.وكأن هذه الطقوس يقومان بها بدقة مع كل وافد جديد .
الأمر الذي أربكني أن الرجل ضئيل الجسم جلس مقرفصاً أمامي ،تناول يدي وبدأ يرسم عليها باصبعه . لم أتبين أنها رسومات بادئ الأمر ظننتها حروفاً ، لكن مع إصراره وانشداهي همس صاحبي الأول في أذني مرة أخرى :
- " إنه يرسم أشكالاً من حياتكم هناك في الأعلى .
للحظة غرقت بالارتياح لملامسة دفء أنفاسه لأذني ومؤخرة رأسي ، ثم استجمعت تركيزي على مايرسمه على يدي ، لم أفلح إلا في النهاية فقد رسم دائرة ثم أخذت إصبعه تتنقل على أطرافها وترسم خطوطاً طويلة وكأن أفقاً ما انكشف أمامي فرأيته يرسم شمساً ويمد أشعتها كثيرا فغصصت .
عاد الرجل الذي إلى جواري للهمس حرارة أنفاسه تتلافح على رقبتي ( شعرت للحظة أني اشتقت لهذا الدفء) :
-" لقد فقد عقله هنا
كان يسأل كل وافد جديد : هل ماتزال الشمس تشرق عندكم ؟!
.منذ شهرين فقد القدرة على النطق فأخذ يرسم على أكفنا مايريد أن يقول .
شعرت بأمعائي تكاد تخرج من فمي ، ربما سأصير مثله إن بقيت هنا وقتاً أطول
فجأة قفز الجميع من أماكنهم واختلطت حركاتهم بجنون مسعور، يتحركون يمنة ويسرة ويتداخل بعضهم في بعض .
صرخ أحدهم: - انتبهوا ..الآن ..تيااار
وسرى تيار كهربائي لحظات هزّ أجسادنا هزاً عنيفاً. وقعت الأجساد فوق بعضها متراكمة كأكياس نفاية ، كان هذا آخر مارأيته ، فقد سقطت في دوامة من عواء ، أفقت بعدها والصمت يلفّ المكان وعادت الظلمة تنحسر قليلاً عما حولي فرأيت أجساداً معلقة في الهواء وقد شبحت وامتدت أيديها الى جانبيها وتدلت رؤوسها، كنت مثلهم مصلوباً .
دفق سائل مرٌّ من جوفي إلى أعلى صدري وانطلق من فمي عواء يشبه عوائهم لكنه بحروف مقطعة :
ياااا شمس الله ...متى ستشرقين ؟؟

عبير عزاوي



* القصة الفائزة بالمركز الثاني في مسابقة رابطة بني هلا





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى