شوقية عروق منصور - حكاية بائعة الزيت...!

ظهرها المنحني على برميل الزيت الضخم يؤكد ان فوق ظهرها هموم العالم، فالانحناءة ليست دليل الكبر والعجز فقط، ولكنه دليل على الهموم التي تراكمت حتى اصبحت كتلة تتشبث في الظهر "كالحردبة" كلما قست الظروف. تحاول العجوز حماية نقاط الزيت من الانسكاب على الارض، بخفة ودقة تسكب الزيت في تنكة الزيت الفارغة، من الوعاء الذي غمسته في البرميل وأخرجته مثقلاً بالزيت المضيء اللامع باللون الأخضر الغامق.
مشهد يتكرر في موسم الزيت والزيتون. سنوات طويلة تربطني بهذه العجوز التي نذرت نفسها لرعاية بقايا أشجار الزيتون التي تركها لها اليهود الذين صادروا ارضها وارض اخوة زوجها بحجة شق شارع للمستوطنة المجاورة. هذه البقايا أصبحت بقايا الروح والخبز.
أشجار الزيتون هي المصدر الوحيد لرزقها، ويكون انتظارها من الموسم الى الموسم. في عقلها خزائن تضع فيها الملفات الواجب دفعها وعدم دفعها معناه ضياع أحفادها الذين ينتظرون مثلها، فهي المعيل الوحيد لهم بعد سجن والدهم.
خلال عملية شراء الزيت كانت تحكي العجوز عن المصاعب والاشتياق للأبن الشهيد، والأبن السجين الذي ترعى زوجته واولاده، وعن ابنتها الأرملة الشابة التي قتل زوجها أثناء عمله في اسرائيل وهي أيضاً تمد لها يد المساعدة. وكانت قد نسيت زوجها الذي قتل في حرب 48، تاركاً لها ثلاثة أبناء. فهمومها الآن أكبر من مشاعرها كأرملة صغيرة. كانت تختلط قطرات دموعها الصامتة مع قطرات الزيت، ولا أجد حرجاً حين أرى مزج القطرات داخل وعائي، لأن عصير الزيتون الفلسطيني عبر تاريخه ممزوج بالدم والدموع. ومن يحاول تصويره بشكله الطبيعي المجرد يدخل في الاحساس الكاذب المزيف، الذي لا يعرف شيئاً عن معاناة صاحب أشجار الزيتون.
العجوز تحكي عن المصاعب والشقاء الذي تعيش فيه، وكيف تنتظر موسم الزيتون بفارغ الصبر!! وتتساءل بهمس لو بقي ابنها الشهيد لساعدها الآن على الحياة، ثم تتساءل: من أجل أي شيء استشهد ابنها؟! ولماذا سجن الآخر؟! وما الفائدة من الاستشهاد والسجن ما دام الوطن لم يقدم لها الهناء والحياة الكريمة. فمنذ نعومة أظفارها وهي تعيش في شقاء وذل.. أما آن لها أن ترتاح وتعيش مثل البشر والخلق؟!
في احدى المرات جئت لكي اشتري الزيت وكان الموسم شحيحاً في محصول الزيتون. وجدتها حزينة جداً تحسب وتطرح، لا تعرف كيف ستعيش طوال العام، ثم قالت لي بسخرية لاذعة:
- شفتي امبارح على التلفزيون كيف كانت ضحكات اليهود والفلسطينيين مع بعضهم البعض.. والله كأنها سكاكين في قلبي.. على شان شو ابني استشهد؟! في اليوم بسأل نفسي ميت مرة ، بدي حدا يجاوبني!!
مع أنني أعرف ظروف استشهاد ابنها الشاب الذي قتل أثناء احدى المظاهرات ابان الانتفاضة الثانية، وأعرف قصة ابنها السجين وتفاصيل حياة ابنتها الارملة مع أطفالها، الا أن العجوز تزداد قهراً والماً وغضباً سنة بعد أخرى، تحكي وتعيد وتقول بحسرة عن ابنها الشهيد:
- شو طالوا من الشهادة؟! حرم حياتو وحرم يعمل بيت واولاد.. سمعتوا عن ابن وزير او مسؤول استشهد؟! سمعتوا عن ابن مسؤول سجين؟! ليش احنا بس بندفع ثمن هالوطن؟! ثم تضيف وتزفر نيراناً من أعماقها: واللي في السجن، مين راح يهتم في اولادو الاربعة؟! ثم تصمت كأنها في انتظار معجزة أو سحر أو اعجوبة، تخرجها من البئر العميقة التي تعيش فيها.
هذه السنة ذهبت كالعادة لاشترى الزيت فوجدتها جالسة لوحدها. طرحت عليها السلام. نظرت اليّ باستغراب. اطلت شابة من الباب وقالت: تفضلي..! نظرت الى العجوز الصامتة التي تحدق بالأفق البعيد:
- أنا بنت ابنها السجين.. قالت وهي تسحب أحد الكراسي الخيزران الصغيرة، ثم أضافت أن جدتها اصابها زهايمر. لا تعرف أحداً.. طول النهار تنادي فقط على ابنها الشهيد وعلى أبوي.. !! لا تعرف شيئا!
جلست الى جانبها. أخذت تحدق في وجهي، ثم بدأت تتمتم: قولي لأبو مازن انا بديش ابني يكون شهيد.. أنا بدي أبني عندي.. بدي أبني!!
اشارت لي الشابة قائلة: لا تردي عليها، هي لا تعرف احداً..!
جلست انظر الى الحفيدة وهي تقوم بتعبئة الزيت، تنحني على البرميل الكبير وتغمس الوعاء حتى يمتلئ، ثم تسكب الوعاء في تنكة الزيت خاصتي.
سألت الشابة: متى اصاب الزهايمر جدتها. قالت: قبل عدة أشهر.. بدأت تنادي على عمي الشهيد وأبي. ثم اخذت تنسى طريق البيت وتنسى اخوتي.. بتكون قاعدة هادية وفجأة بتقوم بدها تروح عالكرم.. نأخذها الى الكرم الزيتون فتقول: مش هون، وتشير الى طريق المستوطنة، لكن من يذهب الى طريق المستوطنة..؟! طلب ابي اثناء زيارته في السجن ان لا ندعها تخرج من البيت، وها نحن نتناوب أنا وأخوتي على رعايتها ونخاف ان تخرج ولا ترجع..!
بينما كانت الأبنة تضع تنك الزيت في السيارة مرّت مظاهرة وجنازة رمزية للشهيد حسن الترابي الذي مات في السجن بعد ان اصيب بمرض سرطان الدم، ولم يجد الرعاية الصحية في السجن الاسرائيلي، ولم تستطع السلطة الفلسطينية ان تساعده وتنقذه. قالت الأبنة وقد اصفر وجهها:
- خايفة على ابوي يموت في السجن.. يعني يكون سجين وشهيد..!
تركتني ابنة السجين وهرعت الى البيت وهي تبكي بذهول، كأنها اكتشفت أمرأ فظيعاً. اخذت اراقب الجنازة الرمزية للشهيد حسن الترابي وهي تختفي خلف البيوت القديمة الآيلة للسقوط. نظرت الى العجوز الصامتة فوجدتها ما زالت تنظر الى الافق. وتخيلت والدة السجين حسن الترابي جالسة الى جانبها أيضاً، وسألت نفسي: كم أما فلسطينية تنظر الى الأفق الآن في انتظار معجزة..؟!!

شوقية عروق منصور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى