إيمانويل ميفسود Immanuel Mifsud - ليل جلم البحر الفاحم.. قصة

كانوا خمسةَ أشخاصٍ من صعدوا إلى أعلى الجرف في ليلة ظلماء لا قمر فيها. الطالب، الزوجان اللذان لم يمضِ وقت طويل على زواجهما، المرأة ذات النظارات الطبية، ورجل في الأربعين. صعدوا جميعهم إلى قمة الجرف كوحوش هاربة. ولكن في أثناء الليل أيضًا.. تصعد طيور جلم البحر للتذمر والغناء، أو ربّما للعويل والبكاء. تصعد بالمئات باسطة أجنحتها الكبيرة فوق الحَيْدِ البحري الهائل، تتغذى على بقايا الأسماك التي تصطادها أثناء اليوم، ثم تأوي إلى أعشاشها في الجرف وتجلس على بيضها حتّى يفقس وتنمو لتصبح بحجم كرة قدم سمينة قادرة على الطيران.
أحيانًا يتمكن من سماع صوت البحر في البعيد ويتذكر الأمواج وهي تضرب قاع الجرف بقوة قبل أن يخيم ظلام دامس.. بعد عدة كؤوس من الويسكي في حانة الغواصة الصفراء بدأتُ أَحْدِقُ المرأةَ ذاتَ الثوب الأحمر وأتمعن في انحناءات صدرها المكتنز.. شعرها طويل وأسود بلون التوت يتهادى على كتفيها بفتنة ماكرة.. كانت تجلس على أريكة طويلة تتجاذب أطراف الحديث -كما يبدو- مع صاحب الحانة، فيما ترتشف من كأس فيها مشروب داكن وبضع قطع من الثلج. على مقربة منها جلس أربعة رجال أعينهم محمرّة وشبه مغلقة من فرط الشرب.. كانوا يتجادلون حول سباق للسيارات، ويتبارون في الهراء والكذب، أحدهم تعلقت عيناه بالمرأة ذات الثوب الأحمر، كان يدخن السيجارة تلو الأخرى. الموسيقا منخفضة لكن الأصوات مرتفعة. هذه ليلة بلا قمر، وباستثناء الغواصة الصفراء لا حانات أخرى مفتوحة.
أحيانًا أسمعُ صوت البحر من بعيد فأتذكر صوت الأمواج وهي تضرب قاع الجرف بقوّة قبل أن يخيم ظلام دامس. تضحك المرأة فيدير الرجال رؤوسهم نحوها مبتسمين لكنها تتابع الشرب والتحدث إلى صاحب الحانة، أشعلُ لفافة أخرى وأراقب الدخان يصعد إلى الأعلى حتّى يتلاشى نهائيًا. هادئ هذا الليل لولا الموسيقا وسباقات السيارات، لا يوجد أحد في الخارج رغم أن الموسم قد بدأ. كان يقول لي صاحب الحانة قبل حضور المرأة ذات الثوب الأحمر إن الأمور لا تسير على ما يرام.
"نحن المكان الوحيد المفتوح هنا، في الخارج خواء تام"
أجبته بإيماءة من رأسي وطلبت كأسًا أخرى، في الحقيقة لا أكترث إن كانت الأمور لا تسير على ما يرام.. لا أكترث البتة، فعملي لا يعتمد على الحانات، ولو أغلقت جميع البارات أبوابها، فسوف أحتسي الويسكي في باحة البيت أو على سطح المنزل، وسوف أستمع للموسيقا وحيدًا. على جميع الأحوال.. أينما أذهب دائمًا أكون وحيدًا، لذلك لن أكترث إن أغلقت جميع الحانات أبوابها، لكنّي استغربت حقًّا كونَ جميع المحلات والمطاعم مقفلة ولا أحد في الخارج.. لا شيء على الشاطئ سوى الظلام.
شعرها أسودُ فاحمٌ وعيناها يدوران في كلِّ مكان، صدرها ممتلئ يصعد ويهبط بانتظام مع أنفاسها الهادئة، أحد الرجال يطلب إلى النادل أن يقدم لها كأسًا على حسابه؛ تبتسم له فيستدير قبالتها. أحد رفاقه ينظر إليَّ ويغمزني بعينه، لكني لم أكن أسمع سوى دوي صراخ جُلم البحر، كأنني ما زلت في أعلى الجرف. ظلام الجرف كالظلام الذي يلف الطريق في الخارج.. كسواد شعر المرأة بالثوب الأحمر الجالسة على الأريكة تحتسي الشراب الذي قدمه لها الرجل، شعرت برأسي يَخْوَى من الداخل ولا شيء سوى نعيق جُلم البحر يتعالى لدرجة أنني لم أعد أسمع ما يقوله الآخرون، ولا حتّى ما كان يقول النادل منتظرًا بفارغ الصبر إجابتي.
- هل ترغب في كأس أخرى؟ ذلك الرجل هناك -وأشار إلى أحدهم- يقدم لك كأسًا على حسابه.
- هل سمعتَ يومًا نحيب جُلم البحر؟
- يبدو أنك لا تفهمني سيّدي. هل تريد شرابًا آخر؟
- تنتحب مثل الأطفال الرضّع يبكون فوق الماء والصخور.. هل سمعتَهَا من قبل؟
- أيها السيد! أنت لا تفهمني. لكَ شرابٌ مجاني.. هل ترغب في الويسكي مجددًا؟
- كأنها أشباح.
- ماذا دهاك يا رجل! هل أنت ثمل؟
- لقد كنت هناك وسمعتُها.. في البداية كان هناك صمت جليل ثم انطلقَتْ من فوق البحر وبدأت النحيب.. هل سمعتَهَا يومًا؟
نظر النادل في عينيَّ وابتسم ثم استدار نحو الرجال وأخبرهم بأني قد ثملت فابتسموا دفعة واحدة ورفعوا كؤوسهم تحية لي.
"اشرب يا رفيق، لا أحد مخلَّد".
نعم.. لسنا مخلدين، لكنّي لا أريد البقاء هنا، أريد أن أحلق وأطير، أعتقد أنه بإمكاني أنا أيضًا أن أطير مثل تلك الطيور المولعة بالصراخ والعويل.. أو ربّما بالبكاء. لا أدري ما الذي تقوم به بالضبط، لكنها تبكي تمامًا مثل الأطفال الرضّع، مئات من الرضّع يبكون في نفس الوقت، جلم البحر.. أشباح أم وحوش؟ فجأة أرى كأسًا جديدةً من الويسكي أمامي والنادل ينظر إليَّ بنفس الطريقة المشفقة.
"لديك شراب آخر.. لكن إن كنت ستقود فمِنَ الأفضل أن تتوقف.. هل تسكن في القريب؟"
جلم البحر.
بالكاد تمكّنتُ من تجرُّع الكأس التي قدمها لي أحد أولئك الرجال، خرجت في اتجاه البحر المظلم.. كان وحيدًا مثلي. قدت السيارة إلى ملهى غبار القمر. كان الجميع يرقصون، بدأت أتظاهر بالعبث بكأس الجعة وأسترق النظر إلى فتاة ترتدي الأحمر في منتصف الجوقة المنتشية، كانت ترفع ذراعيها، تلوّح بهما في الهواء وكأنها على وشك الطيران، كانت في منتصف الحشد تمامًا، منخفضة العينين، تصفّق بجناحيها كالطير، كأنكِ جلم بحر جميل في طريقه إلى قمة الجرف.. كأنكِ إلهةٌ تحلّق في البعيد. كلُّ ما تكشف عنه ثيابك من لحم أبيض طري، قوي كأجنحة جلم البحر الهائلة.
- مرحبًا.
- مرحبًا.
- هل ترغبين في شراب؟
- نعم، من فضلك.
- ترقصين بشكل باهر.
- شكرًا.
- هل ستمكثين هنا؟
- ربّما يأتي صديقي لاحقًا، لا أدري. إن حضر فقد أبقى لمدة أطول لأنه يقوم بإيصالي إلى البيت. إن لم يحضر فعليَّ إيجاد من يوصلني.. لم أشاهدكَ هنا من قبل!
- كنت أتأمَّلكِ.. ترقصين بطريقة بارعة.
تبتسم وتنفرج شفتاها.
- هل تجيدين الغناء؟
تضحك..
- ما الذي يحملكَ على الاعتقاد بهذا؟
- لا شيء.. ظننت أنك ربّما تجيدين الغناء.
- أنا بارعة في الصراخ ولكن ليس في الغناء.
- الصراخ؟ هل حقًّا تجيدين الصراخ؟
تنظر إليَّ وتضحك من جديد..
- شكرًا على الشراب.
- أين تذهبين؟
- إلى حلبة الرقص، هل ترافقني؟
- بل سأراقبكِ من هنا.
- حسنًا.. وداعًا، استمتع بوقت جيد.
- اسمعي.. هل ترغبين في مرافقتي إلى الجرف؟
تنظر إليَّ طويلًا..
- لا بد أنكَ أفرطتَ في الشراب، أليس كذلك؟
- فلنذهبْ لسماع نحيب جلم البحر.
- لسماع ماذا؟
- كأنكِ جلمُ بحرٍ ترقص محلقة. هل تحبِّين جُلم البحر؟
- لست متأكدة. أنا أحبُّ الرقص.. هل سترافقني إلى الحلبة؟
أذهب بتململ لأنِّي كنت أدرك أن الجميع يراقبني، لا أتحرك إطلاقا، بل أرقبها وهي على وشك أن تحلق في السّماء وتصعد إلى أعلى الجرف.. تسافر في الظلام ورذاذ البحر يتطاير على جسدها.. أتسمَّر في مكاني وسط الحشد ناظرًا إليها.. ترفع ذراعيها عاليًا.. تغلق عينيها وتتمايل كشبح، أتوقع طيرانها في أي لحظة، لكني أسمع فجأة صياح جلم البحر وأجد نفسي محاطًا بطيور كبيرة ترقص فوق صخور الجرف، تنادي بعضها أو تبتهل فرحة بحلكة ليل بلا قمر، تغني للظلام وتداعبه بأجنحتها، تتماهى معه بل تصير هي نفسها الظلام، ثم أرى جلمة بحر تقترب مني، تمسك بي من ذراعي وتساعدني على الخروج من الجرف والتحليق. تنظر إليَّ ضاحكة كلَّما تشابكت أذرعنا أو انفكَّتْ في الهواء. جلم البحر.. أُدركُ أنَّ الجميع ينظرون إليَّ وأنَّ الحشد برمَّته يحاول مساعدتي على الخروج من القاع نحو قمة الجرف.. فيما الماء يقطر من ذقني ومنقاري. جلم البحر.. أرتفع معها إلى الأعلى وأنظر خلفي نحو البحر، أنظر من خلال الظلمة، لا قمر في هذا الليل.. لا شيء سوى نحيب جلم البحر.
- أنتَ أيضًا تجيدُ الرقص.. لا يبدو عليك أبدًا أنك في الثامنة والأربعين.. هذا شيء رائع!
- هيّا بنا.
- إلى أين؟
- إلى الجرف.
- لكني في انتظار صديقي.. دعنا نحتسِي هذه الكأس قبل أن أوَدِّعَكَ. لقد كنتَ مذهلًا.. لا أمزح.
رأسي يؤلمني بشدّة؛ بالكاد أفتح عينيَّ. أثناء قيادتي في طريق العودة حاولت استرجاع أصوات طيور الجرف، لكنّها كانت قد ابتعدت داخل البحر لتقتات فيما أنا الآن على السفينة في طريق العودة.
أحيانًا تَسمع صوت البحر في البعيد فتتذكرُ الأمواج وهي تضرب قاع الجرف بقوَّة قبل أن يخيِّم ظلام دامس. عندما أخلع النظارات الشمسية أشعر بحرقة في عينيَّ.. أضغطهما بيديَّ إلى أن أشعر ببعض الراحة، أنتظر الماء ليغلي كي أُعدَّ كوبًا من القهوة قبل أن أخلد للنوم. لا أدري إن كنتُ قد استمتعت بطيور جلم البحر فوق الجرف أم لا. ضايقني ذاك النحيب قليلًا لكني كنت أدرك مسبقًا أنني سأستمع لنحيب مئات الأطفال الرضَّع معًا.. في نهاية المطاف لأجل ذلك ذهبت. تحديدًا لأستمع لبكاء مئات الأطفال في الوقت ذاته.
لم يكن جورج برفقتي فوق الجرف ولا في العيادة، كنت قد ذهبت بمفردي. عندما رآني الطبيب في الرواق المزين بلوحات رديئة سألني إن كان أحد برفقتي وتعجب عندما أخبرته بأنني بمفردي، أخبرني بأنني بحاجة إلى أحد بقربي لأنني لاحقًا قد لا أكون على ما يرام؛ رغبت في أن يكون جورج بقربي لكنه رفض، لو كانت المسألة بيده لترك الأمور على عواهنها. عندما أخذت زمام الأمور بيدي غضب ورحل.. تمنَّيت لو كان برفقتي في ذلك اليوم بل على الدوام. لكنه بدأ بوضع جملة شروطٍ لم تعجبني ثمَّ اختفى من أمام ناظريَّ إلى الأبد؛ افتقدته بشدة عندما أخبرني الطبيب بأن أخلع ملابسي وبدأت الممرضة في مساعدتي على نزعها ومسح جبيني برفق، كرهته لأنه رحل وتخلى عنّي، ففي النهاية هذا كان خطأه بالدرجة الأولى.. عندما فرج الطبيب ساقيَّ وددت أن أصرخ مناديةً اسمَهُ. لكن خيم عليَّ وعلى المكان صمت ثقيل.. لذلك ذهبت لسماع جلم البحر.. ولذلك جلست منفردة عن الآخرين.. كي أتمكن من البكاء وحيدة كما بكيت في ذلك اليوم في المستوصف، عندما حضرت طيور جلم البحر باكيةً شرعت في البكاء معها، لذلك أشعر بحرقة وتعب في عينيَّ.
أنظر نحو الغلَّاية.. بدأ الماء في الغليان، أصنع بعض القهوة المُرَّة بلا حليب أو قشدة. لا شيء مثير للإعجاب في التلفاز.. ثمة امرأة تثرثر لم أعِ كلمة واحدة مما قالت، ما زال رأسي مسكونًا بذلك العويل الذي يشبه بكاء أناس محزونين، كأنهم أطفال رضّع يُلِحُّون في البكاء على أمهاتهم من أجل شيء لا يعرفونه، أحيانًا أستيقظ من النوم بغتة بنفس الآلام التي شعرت بها أثناء خروجي من العيادة بسيارة الممرِّضة.
عندما أخبرت جورج بما كنت مقدِمَةً على فعله بدأ في البكاء، ثمّ في الصراخ. لم يكن موافقًا.. أراد أن تكون كلمته هي العليا، لأنّه رجل وعلى كلِّ شيء أن يسير وَفقَ مشيئته. جلم البحر.. حاولت إفهامه أنْ لو سارت الأشياء وَفق مشيئته لعانينا ثلاثتنا، لكنّه لم يشأ أن يفهم.. بكت طيور جلم البحر أثناء عودتها إلى أعالي الجرف.. بكيت معها بحرقة، لذلك اعتزلت الآخرين وذرفت دموعًا استعصت على النزول إلّا في ذلك الظلام الموحش.. انبعثت كصراخ رضيع يتلوَّى من الألم.
أستلقي على السرير وأتركُ جهاز التلفاز مفتوحًا.. آخذُ أنفاسًا طويلة لكنَّ رأسي ما زال يؤلمني، القهوة.. المرأة في التلفاز.. أنظر إليها بتمعّن.. لها وجه طفلة صغيرة.. تلك الطفلة التي لم أشاهدها قط، لم أشأ أن أراها وظلت تظهر لي يوميًّا وهي تطير.. تستلقي إلى جانبي فأحاول دفعها بعيدًا فتبدأ في البكاء، ثم لا أدري كيف أضمها إليَّ رغم أنني رغبت في أن تدعني وشأني.
كان السكون مخيمًا إلى أن حضرت طيور جلم البحر. نظرَتْ نحو الزوجين اللذَين كانا برفقتنا.. نحو المرأة بالذات، وعلى الفور تذكرتُ جورج في ذلك السكون في أعلى الجرف حيث بكاء جلم البحر وبكائي القديم الذي انفجر لأوَّل مرة، تذكرت ظلام الليل في الخارج وظلام الليل هنا في الداخل، أتذوق القهوة فيما تنتحب طيور جلم البحر في رأسي قبل أن تطير وتتلاشى.
الصمت هنا مطبق باستثناء مذيعة التلفاز التي ما زالت تثرثر، أخفض الصوت نهائيًّا كي أستمع لنحيب جلم البحر التي رافقتني إلى الغرفة.. صمت مطبق وأنا وحيدة. مثل كلّ الليالي الطويلة وبقية السنوات التي مررت بها. أَعُدُّ ليالي السبت التي أمضيتها هنا وحدي.. أحصي عدد الرجال الذين أحببتهم بعد رحيل جورج.. جميعهم.. الواحد تلو الآخر، حدجوني بنفس النظرة عندما أخبرتهم بقصّة العيادة وما جرى داخل تلك الجدران البيضاء.
- لكن هذه خطيئة!
- وما أدراك بالخطايا؟
- بل خطيئة كبيرة جدًا.
- خطيئة؟ ومَن أنت لتبلغني بأنّني مذنبة؟ لم لا تتساءل ماذا كان سيحدث لو لم أقم بذلك! ربّما كانت خطيئة أكبر.
- آسف. لا أظن أنه يمكننا المواصلة.
- كاذب.
- كاذب! كيف؟
- لا أظن أنك متألم لما حدث. تريد الرحيل لأنني مذنبة.. ربّما ظننتني عذراء أيضًا، ترغبُ في امرأة عذراء في بيتك.. أليس كذلك؟
بمرور الوقت بدأت أتقبّل أني مذنبة، بل مجرمة أيضًا. كنت وما زلتُ كذلك. لذلك ذهبت إلى الجرف ذاك اليوم.. كي أطلب الغفران عن هذه الخطيئة. من يدري! ربّما في النهاية أنال المغفرة. أثناء استماعي لبكاء جلم البحر طفقت أبكي بسبب ذنوبي، ربّما أسمع يومًا ضحك الأطفال بدلًا من بكائهم! ربّما أنجح. ربّما أتمكن من تحمّل رؤيتهم.. وربّما ألتقي مع جورج مجددًا وأخبره بأنني مجرمة. لكني لست مجرمة، أم قاتلة؟ هذا كلّ ما أردت معرفته. أحد طيور جلم البحر حلق طويلًا فوق رأسي. سألته إن كنتُ قاتلةً لكنه ازداد نحيبًا. جناحاه كانا عظيمين، مفتوحين ويسحقان الهواء من حولهما، سألته مرتين إن كنت مجرمة لكنّه لم يجبني، أو ربّما أجابني ولم أفهمه.
أطفئ التلفاز.. أُغطّي جسدي العاري بملاءة وأستدير على جانبي لأنام.
أحيانًا يسمعان صوت البحر في البعيد فيتذكران الأمواج وهي تضرب قاع الجرف بقوة قبل أن يخيم ظلام دامس. أعجبتني هذه الليلة في أعلى الجرف ونحن نستمع لأصوات الطيور، كنت أتمدد إلى جانبها وشعرت بأنفاسها فوق ذراعي، حاولت أن أفهم ماذا أرادت أن تقول، في السيارة لم تقل شيئًا ولا شيء يُسمع في هذا السكون سوى صياح طيور جلم البحر وكأنها مئات من الأطفال الرضّع يبكون دفعة واحدة. ربّما تَعبَتْ فوق الجرف، تذكرتُ حفل زفافنا قبل ثلاثة أشهر ونصف.. كنّا قد أعددنا له طويلًا ولم أرها جميلة قط كمثل ذلك اليوم بالفستان والطرحة الأبيضين. عيناها زرقاوان داكنتان وشعرها ملموم إلى جانب واحد.. تحمل في يدها باقة أزهار وردية. ظننت أننا سنناقش أصوات جلم البحر، أو على الأقل سنتحدث بشأنها، نفضي بعضُنا إلى بعضِ بأحاسيسنا، أعتقد أنها تَعبَتْ فوق الجرف لذلك صمتُّ أنا أيضًا، عوضًا عن التكلُّم معها حدّثتني هذي الطيور. البكاء.. بكاء الطيور البريء والظلام الدامس تتخلله أضواء السيارات في البعيد.
لا شيء سوى الصمت ورائحة الأثاث الجديد، إن كان هناك أثاث. كلّ ما يحدث يتردد صداه في الغرف الفارغة، الصمت.. أسمعها تغتسل.. أفتح التلفاز لعلِّي أجد فيلمًا جيدًا أبدد فيه نعاسي. ليس الليلة.. لا نعاس في هذه الليلة، ما زال صوت صياح جلم البحر يدوّي في أذنيَّ ملتهبًا كالحريق. سأنتظرها ريثما تفرغ ثم ندخل إلى الفراش، الليلة سأخبرها لا سيّما أنها أيضًا استمعت لصوت بكاء تلك الطيور البديعة. سأقول لها إنني أحبها كما أفعل كلَّ ليلة.. سأقول لها إنه ربّما ليس علينا الانتظار طويلًا.. أحبها جدًّا وكلَّ يوم أزداد ولعًا بها، لقد كان القسّ على حق عندما أخبرنا في حفل زفافنا بأن "كلّ يوم زواج أبدع من سابقه". كان على حقٍّ عندما نظر إلينا مبتسمًا وطلبنا أن نتبادل القبلة التي ستكون بداية حياتنا الجديدة. يتوقف الماء في الحمّام؛ ستخرج قريبًا. لا شيء مثير على التلفاز.
أنظر في المرآة.. أشعر بتحسّن رغم هروب النعاس. أدري أنه في انتظاري.. أستطيع سماع جهاز التلفاز.. أنا أحبّه.. أظنني كذلك. أثناء تسريح شعري أتذكَّر بكاء طيور البحر. بدأت في الصياح معًا ولا زال ذلك الصياح يدور في أذنيَّ. شعرت بأنه يستمتع بصياحها.. رأيته يحدق، مرسلًا تلك النظرة الفاحصة في اللا شيء. أما أنا فقد تهت لمجرد سماع ذلك العويل المخيف.. ذلك الصراخ.. ذلك البكاء.. البكاء.. لقد أفزعني ذلك البكاء.. كنت أعلم أن البكاء ليس جيدًا بالنسبة إليَّ، ربّما في نهاية المطاف لم يكن عليَّ الذهاب معهم، ذلك الصراخ يذكرني بغرفة الحمَّام وصوت جهاز التلفاز، ربَّما كان من الأفضل لو توجهنا بعدها مباشرة إلى مكان آخر. هنا الصمت ثقيل وفي ثقل الصمت أعود فأسمع عويل طيور الجلم الذي يحزنني، ربّما لم يُخِفْنِي لكنه لم يُسعدْني؛ ذلك الصراخ يذكرني بأنني لست مثله.. وبأننا مختلفان.. مختلفان أكثر مما نبدو للناس، وكأن ذلك البكاء في ذلك السكون أراد أن يقول لي شيئًا ما، نفس الشيء الذي قالته أمّي في ليلة زفافي ودموع الفرح تملأ عينيها، كانت أجمل ليلة في حياتي، دخلت أمّي إلى غرفتي واستلقت إلى جانبي وبدأت تداعب شعري كما تمنيت دومًا لكنها لم تنتبه قطُّ. نعم.. في ذلك اليوم دخلت إلى حجرتي دون أن أدعوها، ثم تمددت بقربي بلا إذن وبدأت في مداعبة شعري دون أن أطلب إليها ذلك، قالت إنني امرأة وإني سأصبح في كنف رجل آخر، وذكرتني بأنّ عليَّ الالتزام بقوانين طبيعتي الأنثوية، وأن عليَّ احترام ذلك الرجل الذي سأصبح في كنفه، وبأنني كامرأة عليّ الوفاء بواجباتي البديهية.
أسمع التلفاز ثم أسمعه يتحرك في المطبخ، وقعُ خطواته أمام غرفة الحمَّام يربكني، كانت أجمل ليلة في حياتي.. أنا وأمّي مستلقيتان في سرير واحد.. متعانقتان.. نبكي ونتبادل المشاعر الفياضة بصمت كما يليق بأم وابنة عاشتا وحيدتين لزمن طويل، بكينا كطفلين رضيعين، وفي الصباح رافقني والدي حتّى المذبح. صعدت إلى المذبح على ذراع رجل لا أعرفه لكنَّ أُمِّي أصرت، "هذا والدك وعليك مرافقته". بعد الزفاف ذهبنا إلى غرفة الفندق الفاخرة وعادت أمّي إلى البيت وحيدة. أعلم أنها بكت وتنهدت كما فعلت طيور البحر هذه الليلة التي تتساءل ربّما ما الذي أتى بنا هنا. عادت وحيدة مثل هذه الطيور التي اعتادت الوحدة في ظلمة الجرف.
- هل أنتِ على ما يرام؟
- نعم، لماذا تسأل؟
- لاحظت أنك تأخرتِ في غرفة الاستحمام.
- أنا على وشك النوم؛ أكاد أموت من التعب. بإمكانك البقاء لمشاهدة التلفاز، لكن أبقِ الصوت منخفضًا قليلاً.
- هل أنت ذاهبة حقًّا؟
- نعم.
- هل ستنامين؟
- نعم؛ أكاد أموت من النعاس.
- أتشاهدين التلفاز لبعض الوقت؟
- كلا. أنا متعبة.
- هل استمتعتِ اليوم؟
- بماذا؟
- بطيور جلم البحر.
- جميلة ومثيرة. أنا ذاهبة للنوم.
ثم تغادر وتتركني أنظر إليها وهي تغيب في ظلمة الرواق كما فعل أحد طيور جلم البحر في الظلام بعد أن حلق باكيًا فوقنا. فقدنا أثره في حلكة الليل بلا قمر.
أفتقدها في الظلام وأبقى لوهلة محدقًا في فراغ الرواق المظلم. ثم يمتلئ الفراغ بطائر جلم البحر.. أسمعه يكسر الصمت ويبدّد الظلام.. أرتبك عندما تحدجني بتلك النظرة، ربّما من الأفضل أن أبقى هنا قليلًا لأمنحها الوقت لتنام، لكن عليَّ الليلة إخبارُها. عليَّ إخبارُها بأنه ليس علينا الانتظار طويلًا.. وبأنه علينا الاستعداد منذ الآن.. منذ هذه اللحظة على الفور. لم لا؟
- كنت أتساءل.. ربّما ليس علينا الانتظار طويلًا.
- ننتظر ماذا؟
- بوسعنا الإعداد من الآن.
- الإعداد من أجل ماذا؟
- من أجل المستقبل؟
- أليس من الأفضل الإعداد ليومنا هذا؟
- بلى بالطبع. لكن علينا النظر إلى الأمام، لا أظن أن علينا الانتظار طويلًا كي...
- كي ماذا؟
- كي ننجب أطفالًا.
- ألم نكن قد اتفقنا بهذا الشأن؟
- صحيح. لكني الآن أظن أنه ليس علينا الانتظار طويلًا. ماذا تظنين؟
صمت. في البعيد تُسمع صيحة جلم بحر وكأنها ترغب في التدخل بيننا.
- لا أدري.
- عندما كنا فوق الجرف كنت أفكر في هذا الأمر. ذلك البكاء الذي لا يشبه إلا بكاء الأطفال الرضّع.
- هل ستنامين؟
- هل تعلم ما الوقت الآن؟
تقترب لتقبلني ولا أرى أمامي سوى ظلام حالك، فهذه الليلة بلا قمر يتوسط سماءها، يخيم الصمت ولا تسمع أذناي سوى صراخ جلم البحر وقد غادرني النعاس. كنت أخشى إن بقيت يقظًا أن أظل أسمع بكاء أولئك الأطفال الرضّع فوق الجرف. غدًا سأعيد الكرّة أثناء الغداء.
أغلق عينيَّ لكنني لا أتمكن من النوم.
أحيانًا يَسمَعُ صوت البحر في البعيد فيتذكر الأمواج وهي تضرب قاع الجرف بقوة قبل أن يخيم ظلام دامس. أقلب صفحة جديدة لعلي أستوعب شيئًا، لكن ذاك النعيق لا يدعني وشأني. لقد أحضرت الضوضاء وعويل طيور جلم البحر إلى سكون غرفتي المكتظة بالكتب المفتوحة على صفحات ازدحمت بالكتابات على الهامش. أشعر بثقل في رأسي، أستلقي ممسكًا بالكتاب دون أن أطفئ الضوء لكنّ الكتاب ينزلق من بين يديّ.
ثمة جرف مرتفع وفي القاع زجاج هائل مضيء. ثمة هدوء كامل. من خلف الزجاج أرى رفاق الطفولة يلوّحون لي بأيديهم، أنا في الأعلى أناشدهم بأن يساعدوني كي أنزل قربهم لكنهم يواصلون التلويح بأيديهم ولا يقولون شيئًا. يبقون في مكانهم. ينظرون للأعلى ويلوّحون بأيديهم ويبتسمون، أتمنى النزول قربهم لأكون معهم، كم أرغب في ذلك! أراهم يلوّحون لي ويدعونني للانضمام إليهم، أصرخ طلبًا للمساعدة، كي يلقوا بأيديهم ليتلقفوني لكنهم لا يفهمونني، يواصلون الابتسام والتلويح. في البعيد ألمح أسرابًا من الطيور قادمة نحوي، مفتوحة الأجنحة على امتدادها.. تقترب وتقترب ولكنها لا تصل أبدًا، أريد النزول إلى الأسفل ولا سبيل لديَّ، أريد أن أكون مع الآخرين خلف ذلك الزجاج في القاع قبل أن تصل تلك الطيور التي بوسعي سماع زعيقها من بعيد، السماء داكنة لكنها مشتعلة كالزجاج. أحاول الهبوط ثانية فيعاودني الفشل.. أسمع النعيق قادمًا من كلّ اتجاه.. كأنه بكاء مئات الأطفال الرضّع.. مئات الأطفال الرضّع ينتحبون تحت الزجاج كأنهم يختنقون.. مئات الأطفال الرضّع.
"أريد النزول بقربكم، سأنزل بقربكم"
لكنهم يستمرون في التلويح ولا يقولون شيئًا. ينظرون إليَّ ثم يبدؤون في التحليق تحت الزجاج السميك في قاع الجرف. أصرخ لكن بلا جدوى. أصيح بصوت غريب وكأنني أنتحب. ثمة امرأة خلفي ترغب في إلقائي بالأسفل، امرأة لم أرها من قبل.. امرأة بيضاء الوجه صغيرة العينين، وبدلًا من الشفتين لها منقار كبير معقوف، وعندما تفتح فمها تنطلق منه صيحة هائلة. أنا خائف.. خائف جدًّا لأنها تتعقبني. وسرعان ما تتلقفني بذراعيها المفتوحتين كي يلقيا بي إلى الأسفل. وحتمًا سأحطم الزجاج في القاع لحظة اصطدامي به. وإن حطمته فسيطير رفاقي إلى الأعلى ولن أستطيع اللحاق بهم، عليَّ النزول بأيِّ طريقة قبل أن تزج بي تلك المرأة، وقبل أن تطالني تلك الطيور القادمة من بعيد. عليَّ تدبر أمري كي أنزل.
ما أن وضعت قدمي حتّى انزلقت فهويت إلى القاع وهشّمت الحاجز الزجاجي ثم...
ما زال يُسمع في حجرتي نحيب طيور جلم البحر الذي أحضرته بنفسي من فوق قمة الجرف، عندما أعيد فتح الكتاب متثاقلًا بعينين نصف مغلقتين، أسمع صراخ جلم البحر الذي حلق منخفضًا فوق رؤوسنا ثم اختفى في حلكة الليل، كانوا مثل أطفال رضّع يبكون أثناء عودتهم إلى الأرض في الظلام.
للحظة أحسست بأنها أنستني كلَّ شيء. أنستني الكلمات المكتوبة بين ثناياها.. أنستني الخوف من الغد.. والآن ها أنا أحدّق إلى هذه الصفحات القبيحة وأتمنى لو أطير عائدًا إلى الجرف، علِّي أجد ما يواسيني فأمكث هناك، أسترق السمع لجلم البحر حتّى فجر الغد.
أطفئ المصباح لأنام.. تصرخ الكلمات بلا معنى في وجهي.. أغلق عينيّ لعلِّي أجد السلوى.


إيمانويل ميفسود

* من مجموعة درت حول الأرض
أعلى