ليث الصندوق - ألبساطة منهجاً وموضوعاً الشاعر نامق سلطان أنموذجاً

بودّي أن أنصح القاريء ألا يطمئنّ لهذا الشاعر ، فهو سيستدرجه من حيث لا يدري إليه بادعائه البساطة التي يتحوّط لتمويهها بمرادفات وصيغ عدّة ، بعضها قد يبدو قريباً منها ، وبعضها غير ذلك . وسيجد القاريء المستدرج بعد فوات الأوان نفسه ملزماً بالانخراط في إكمال اللعب وحلّ الألغاز والأحاجي ، وعبور الموانع والفخاخ التي نصبها الشاعر له . ولعل هناك ثمة مقومات يستعين بها الشاعر لإنجاح مخطط الإستدراج في المقدمة منها الإستعانة بآلية قديمة ما زال يراهن على فعاليتها وإمكانية استخراج الجديد والواعد منها متمثلة بقصيدة الموضوع التي تتحقق من خلال وحدته ، مع إثرائها بالموازنة مع الجوانب الشكلية موازنة لا تفرّط عن أي جانب لصالح الآخر .
وفي إطار الموضوع تتداخل عدّة نصوص غائبة يمكن تعقب مرجعياتها سواء في حقل الأدب أو في حقول موازية أو مجاورة أخرى كحقل التاريخ أو الميثولوجيا ، وعادة ما يُستحضر ذلك الغائب على هيئة صور متلاحقة تُشكّل بمجموعها مشهداً أقرب ما يكون للفلم السينمائي ، حيث الغزاة الذين يعبرون السور ، وآثار السهام على الجدران ، ووثيقة الإستسلام المثبتة بخنجر ، والأنبياء المطرودون من أقوامهم . وحتى عندما يفلت النص من أسر الموضوع الواحد فأن شبكة الصور المتفرعة عن الموضوع الأساس تبدو منضومة في خيط رفيع لا يكاد ينقطع بدءاً من العنونة وحتى السطر الأخير ككتلة متماسكة من العسير إزاحة أي وحدة بنائية مهما صغُرت منها دون أن يُخلخل ذلك كامل البناء .
والمغري في مواضيع الشاعر أنها في الغالب تُصبّ في قالب سردي بشخصيات محورية وأحداث متزامنة وفق تعاقب لا يمليه منطق السببية ، ولكن تمليه ضرورات البناء ، وحتى عندما لا يتجلى الموضوع الواحد بحدث محوري لتلك السرود فإن سلاسة تعاقب الصور وتدفقها ، وتوالدها من بعضها من دون أن يكون هناك رابط منطقي ، كل ذلك يوحي باستنادها إلى قاعدة سردية مقصودة ومحددة . بيد أن تلك السرود هي ذات صوت واحد هو صوت الشاعر ، ووجهة نظر واحدة هي وجهة نظره ، وحتى عندما يُفرد الشاعر نصاً بكامله لمخاطب ما يخصصه للتوغل فيه إلى الطبقات العميقة من خصوصياته على طريقة الراوي العليم ، فإنه يعزل المخاطب المعني دون أن يمنحه فرصة التعاطي والرد وينفرد لوحده في الحديث عنه مما يدفع القاريء إلى تأويل الموقف بكون ذلك المخاطب ليس سوى هو الشاعر نفسه ، وأن الخطاب ليس سوى نوع من المونولوجات المموهة . والحال هو ذاته في النصوص التي يستعير فيها الشاعر خطاب الجماعة حيث تبقى وجهة النظر واحدة حتى في تمحورها الموضوعي حول شؤون فردية خالصة وبما لا يتواءم مع التعدد الجماعي المفترض ، مما يجعلها أقرب إلى خطاب الفرد / المتكلم منها إلى تعددية الخطاب الجماعي .
أما من الناحية العاطفية فربما يكون دافع الحميمية التي يشعر بها القاريء تجاه تلك المواضيع أنها هي ذاتها مواضيع القاريء ، يتوحد فيها الشاعر معه ، ويحرضه على المشاركه معه في خبرته وتجاربه واستعادة ماضيه بدءاً من الطفولة التي كثيراً ما تحضر في ذكريات الطفل الذي كانه ( الشاعر ) وهو يركض حافياً في دروب القرية ، أو ينتظر مع أترابه الأعياد بثياب رثة وآباء غيبتهم الحروب ، أو عبر الطفولة كمفهوم انتهكه الآخرون ، وانتهاءً بموضوعة الموت التي يتماحك فيها بحثاً وتوصيفاً – وهو الذي لا يعرفه – مع من عرفوه . وفي أغلب مواضيعه الأخرى ، إن لم يكن في جميعها تتحقق القراءة المنتجة تداولياً من خلال حالة من التعالق والمحاورة ما بين التراكمات الثقافية والاجتماعية للقاريء ، وبين نص الشاعر وذلك عبر أكثر من تجربة فاشلة يتقاسم مرارتها الإثنان معاً كتجربة الحرب على سبيل المثال وليس الحصر ، حيث تسمح الذاكرة الحرة التي تفتقد الحصر والتقنين للنص المكتوب بنبش طبقاتها الجيلوجية وتأويلها وكشف بنيتها المخفية تحت سطح المسكوت عنه . وفي هذا السياق تبدو الدربة والخبرة المهذبتين لغوياً ، إضافة إلى الثقافة العامة موجهات لنقل المعنى ، أو الإرتقاء به من منطقة التداول في مستواه الشعبي إلى مستوى الشعرية لتصبح ذات الملفوظات والصيغ والصور والأفكار والرؤى الخام بعد أن تلمسها عصا الشاعر السحرية نصوصاً براقة ومبهرة . ويبقى سرّ التميز لوهم البساطة المُدّعاة والتي يُعالج بها مواضيعه المألوفة ليمنحها حساسية تُعيد معها المواضيع صياغة متنها ، وتضمينه بالمفاجيء المدهش والغريب فتُنسي القاريء المناصات التي خرجت منها ، والتي تجمعه بها – وهو يدري ، أو ربما لا يدري – أكثر من آصرة ، فيتلقفها بانبهار من يبحث عن الذهب في أرض واعدة .
والبحث عن مصداقية ادّعاء البساطة لدى نامق سلطان ، وتفكيك آلياتها ليس مجرّد ادّعاء ترويجي ، أو مغالطة رؤيوية ، بل هو أحد سنن البحث عن المعنى لديه ، فهو شاعر بسيط إلى درجة الريبة ، أو بالأحرى إلى درجة الإدهاش ، يتستر وراء بساطته ، أو ادّعائها من أجل إلا يلفت الإنتباه إلى نيّته في تفجير نصوصه من داخلها ، وبذلك يطمئن القاريء ويقتاده طائعاً إلى مناطق الإنفجار من دون أن يُمنح فرصة للإستعداد ، والتزوّد للرحلة بأدوات ولوازم مقاومة وإطفاء الحرائق . إنها قصائد مضللة بمهارة وذكاء ، تتوارى أكثر من طبقة تحت طبقتها الخارجية ، أو تحت طبقة البساطة التي لا تكتفي بادّعائها ، بل تسعى لتؤكدها عبر المنظومات الإشارية التي تتخذ منها مفاتيح إجرائية للدخول إلى المتون ، فكل مفردات القاموس الحياتي خاضعة لهذا التوصيف ، أو مقاربة له . ومن أجل إقناع الآخر بصدق التوصيف يلجأ إلى أحد خيارين أو كليهما معاً ، فأما تكييف الموصوف بتحويله من عنصر لغوي مجرّد إلى كائن أليف وملموس وقابل لتفعيل حميمية القاريء ، أو بتفجير طاقة الصفة بوضعها في سياق مرادفات بديلة :
من حياتي التي قضيتها بينهم
ظفرتُ بحكمة واحدة
لكنها كانت بلا جناحين
حكمة بسيطة
وهكذا تمّ تفكيك بنية الصفة / البساطة من خلال تفكيك دلالة الموصوف / الحكمة ، فبساطتها ( أي الحكمة ) لا تتأتى من كونها عاجزة عن التحليق ( بلا جناحين ) فحسب ، بل هي إضافة لذلك :
1 – لا تُحسن حتى عبور شارع مزدحم
2 – لا تتقن السباحة في نهر صغير
3 – مرتابة / تُفضّل أن تمشي شهراً
4 – تبحث عن جسر آمن
5 – تُغلقُ الأبواب على نفسها
6 – تخاف أن تعبث الريح بشعرها
لكنّ الإحالات السابقة تُشير للدال البسيط / الحكمة مجازاً بمدلول آخر غير الذي تواضع عليه الناس وتناولته بالبحث مدارس الفكر والفلسفة ، وانقادت إليه الأعراف الإجتماعية ، فالشاعر يتحدث عن شيء ، ويعني شيئاً آخر مستعيناً برؤية جديدة لتقنيات البلاغة بحيث يُعيد تركيب الدلالات ، بله تخليقها من جديد ، مؤكداً بذلك أن مفهومه للبساطة هو الآخر خاضع لتأثيرات المجاز الذي يمنحه القدرة على المناورة وإعادة البناء .
وعبر استفهامه الإنكاري ( لماذا عليّ أن أجيب على أسئلة غامضة ) يعلن الشاعر انتماءه للبساطة والوضوح من خلال الإيحاء برفضه لنقيضهما / الغموض ، بل هو يعلن ذلك الإنتماء من خلال تبني ملفوظات البسطاء من الناس دون أن يتعدى ذلك بالتأكيد إلى تبني رؤاهم ، وفي هذا السياق لا يكتفي الشاعر بتبني الملفوظ / البسيط ، بل تضمينه إدانة المتسترين وراء نقيضه / التعقيد الذي هو مثله قابل للتنكر بأكثر من مرادف وصورة ، فعلى غير المعهود يستعين الشاعر بملفوظ يتبناه العامة لتحريف دلالة الفلسفة وإلحاقه بنقيضها بالرغم من أن الملفوظ المحرف / التفلسف هو من جنس الدال / الفلسفة . وهذا المحرف يعني في لغة العامة المبالغة في اجتراح الفكر ، وتصنع العقل والحكمة . بيد أن استعانة الشاعر بهذا الملفوظ لا تعني بأي شكل من الأشكال تبني دلالته واستبدالها بدلالة الدال الأصل كعلم ، بل لفضح زيف من تنطبق عليهم الدلالة المحرفة ، والذين يربط الشاعر ممارسة انحرافهم الفكري بظرف خارجي يتسترون وراءه / ألعتمة ، مع ملاحظة الإستخدام الذكي والنقيض لذات الملفوظ المحرف عندما لا يعني أهل العتمة ، بل يعني ( الدواب التي لا تتفلسف ) ويمكن عدّ الدواب في المقبوس باعتبارها نوعاً من الإستعارة العنادية وذلك لتعاند طرفيها ( المشبه / أننا ) و ( المشبه به / باقي ألدواب ) حيث أن العلاقة ما بين الطرفين ليست المشابهة بل المنافرة ، ولعل الشاعر أراد من مغالاته في التشبيه خلق حالة من التهكم :
وهناك من يتفلسف
عندما تشتدّ العتمة
ولا يبقى من أمل سوى أن نرفع أصواتنا
كي نطمئنّ إلى أننا ما زلنا ندبّ على الأرض
كباقي الدواب التي لا تتفلسف أبداً
وتنقل الدوافع التبسيطية الشاعر إلى منطقة أخرى أكثر اتساعاً ، وأكثر انفتاحاً على كلّ المناطق البسيطة المجاورة ، إلى الحياة التي لا أقول أنها أكثي تعقيداً لكي لا أربك القراءة :
( لن تكون الحياة أبسط من ذلك
سأدور حولك مثل رحى
اطحن المسرات الناعمة
من أجلك
ومن أجل العصافير
التي خلفتها الحرائق
بلا مأوى )
ولتتبع مسوغ الوصف بصيغة التفضيل ( أبسط ) نبحث في المقصود بالأداة المركبة ( ذلك ) عائدين مع الشاعر إلى نقطة البداية حيث الإستهلال بسلسلة أفعال إنسانية حميمة تمّ تحديدها ككتلة لغوية متماسكة بحصرها ما بين فعل ( نحاول ) المسبوق بلام الأمر ( لنحاول ) المكرر مرتين ، الأولى في بداية السلسلة ، والثانية في ختامها على شكل قوسي الإبتداء والانتهاء ، تعقبه مباشرة الإحتمالات المتوقعة من تنفيذ سلسلة الأفعال مسبوقة ب ( ربما ) التي يختلف اللغويون في تخصيصها للتكثير أو التقليل ، وهو اختلاف لا يُلزم الشاعر في شيء ، ما دامت السلسلة الفعلية مقصورة على التبادل العاطفي ما بين فاعلين هما المتكلم / الشاعر والمخاطب / إمرأة ما ، والغاية من التبادل ليس من أجل تحقيق تقاربهما وتواصلهما ، فهو أمر متحقق بداهة ، ولكن من أجل تحقيق حسن التواصل مع الفضاء الأوسع بشقيه الطبيعي والإنساني ، أو كما يمكن أن يُفهم مع :
1 – ألطبيعة متمثلة ب ( ألغيمة التي أمطرت بهجة )
2 – وكذلك مع الآخرين ، أو مع الأسوياء الذين هم بلا شكّ أفضل الآخرين :
( .. ألأسوياء الذين يُبادلوننا
فرحاً بفرح
وزهوراً بفراشات )
مع ملاحظة أن ثاني المبادلتين مع الآخرين / الأسوياء ، أي مع ( الزهور بالفراشات ) هي في الواقع من نواتج التواصل مع المجموعة الأولى / الطبيعة ، وليست من نواتج عالم الآخرين إلا في المجاز ، وما انتقالها من عالم الواقع إلى عالم المجاز إلا لإزالة الفواصل ما بين العالمين وتحقيق التواصل والتداخل ما بين المجموعتين من جهة ، ومع الكتلة البشرية الثنائية ممثلة بالشاعر والمخاطَبة من جهة ثانية . وتلك مفارقة من مفارقات الشاعر أن تقود سلسلة الأفعال المركبة والمعقدة الحياة ليس باتجاه البساطة فحسب ، بل باتجاهها في صيغتها الفضلى ( الأبسط ) المشار إليها بالأداة ( ذلك ) . ويبقى هذا مجرّد حلم مرتهن بنجاح المحاولة ( لنحاول ) في إنجاز تلك السلسلة الفعلية من أجل تحقيق الصيغة المثلى للبساطة التي لن يتحقق نظيرها أو أحسن منها مستقبلاً .
ويبدو هذا النص ( النص – 24 ) من أكثر النصوص حيوية وإدهاشاً ، فهو من جانب يحتفظ بتماسكه ضمن إطار موضوع محدد متمثلٍ بحلم الحياة البسيطة ، وكذلك في ضوء توفره على عناصر سردية واضحة . ومن جانب آخر يبدو على العكس من ذلك موزعاً بشكل يصعب لمّ شتاته ما بين سلاسل فعلية متدفقة ومتداخلة ، وأحداث مهشّمة وغير مكتملة ، وشبكة من المفاجآت الصورية والتعبيرية خارج حدود التوقعات .
وليؤكد الشاعر ذات النزوع السابق لحلم الحياة البسيطة ، يقرن الحياة في ( نص – 21 ) بصفة مرادفة أخرى مع فارق في تزمين الصفتين في كل نص من الإثنين ، فالصفة الأولى ذات وجهة مستقبلية يؤكدها حرف الإستقبال ( لن ) بما يجعل من البساطة ليس حلم الحاضر فحسب ، بل حلم المستقبل أيضاً ، بينما المرادف في النص الثاني مرتبط بالماضي ، إضافة إلى أنه مرادف في الإيحاء وليس في الطبيعة ، فهو وصف لملموس بصيغة وجه شبه تتفكك معه الجملة الشعرية إلى (“مشبّه / الحياة”– “وجه شبه / خفيفة ” – “مشبه به / فساتين قصيرة “) ومن الواضح بُعد المسافة ما بين الحدين الأول والأخير والتي جسّرتها حساسية الشاعر بآلية بساطته :
عندما كانت الحياة خفيفة
مثل فساتين قصيرة
وهذا التوصيف ، أو وجه الشبه يتكرر ثانية لذات الموصوف / الحياة في قصيدة ( أبواب ) مع مشبه به آخر :
كانت الحياة خفيفة
مثل دخان المدافيء الطينية
وقد يعمد الشاعر إلى التدليل على البساطة باللون ، وليس أفضل من اللون الأبيض لتجسيدها وتمييزها بدلالة بينة تُرى بالعين ، ولا يختلف عليها الآخرون . مع التأكيد على أنّ هذا الإتفاق هو على دلالة اللون / الأبيض ، وليس على دلالة الأشياء ، فليس الناس جميعهم مولعين بالبساطة . إلا إن الشاعر يعمم بطريقة طفولية بريئة لونه ليس على الأشياء التي يتفق على دلالة بياضها الجميع ، بل أيضاً على الأشياء الملتبسة أصلاً ، فتصبح الوشايات التي لا يختلف أحد على سوادها بيضاء ، بينما تتوحّد لديه الآراء المختلفة عادة في دلالة الحكايات ، فتصبح كلها بيضاء دون تمييز :
كان يمكن للحكايات أن تدخل بيضاء
وتخرج بيضاء
والوشايات كذلك
ويسري التبسيط باللون حتى على الأضداد حين تتحول الظلمة إلى البياض ، وتتحول صفحته غير الصالحة للكتابة إلى نقيضها ( فاصل شرقي ) :
حيث يبدو الظلام صفحة بيضاء
صالحة للكتابة
ويستبدل الشاعر ثنائية اللون الضدية ( الأبيض / الأسود ) كمقابل عن ثنائية ( البساطة / التعقيد ) معلناً إنتماءه إلى البساطة من خلال بحثه ( أو من خلال الفعل نبحث الذي يجمعه مع جماعة الباحثين ) عن ما يمكن أن تكون شبيهته . والطريف هو في تقابل كل طرف من طرفي كل ثنائية مع الطرف المقابل له في الأخرى ، فالبياض في الثنائية الأولى ، والذي ( يبحث / نبحث ) عن شبيهه ( المتكلم / المتكلمين ) يقابل البساطة في الثنائية الثانية . بينما الرسالة / السوداء في الثنائية الأولى تقابل التعقيد في الثنائية الثانية ولذلك تأخر المتكلم ( أو المتكلمون ) في فكّ رموزها :
لأن الرسالة سوداء
تأخرنا كثيراً في فكّ رموزها
كنا نبحث عن ما يبدو كأنه بياض
وقد تكون هناك أكثر من ثنائية ضدية في مقابل ثنائية ( البساطة / التعقيد ) مثل ثنائيات ( الإرتقاء / الإنحدار ) و ( البداية / النهاية ) و ( المقنع / غير المقنع ) و ( ألهروب من / ألهروب إلى ) و ( ألوضوح / الغموض ) وتتبادل حدود الثنائيات الخمس الأخيرة المواقع ليس مع حدّي الثنائية المحورية الأولى فحسب ، بل مع بعضها البعض سواء بالإشارة أو الإيحاء ، أو بتداخلها عن طريق تحوّل حدودها إلى صفات لحدود بعضها البعض :
كلّ نشيد أنشدته
كان بلا نهاية مقنعة
حيث يمكن أن أهرب منها
إلى نهاية غير مقنعة أخرى
تماماً
مثل هذا العالم الممتدّ
إلى أكثر من عالم غامض
ويضيف ( النص – 28 ) نموذجاً لافتاً للتفاعل والتقابل ما بين ثنائية ( البساطة / التعقيد ) وثنائية ( المعرفة / الجهل ) . فقد أفرز سياق الحديث عن الموت صنفين من الناس ، ألصنف الأول يمثله من خاضوا تجربة الموت وعرفوه ، والصنف الثاني هم الذين لم يعرفوه . وقد تمخضت عن هذا السياق الحكائي مفارقتين الأولى هي أن يدلي من خاضوا تجربة الموت ( أو بعضهم ) بشهادتهم عنه ، وكأنهم قد مُنحوا بعد موتهم فرصة العودة للحياة ثانية للإدلاء بتلك الإفادة التي تتمحور حول عدم وضوحه مقوّماً بحاستي التذوق واللمس :
( بعضهم يدّعي أنه غامض ومحيّر
فهو ليس حاراً ولا بارداً
لا حلواً ولا حامضاً
بل أن طعمه لا يُدرك )
والمفارقة الثانية أن الذين لم يخوضوا التجربة ( وهم الذين يتحدث النص بصوتهم ) يدّعون المعرفة بالموت بالرغم من أنهم أنفسهم يُشككون بصحة هذه المعرفة في ضوء اقتران إفادتهم بأداة التشبيه ( كأنّ ) التي تفيد الظنّ باعتبار أن خبرها جملة فعلية ( كأننا نعرفه ) :
نكتب عن الموت ، كأننا نعرفه
كأننا تذوقناه بأطراف ألسنتنا
وما بين الذين لم يعرفوا الموت ولكنهم أسهبوا في الحديث عنه حديث العارفين ، وبين من عرفوا الموت لكنهم اكتفوا بالإشارة إلى غموضه تتحكم آليتي البساطة والتعقيد في تحديد دوافع الفريقين .
ويقدم النص ( من ملفات بلدة آمنة ) قراءة للطبقة العميقة من نص البساطة ، أو للعلاقة ما بين التصريح بها ، وبين بنيتها وذلك عبر إشارة أولية لأمر ما يبدأ ( هكذا ) ببساطة ، من دون الكشف أو حتى من دون التلميح عن الممائل الشبيه الذي تُشير إليه هذه الأداة ، على عكس الدور التلميحي للأداة ( ذلك ) في ( النص – 24) ، وحتى من دون توضيح طبيعة الأمر المعني بالبساطة ، والذي يبقى حتى إلى ما بعد البداية ، أي إلى آخر القصيدة أمراً مبهماً :
هكذا
يبدأ الأمر ببساطة
ولكي تنطلي الإشارة على القاريء يوهمه بوضعه في المكان الذي يتخيل فيه أنه معني بالأمر وذلك بتغيير لغة الخطاب من لغة محايدة بفاعل مجرّد ( يبدأ الأمرُ ) وتوجيهها مباشرة إلى القاريء ( كأنْ يمرّ بك رجل غريب) ، تستتبع هذا المرور ثلاثة أفعال ، الأول منها مخصص للقاريء حصراً ، بينما الفعلان الآخران يتقاسمهما القاريء مع رجل غريب مع بقاء القاريء محركاً محورياً لتلك الأفعال الثلاثة بغض النظر عن دوره اللغوي فيها :
* تجلس – في ظلّ حائط
* تدعوه – إلى خبز ولبن
* يدعوك – إلى سماع بيتين من الشعر
تنساق الأحداث منطقياً بتأثير القاريء + الرجل الغريب + الأفعال الثلاثة من منطقة الرجل الغريب إلى منطقة القاريء بنفس طريقة الإنسياق اللغوي الإبتدائي التي قادت الخطاب من المنطقة المحايدة إلى منطقة القاريء ، ومن ثمّ لتقود الدعوة في الفعل الثالث ( يدعوك ) القاريء إلى سماع شطر من :
… قصة فشله في ترميم حائط
يشبه هذا الذي تستظلّ به
هذا التركيب البنائي الدائري الذي يُفترض أن يكون بسيطاً لا يتوقف عند هذا الحدّ ، فهناك سلسلة فعلية ثانية من فعلين مخصوصين لمجهولين أولهما معبر عنه بالشيئية ( لكنّ شيئاً سيتغير ) ، وثانيهما معبر عنه بالفردية ( لا أحدَ ) . هذه السلسلة الثنائية تتشكّل في أعقاب الإقرار بوجود تغيير في معطيات المشهد الأولية ، وهذا التغيير سيؤدي منطقياً إلى تغيير في النتائج . لكنّ المشكلة أنّ لا أحد يعرف كيفية التغيير :
لكنّ شيئاً سيتغير في المشهد
لا أحد يعرف كيف
التغيير المحوري في المشهد الختامي تقوده سلسلة فعلية ثالثة لا تحيل هذه المرة إلى الغريب الفرد ذاته ، بل إلى غرباء آخرين ، بعضهم راقب وآخرون أدلوا بشهادتهم ، والجميع يشترك في توريط القاريء / المخاطب بجريمة لا قِبل له بها حسب ملفات التحقيق .
هذه التركيبة البنائية المعقدة هي أحد نماذج الشاعر في بناء منظومة بساطته ، فالقاريء الذي ورطه الشاعر ليس في جريمة لا قبل لها فحسب ، بل ورطه أيضاً في المشاركة في سردية النص من خلال توجيه لغة الخطاب إليه سيورطه في ( بنت الملك ) بإيهامه في صعوبة تقدير عُمر وردة لتقود المفارقة ما بين البساطة والصعوبة في النصين ( هكذا يبدأ الأمر بسيطاً ) و ( من الصعوبة تقدير عمرها ) إلى تركيبة بنائية مقاربة لتلك السابقة مع اختلاف في توجيه الخطاب مما ينجم عنه اختلاف في القصد ، فالقاريء الذي يخاطبه الشاعر في بداية نصّه يتحول في نهايته إلى مجموعة المتكلمين ، وبذلك فهو لم يرد فحسب أن ينفي مسؤولية القاريء / الفرد وحده عن الحالة التي تردت إليها وردة ويُحمل مسؤوليتها لجماعة المتكلمين – وهو أحدهم – في صورة من صور تأنيب الضمير ، فتلك القراءة ربما لا تُستبعد وهي حاضرة بالبداهة ، ولكنها لا تمثل سوى صورة البساطة المخادعة التي يريد استدراجنا إليها وإيهامنا بها الشاعر ، لكنه إضافة لذلك أراد أيضاً أن يُنجز المعنى بثلاثة اتجاهات :
– الأول : أن يُحدد ويعزل الشخصيتين المعنيتين بالسردية ، وتحديداً وردة ووالدها .
– والثاني : أن يُفكك النص الواحد من دون أن يخلّ ذلك بكتلته الموضوعية .
– والثالث : أن يُفرد لكل من الشخصيتين نصّه الفرعي الخاص
وهذه الإتجاهات تُساهم في منح منح بنية القصيدة طابعاً سردياً مكوناً من ثلاثة مقاطع مخصصة للحديث عن الشخصيتين المحوريتين المشار إليهما في الإتجاهات الثلاثة ( وردة ووالدها الملك ) بغض النظر عن الراوي ، وعن الأشخاص المُخَاطَبين فهم خارج إطار الحدث ، وتقتصر أدوارهم على المراقبة ، وفي أحسن الأحوال على تحمّل تبعات القصور .
تتذبذب داخل هذه المقاطع حركة مؤشر الزمن في كلّ الإتجاهات ، وكالتالي :
ألمقطع الأول :
ويمكن اعتباره حصراً مروية ( وردة ) وتتجه حركة مؤشر الزمن فيه عكسياً إبتداءً من الحاضر / الآن ( من الصعب أن تُقدّر عمرها الآن ) ، ثم ترتدّ مباشرة وبحركة مفاجئة إلى الماضي ( ألتي كانت تركض على العشب ) ثمّ تعود إلى الحاضر ( صارت تكبرني بسنين كثيرة ) . وعدا وردة تتوالى ضمن هذا المقطع ألحضور الشكلي ثلاث شخصيات إفتراضية دون أن يكون لأي منها حدث فاعل ، وهي المروي له / المخاطب ( كما في المقبوس الأول ) ، والراوي / المتكلم ( كما في المقبوس الثاني ) ، والغائب ( كما في السطر الأخير من هذا المقطع ) والذي يمكن تأويل عدم اهتمامه كمظهر فعلي لغيابه اللغوي كفاعل مجهول من دون تحديد أو تسمية ( لم يعد أحدهم يهتمّ بذلك ) . ومن الملاحظ أن الدخول إلى فضاء هذا المقطع يتم بتوسط من المروي له الذي يحضر لمرة واحدة في السطر الأول ثمّ يختفي نهائياً .
ألمقطع الثاني :
ويمكن اعتباره حصراً مروية الملك المزيف والد وردة ، وتتجه حركة مؤشر الزمن فيه ابتداءً من الماضي ( لم يكن أبوها غير مقامر بائس ) ثمّ تتوقف مباشرة في نقطة ما من الحاضر ( وما زال من وقت لآخر يصيح / ” أنا الملك ” ) ، وتتعاقب في هذا المقطع حال الرجل صعوداً ونزولاً بحسب حركة مؤشر الزمن ، فالحركة باتجاه الماضي شهدت ثلاث حالات معاً :
– نزول ( لم يكن أبوها غير مقامر بائس )
– صعود ( بعد أن فاز بجائزة كبيرة )
– ثم نزول آخر ( ثمّ تردّى بخسارات متتابعة )
أما الحركة باتجاه الحاضر فأكثر تعقيداً ، فهي تجمع ما بين نزول فعلي ، وصعود إفتراضي ، ولكن يبدو أن الحالة الأولى / النزول هي التي تتحكم بواقع الرجل طيلة الوقت ، بينما الحالة الثانية / الصعود فهي حالة وقتية ومحكومة بظروفها ( من وقت لآخر … ) ولكنها مع ذلك حالة قائمة .
ألمقطع الثالث :
وهذا المقطع مخصص لوردة أيضاً ولكنه ليس استكمالاً لمرويتها / المقطع الأول ، بل هو مروية أخرى موازية لها في الزمنية ، وفي الأحداث . حيث تُستهله حركة مؤشر الزمن عكسياً من الوراء / الماضي ثمّ ترتدّ إلى الحاضر . وكما وُظفت هذه الحركة في المقطع الأول لتحقيق المقارنة ما بين حالتي وردة في الزمنين ، فهي في هذا المقطع تحقق ذات الوظيفة :
وردة التي كانت بستاناً
يبست أشجارها
وردة التي كانت معبداً
تمرّغت آلهتُها بالتراب
وردة التي تكسّرت قلوب كثيرة
عند قدميها
لا تستطيع الآن عبور الشارع
ويلتقي المقطع الأول بالأخير عبر الإشارة الزمنية ( الآن ) التي تمكّن الراوي من استعادة الزمن ومنح المقطعين صفة الإستذكار ، ولكن غاية الإستذكار تختلف في المقطع الأول عنها في الأخير ، ففي الأول يُمكّن الإستذكار من إجراء مقارنة عُمرية ما بين الراوي الأكبر عُمراً ووردة الأصغر عمراً لتبيّن كثافة تأثير الزمن على الإثنين ، بحيث يتحقق التأثير المعاكس ويصبح الأصغر أكبر بسنوات كثيرة ممن كان أكبر منه :
وردة التي كانت أصغر مني
صارت تكبرني بسنين كثيرة
أما الإستذكار في المقطع الأخير فقد تحقق في إطار الإحساس بالندم المقرون بإدانة وجَلد الذات ، ويبدو أن دافعي هذا الإحساس وقرينه غير مرتبطين بما سببته لوردة وحدها فقط خيبة الراوي ، أو بالأحرى خيبات جماعة الرواة التي يتحدث نيابة عنها الراوي بصيغة ( خيباتنا ) ، بل يبدو ان هناك عدا وردة وردات أخريات تحمّلن وِزرَ تلك الخيبات ، ما دامت تلك الخيبات لسن خيبات طارئات ، بل هنّ خيبات مزمنات :
لا تستطيع الآن عبور الشارع
إلا على عُكّاز خيباتنا المزمنة
ولا أحد منا يشعر بالعار
ولا بالأسف
_______________________________________________
ألمرفق
نماذج من نصوص نامق سلطان على موقع ال facebook
نهايات ( نص – 1 )

كلُّ نشيدٍ أنشدْتُهُ
كانَ بلا نهايةٍ مُقنعةٍ
حيثُ يمكنُ أن أهربَ منها
إلى نهايةٍ غير مُقنعةٍ أخرى
تماماً
مثل هذا العالم الممتدِّ
إلى أكثر من منحدرٍ غامض،
مثل إجاباتٍ محبوكةٍ
تقودُ إلى صمتٍ بليغ
يتكرّر،
مثل أملٍ شحيح
تنثّهُ غيمةٌ عابرة
فوق سهلٍ شاسعٍ …
هكذا تحاشيتُ أنْ أتردّى
في خيبةِ أنْ أقولَ لكم:
إطمئِنّوا.
من ملفّاتِ بلدةٍ آمنة ( ص – 2 )
هكذا
يبدأ الأمرُ بسيطاً
كأنْ يمرَّ بكَ رجلٌ غريبٌ
وأنتَ تجلسُ في ظلّ حائطٍ
في بلدةٍ آمنةٍ
فتدعوهُ إلى خبزٍ ولَبَن
ويدعوكَ إلى سماع بيتين من الشعر
وشطراً من قصةِ فشلهِ في ترميم حائطٍ
يشبهُ هذا الذي تستظلّ به.
لكنّ شيئاً يتغير في المشهد
لا أحدٌ يعرفُ كيف …
الغريبُ،
لم يكن وحده
كان هناكَ من يراقبهُ من بعيد …
ثم يدلى شهودٌ قريبون منكَ
بانّ الغريبَ أسرَّ بأذنكَ أمراً
ودسَّ في جيبكَ أوراقاً صُفراً
وأنكَ ودّعتَهُ بكيس ثقيل
وأنّ شعاراتٍ مريبةً
كانت مكتوبةً على الحائط
ما زالت صورُها
محفوظةً في ملف التحقيق.
إبنة الملك – ( ص – 3 )
من الصعب أن تُقدِّر عمرها الآن
وردةُ ابنةُ الملك
التي كانت تركضُ على العشب
دون أن يتكسّر
وتعرفها العصافيرُ، كأنها شجرةٌ
أو أغنيةٌ بجناحين من أحلام ودلال
وردةُ التي كانت أصغر مني
صارت تكبرني بسنين كثيرة
لكنْ
لم يعد أحدٌ يهتم بذلك.
*
لم يكن أبوها غير مقامر بائس
توهّم مرّةً أنه صار ملكا
بعد أن فاز بجائزة كبيرة
ثم تردى بعدها بخساراتٍ متتابعة
إلى أن باع وردةَ لمقامر وسخ
ومازال من وقت لآخر يصيح
“أنا الملك”
*
وردةُ التي كانت بستاناً،
يبستْ أشجارُها.
وردةُ التي كانت معبداً،
تمرّغتْ آلهتُها في التراب.
وردةُ التي تكسّرتْ قلوبٌ كثيرة
عند قدميها
لا تستطيعُ الآن عبور الشارع
إلا على عكاز خيباتِنا المزمنة.
ولا أحدٌ منا يشعر بالعار
ولا بالأسف.
قناديل الغَجَر ( نص – 4 )
ليس هناك من سببٍ
يجعل الأضواءَ تنطفئ
في ذلك الكوخ الوحيد في الوادي
حيث تعيشُ عائلةٌ
خلّفَتْها قافلةٌ من الغجر
مرّتْ من هنا قبيل الحرب …
*
كان الطريقُ الترابي
يمنح الصبايا فرصةَ أن يظهرن فجأةً
كما لو كُنَّ ظلالاً
لنباتاتِ عبّاد الشمس
التي تملأ الوادي نهاية الربيع،
لا أحدٌ يعرفُ عددهن بالضبط.
أحياناً يدُرن على البيوت
يعرضن مصوغاتٍ فضيةً
وعطوراً
ووصفاتٍ سحريةً لطرد النحس
لكنهن لا يفصحن عن أسمائهن
ولا أعمارهن التي يقال إنها
لا تتغير …
أما الرجال
فلا يظهرون أبداً
لعلهم يحرسون القناديل
التي لا تنطفئ
طوال الليل.
*
نحن أيضاً
عرفنا كيف نتوهج
في تلك الليالي الدافئة
على صوتِ ربابةٍ يأتي من هناك
ومغنيةٍ تردد لحناً من زمن آخر
لتنفتحَ الشبابيكُ على نجوم
تضيءُ أحلاماً صغيرة
تَعَوّدنا أن نخبّئَها
في أكثر الأماكنَ برودةً
من نومنا الموحش.
*
ليس هناك من سبب واحد
يجعل النجوم تخبو
في سماء الوادي …
لكنها الحرب.
قوس قزح أسود ( نص – 5 )

كان ذلك في صيفٍ بعيدٍ
لكنني أتذكّرهُ جيداً
كانت أمّكِ تخيّط لكِ فستاناً أحمر
وأنتِ تجلسين على الأرض …
على الأرض تجلسين
واجمةً
كأنك لا تسمعين صوتَ الماكنة
بينما عيناك ترقبان النهار الآفل
في النافذة
والماكنةُ تدور
أنتِ لم تري أباك منذ عامين
لكن صوتَه مايزال يملأ قلبكِ …
منذ عامين لم تري أباكِ
وغداً عيدٌ
فماذا لو لبستِ أحمرَ أو أخضر
كان يقول: لا تلبسي الأسودَ أبداً
فأنتِ صغيرةٌ
ومازلتِ طريّةً مثل طين الحقول
سنزرعُ فيك فرحاً لا يذبل
وقوسَ قزح من أحلام
وأمنياتٍ صغيراتٍ …
صوتُهُ مايزال في الغرفةِ
والماكنةُ تدور
وصورتُهُ على الجدار
بأربعةِ أشرطةٍ سود
على ذراعهِ الأيسر
مثل قوس قزح
أسودٌ.
( نص – 6 )
سأعودُ مرّة أخرى إلى الشوارع،
ولكنْ،
ليس كمتسكع هذه المرّة
فلقد تذكرتُ أن هناك أفكاراً عظيمةً
تساقطتْ منا
عندما كنا نعبرُ من رصيف إلى آخر
أو نخرجُ مسرعين من حانةٍ أو مقهى
لندركَ ما فاتنا من إجاباتٍ
على أسئلةٍ
كانت هي الإخرى
حائرةً مثلنا
( نص – 7 )
بلغةٍ بسيطةٍ
يفهمها طفلٌ
يركض حافياً في دروبِ القرية
من أوّل المطر إلى آخره،
سأحدّثكِ عن الطين.
.
أمنية ( نص – 8 )
أتمنى أن لا أعرفَ عن هذا العالم
أكثرَ مما تعرفُهُ شجرةٌ في وادٍ
أو غيمةٌ منسيةٌ فوق حقولِ القمح.
هكذا ستولدُ بين أغصاني عصافيرُ كثيرةٌ
ويمرحُ في ظلّي مغنون
ويستريحُ أنبياءٌ مطرودون من أقوامهم
هكذا سأطوفُ في الأسواق حافياً
ومن جعبتي تطيرُ فراشاتٌ وهدايا
لمن أخطأتهُ الحياةُ،
مثلي.
البرزخ ( نص – 9 )
منذ أنْ نجَحنا بالهروبِ من الكارثة
وأنا أقولُ لكَ:
ربما نحن، يا صاحبي
نركضُ في الإتجاهِ الخاطئ،
فالذين هربوا قبلنا
لم يخلّفوا أثراً من دمٍ في الطريق
ولا رائحةً من فوزٍ مزعوم،
والذين سرّبوا لنا الخارطةَ
لم نقرأْ سجلَّ خياناتهم
في تراث الذين انتهوا قبلنا.
فهلّا أقمنا هنا
في الحقول المحروقةِ
حتى يدركَنا شتاءٌ تأخّرَ عن القافلة
فيملأ الآبار المهجورةَ.
عندها يمكن أن يصير أحدُنا دلواً
والآخرُ فزّاعةً
تلوّح للهاربين
كي يقيموا معنا
في البرزخ.
حريق ( نص – 10 )
كان الحريقُ قد أتى على المنزل
ولحسن الحظّ لم يُصَبْ أحدٌ بأذى
-هكذا يقول الشهود-
لكنني بحثتُ عن قارورةِ العطر
هديتكِ التي أخفيتُها بين الملابس
بحثتُ عن صورنا
ونحن نراوغ الحزنَ من يوم لآخر
عن الساعةِ التي تعطلت قبل سفرك
بيوم واحد
حتى صوتُ خطواتِك الأخيرة
لم يبق منه شيء …
الآن، إذنْ
يمكن أن أقول
أنني صرت وحيدا.
فاصلٌ شرقي ( نص – 11 )
حين رفعتُ رأسيَ أول مرة
كانت السماءُ واطئةً
وسقفُ البيت واطئاً
حتى أنني كدتُ ألمسُ الحقيقة
بأطرافِ أصابعي
دون حاجةٍ إلى النهوض من السرير
وكنتُ أهربُ من العائلة
كلما لاح لي ضوءٌ من ثغرةٍ في اللغة
أو سمعتُ هاتفاً ينادي من خلال القصب:
إذهبْ إلى المياه
إذهبْ إلى مربط الشمس
إذهبْ إلى الرمال
حيث يبدو الظلامُ صفحةً بيضاء
صالحةً للكتابة
وللأحلام
ولمزيد من المصابيح …
وكنتُ أذهب حافياً
على سجادة من حصى ناعم
فأصادفُ بين الصحراء والشاطئ
عرباتٍ تجرّها بغالٌ
وشعراءَ تائهين بين أطلالٍ مهجورةٍ
وفلاحين يدفعون أتاواتٍ إلى أفاقين
وينتظرون المطر القادم من بعيد
كما كنا ننتظر الأعياد، بثيابٍ رثةٍ
وآباءٍ غيّبتهم الحروب
كنتُ أرى راياتٍ خضراءَ وسوداءَ
تحجبُ الضوء
وتاريخاً يشبهُ الفكاهةَ المُرّة
وجغرافيةً تضيقُ وتتسع
حسب قواعد السوق التي لا أفهمها،
حتى إذا ما عبرتُ سواد يقيني
وعُدتُ بأكتافٍ متعبةٍ
لم أجد بُدّاً من امرأة
تشبهُ فكرةً جديدةً ما زالتْ غامضةً
من هذه البلاد التي لا تمل
من مواصلة الحياة.
أبواب ( نص – 12 )
في البدايةِ
لم تكن فكرةُ الأبوابُ سيئةً
ولا قاسيةً، كما هي الآن
كان يمكن للحكاياتِ أن تدخلَ بيضاءَ
وتخرجَ بيضاء
والوشاياتِ كذلك
وصيحاتِ العراكِ التي تنتهكُ الليلَ
وغالباً ما تنتهي
دون أن تثير حفيظةَ المغلوبين.
كانت الحياةُ خفيفةً
مثل دخان المدافئ الطينيةِ
في الشتاء
أو مثل أرواحٍ شِريرةٍ
تعودتْ أن تقيمَ معنا
ولا تفعلُ ما يعكّر علينا نهاراتنا
لكنها في الليالي التي تخلو من النجوم
ينتابُها مللُ البطالةِ
فتعبثُ بنومنا
وأسِرّتنا
كأنْ تستبدلَ نساءنا بأخرياتٍ لا نعرفهن
أو أنْ تُعيدَ إلينا أحلاماً مرحةً
من حياةٍ سابقةٍ
في هيئة كوابيسَ أحياناً.
مرتزقة ( نص – 13 )
بضعةُ رجال مسلحين
لوثوا هواء المدينة
وروّعوا أشجارها …
لا أحدٌ يعلم من أين جاءوا
ومن أين لهم تلك البنادق
التي تلمع حتى في الظلام
ربما يكونون من فضلات الليل
فهم لا يشبهوننا أبداً
وليس في أصواتهم طراوةُ لكنتنا
لكنهم يحفظون وجوهنا
وأسماءنا
ويعرفون الشتائم التي نُسِرُّها
حين يمرون مسرعين
في الدروب الضيقة بين البيوت
تاركين ظلالاً كثيفةً على الجدران
وعلى الأبواب التي تئنّ
من قسوة رفساتهم.
( نص – 14 )
بعض الصور توحي أَننا من عائلةٍ واحدةٍ
ربما يكون أحدنا قد ولد على شاطئ نهر
فنفذ الدفءُ إلى قلبه
والآخرُ عاش بين أغصان شجرة
فنبتتْ له أجنحةٌ وريشٌ ناعم
وهناك من ورثَ دماً على أصابعه
وما زال يغسلُه بأدعيةٍ وصلوات
حتى صار قلبُه أبيضَ من ضوءٍ.
*
سنعبر جميعاً هذه المحنةَ الباردة
حتى وإن سقطتْ أوراقُنا كلّها
فهذا الخريفُ يحفظ القلوبَ من التلف
فلا تحفظي حروفَ اسمي
في دفتركِ المدرسيّ
فهي سرعان ما تتمزق
ولا تثبّتي شعركِ بمشابكَ من ذهبٍ
فالريحُ تريدكِ هكذا، واضحةً
مثل جدول صغير
وربما أكون أنا القصبةَ التي نبتت
على ضفافكِ
لتصير ناياً عندما يدركها الحزن.
*
سنعبرُ المحنةَ
حتى لو ضاقتْ الدروبُ أمامنا
وتعالت الجبال
وانحدرتْ سيولٌ من الأعالي
فلا تُثقلي رأسك بالنّدم على شيء.
*
ألسْنا من عائلةٍ واحدةٍ:
نحنُ، والطيورُ المهاجرة
والأشجارُ
وبناتُ آوى
والسلاحفُ …
( نص – 15 )
هكذا أو هكذا
ستفقدُ، في النهاية، قدرتكَ على الحزن
مثل حصانٍ جاءوا به إلى المدينةِ
وحجبوا عينيه،
كي تبقى أحلامُه تتأرجح في عربةٍ يجرها
ثم تبدأ بالذبول
شيئاً
فشيئاً.
*
مبكراً
أدركتُ أنني ذاهبٌ إلى حربٍ ما
بصحبة أصدقاء أبرياء
كان يقرّبُنا ضحكٌ من اليأس
وقدرةٌ على التسلل من معسكراتِ الموت
إلى حاناتٍ في وسط المدينة
ثم العبورُ على حبل رفيع
فوق خنادقَ من تاريخ زائفٍ ودسائس
نرددُ أغانيَ قديمةً لا تتعفن
أو نحاولُ أفكاراً عصيةً على الوقت
تشبه قصب الأهوار
التي نراها من نوافذ القطاراتِ المعتمة
عندما كنا نحشر فيها
مثل أوراق مهيئةٍ للحرق.
*
كان الجندي يعيد الحكاية ذاتها
واللجنةُ الطبيّةُ تصغي جيداً
لكنها لا تفعل شيئاً
حتى تعبَ الجندي من الحكايةِ
والحصانُ تعب من الركض
فلم يعد يصغي إلى أحدٍ.
( نص – 16 )
في اليوم الأول من كل شهر
أزور المدينة لحاجتين فقط،
أتفقد صندوق بريدي أولاً
ثم انتظر في مقهى شعبي صديقاً
ما زلت مديناً له باعتذار
لأنني تأخرت عنه في آخر موعد بيننا
قبل عشرين عاماً.
*
في المقهى
تزداد المسافةُ بيني وبين المغني
بينى وبين رائحة المقاعد الخشبية
أما الزبائنُ، فقد تعوّدوا علىَّ
حتى أنهم لا يأبهون لعبارات التذمر
التي تخرج مني من وقت لآخر،
وكثيرا ما ينتظرون أن أحكي لهم
قصصا عن أشجار غريبة، وغابات،
وشواطئ من رمال ملونة
ومخلوقات لا تشبهنا
تعيش هناك.
*
سأمُ الثانية بعد الظهر
يقود قدمَيَّ إلى أماكن عرفتُها
عندما كانت بيوتُها
تبدو مثل أحلام فراشات لم تكتمل
أصغي إلى بابٍ يتنفس
ستارةِ شباك تتثاءب
غصنِ شجرةٍ يهتز فجأة
ماءٍ يقطر من حنفية
دِق
دِق
دِق
دِق
.
.
*
في آخر النهار
أعود خفيفاً إلى معتزلي
إلّا من دَين في رقبتي
أحملهُ منذ عشرين عاماً.
في ذكرى صديقي الموسيقي ( نص – 17 )
صمتٌ مريبٌ، هذا الصباح!
لم أسمع سيارةَ أسعافٍ
مع أن المستشفى ليس بعيداً
حتى أن رائحة الفورمالين
مازالت تملأ الشارع الذي يفصل بيننا
وتلوّث أصواتَ العصافير في الحديقة القريبة
حيث يجتمع الزوار قبل العاشرة صباحا
يستقطرون الأملَ من التبغ
ومن الصمت الذي يجثم على رؤوسهم
بينما النساء ينثرن على العشب
صلوات من فُتاتِ لغةٍ ومخاوف
وهذا ما يجعلني أتذكّر الله
بكثير من العتب
أتذكر القرى والمسرات الصغيرة
التي تروّض المآسي قبل أن تنضج
أتذكر الصبيَّ الذي تعلم العزف
على ربابة من الصفيح
وكان يبحث عن طيور تختبئ في القصب
ونحن نتبعه مثل جوقة من منشدين صغار
ثم حين كبرنا قليلاً
قيل أن ساحرةً خطفتهُ
في ليلةٍ باردة
لم يكن يقوى فيها على الغناء.
*
واجهةُ المقهى خاليةٌ
وصوت المغنية، لا يصل
عربات بيع الملابس المستعملة،
خاليةٌ أيضاً.
*
في طريقنا إلى الحفلة
ندسّ أحزاننا في جيوبنا
كي لا يراها الآخرون.
*
هذا يشبة اليوم الأول من حربٍ سابقة
سأبحث في جيب معطفي القديم
عن صورةٍ لصديقٍ
باع أجهزته الموسيقية في اليوم الثاني
وفي اليوم الثالث،
غاب.
( نص – 18 )
أخيرا،
عثرتُ على السور الذي
لم يصمد أمام الغزاة
عثرت على المكيدة
عثرت على ماء الوجه الذي
ما زال يسيل بين الخرائب
على نياشين القادة مرمية في المجاري
على الفأس الوحيدة قرب السور
على آثار السهام على الجدران
على صالة القمار
حيث وثيقة الإستسلام مثبتة بخنجر
على طاولة كبيرة
ذلك الشيء الوحيد الذي
ما زال على حاله.
*
ذهبت إلى المعبد
لم أجد الآلهة هناك
ولا الشياطين
كان عشبٌ يابس على الجدران
وسحالي تختبئ هناك من القيظ.
*
من أين لكِ كل هذا الجمال
أيتها البلاد التي
من بلاء وصبر.
*
كانت على بوابة الكهف
ساعةٌ تشير إلى البيادر الأخيرة من طفولتنا
إلى طاحونة الماء التي لم تكتمل
لأن النهر لم يعد إلى مكانه.
*
عثرت على الهزيمة
ترعى في الثنايا المتفسخة
في العقول.
( نص – 19 )
لماذا عليّ أن أُجيبَ على أسئلةٍ غامضةٍ
كي أعبرَ ساقيةً صغيرةً
تفصلُ بيني وبين العالم
بيني وبين ما أراهُ بوضوح أنّه شجرةٌ
وطيورٌ تحطّ عليها وتغادرها
دون أن يسألها أحد.
المشهدُ ذاته يتكرر
والأسئلةُ تُعاد دون ملل
حتى أنني لفرطِ شرودي منها
أنسى أحيانا أن أغلقَ باب بيتي في الليل
فتدخلُ الكوابيسُ إلى الحديقة
كاملةً،
وجاهزةً لترويع الأزهار الصغيرة.
*
جارتي التي لا تقرأ الشعر
تقسِمُ أنها ترى أضواءً تطوفُ قرب نافذتي
وعلى السياج
ثم تُعاتبني على أنني لم أكتب لها قصيدةً
بمناسبة العام الذي انقضى
دون مشاكل بيننا.
*
وهناك من يتفلسف
عندما تشتدُّ العتمةُ
ولا يبقى من أمل سوى أن نرفع أصواتنا
كي نطمئنّ إلى أننا ما زلنا ندبّ على الأرض
كباقي الدواب التي لا تتفلسف أبداً.
*
دعينا نقسّمُ الوقتَ بيننا قسمةً عادلةً
فرحٌ أكيدٌ لكِ
وفرحٌ محتملٌ لي.
(نص – 20)
كانت الرحلة طويلة
وشاقة
بحيث لم أعد أتذكر كيف بدأتُ
وإلى أين أريد
وقد آن لي أن أستريح قليلاً
قبل أن يحل الظلام على “خربة الملاك”…
*
عندي أصدقاء هناك فقدت أثرهم
أنا مدين لهم بأول محاولة للطيران
فوق حقول القمح
سأبحث عنهم
كما يبحث جندي عاد متأخرا من الأسر
فالتبست علية البيوت والوجوه
وفضّل الإنزواء بعيداً تحت الأشجار.
ماذا لو أخبرتُهم
بأنني ساعي البريد الذي افتقدوه
منذ عشرين عاما
وما زلتُ أحمل لهم في جعبتي
رسائل عن طفولتهم
وآمالهم التي لم تكن تبدو طائشة
حتى داهمتهم فكرةُ العام الفائت
والقطارِ السريع
ومقايضةِ الموتِ بالنقود
بعد أن كانوا يزرعون أشجار التين
بين الصخور
ولا يبحثون عن تسوياتٍ لخساراتهم.
*
لن يكون هناك مكان آخر
لتجربة أوفر حظا.
*
تسلمت، بالأمس
دعوة لحضور حفل زفاف
لفتاة كنت كتبت لها قصائد حبٍّ
لم تكتمل.
*
لقد آن لي أن أستريح قليلا.
(نص – 21)
على الطريق السريع
الذي يطل على غابة العالم
بنيتُ لي مقعداً من الخشب …
وما زلتُ أنتظرهم
منذ عامين، أو أكثر
أولئك الذين تاهوا معي في الغابة
بعد أن قطعنا نصف الطريق
إلى قلبها الغامض
قبل أن تهدأ الطيور من حولنا
ويختفي الضوء في لزوجة الهواء …
لم أكن يائسا أبدا،
ولن أكون
فلقد ربيت طيورا وأرانب
في حديقة بيتي القديم
وعلمتها كيف تميز بين أصوات الغناء
وضجة الرصاص التي تعكر الفرح
وهو يحلق عاليا
بأجنحة مضرجة بالدم.
ثم أنني ما زلت أزرع أشجارا هنا،
قرب الطريق السريع
وأغوي عصافيرا خائفة كي تمكث معي
وما زلت أعد الشاي كل مساء
ولا يأتي أحد منهم
لأروي له من ذاكرتي عن أعراس
كان يقيمها الغجر على أطراف الصحراء
عندما كانت الحياة خفيفة
مثل فساتين قصيرة

..
.
أعرف أنهم سيظهرون في مكان ما
وربما في زمن آخر
أولئك الذين ما زالوا يبحثون عن المصابيح
في عتمة ليلنا الطويل
وسوف يمرون ب قربي
دون أن ينتبهوا إلى انني جالس في انتظارهم
أراقب الشاحنات السريعة
وأستمتع برتابة الحياة
هنا في الأعالي
قريبا من الأرض.
(نص – 22)
في محطة القطار
في الصالة الباردة التي تعلوها قبةٌ مضيئةٌ
في المقعد الذي يولّي ظهرَهُ للقادمين
ثمة امرأةٌ تخفي عينيها بنظّارات قاتمةٍ
هي لا تفعلُ شيئاً، إنها تنتظر فقط
بينما تحومُ على رأسها فراشاتٌ ملونةٌ
كلما مرّ قطارٌ
سقطَتْ فراشةٌ في حضنها.
(نص – 23)
لأن الرسالةَ كانت سوداء
تأخرنا كثيراً في فكّ رموزها
كنا نبحثُ عن ما يبدو كأنّه بياض،
مثل شيئ يلمعُ في العتمة
مثل ضفدعٍ صغيرٍ يقفزُ في ماءٍ آسن
مثل قلادةٍ من نحاسٍ
مثل معلّم مبتهج بدرس التاريخ
مثل تفسير ذرق الطائر في الأحلام …
كانت الرسالةُ سوداءَ
ناصعةً.
(نص – 24)
لنحاولْ …
أنا بقراءة الرخام
وأنتِ بترويض الورق الملون …
انا بطقّ الأصابع
والضرب على الأرض، بالقدم اليسرى
وأنتِ، بالرقص حول النار
وتأجيجِ الهواء البارد من حولك.
لنحاولْ …
فربما وجدنا الغيمةَ التي تمطرُ بهجةً
على حدائقنا
والأسوياءَ الذين يبادلوننا
فرحاً بفرح
وزهوراً بفراشات …
أنا
سأسند ظهري إلى بقعة ضوءٍ
تسرّبت من سقف العالم المعتم
محاولاً سدّ فراغ في المعنى
وفي القصيدة
وأنتِ تمرّين في طريقكِ إلى المدرسة
لاهيةً عني
وأنيقةً مثل شجرة.
لن تكون الحياةُ أبسط من ذلك.
سأدورُ حولكِ مثل رحى
أطحنُ المسرّاتِ الناعمة
من أجلكِ
ومن أجل العصافير
التي خلّفتها الحرائق
بلا مأوى
وسأروي لكِ حكاياتٍ قديمةً جداً
عمّا دار بيني وبين الحطابين
عندما كنتُ حارساً للغابة.
(نص – 25)
منذ ان حلمت بأني نورس
وأنا أحاول كل يوم
أن أحلق
من أعلى جسور المدينة
فليس من اللائق
أن أكون أنا
اول نورس
يخفق بالطيران.
(نص – 26)
في هذا السباق المحموم
لن أكونَ الفائز أبداً
ولا أطمحُ إلى ذلك
فهناك ما يشغلني في مكانٍ آخر
خارج المضمار
بعيداً عن زعيق المراهنين
وعن جوائزهم
بعيداً عن الصحراء وأصنامها
والتعاليم التي تعتاش على جثث المغلوبين
هناك يمكن أن استحيلَ نورساً
أو ملاكاً غجرياً
ينفخ في بوق المعاصي البريئة
ويرقص على شواطئ هاربةٍ من الموت
في انتظار شمسٍ
ربما لا تشرق أبداً.
محاولة لاستدراج الربيع ( نص – 27 )
كل ما عليكِ فعلهُ
أن تغمضي عينيكِ تماماً
وأن تتبعي خيط العطر الرفيع
الذي يقودكِ إلى حديقةٍ بعيدةٍ …
على سياجها الأخضرَ
علّقتُ أشعاراً خجولةً عنكِ
ووروداً من ذكرياتٍ تركناها هناك
عندما غادرنا المدينةَ
ولم ندر أننا لن نعود إليها
إلا محمولين على مِحفّات الخيبة.
ستجدين هناك حشوداً في انتظاركِ
كي تقوديهم إلى رقصةٍ مؤجلةٍ منذ سنين
فهم لا يحسنون أداءها من دونكِ
رقصة الربيع الغائب
والأشجارِ التي تقصّفت أغصانُها
مذ غادرَتْها العصافيرُ
والنساءِ اللواتي تهدّلتْ أفراحُهن
في انتظار أعيادٍ ذهبتْ إلى الحقول
ولم تعد.
ربما لن تجديني بينهم
لكنني سأرقص
بكل ما أوتيتُ من طفولةٍ
سأكونُ البستانيَّ العجوز
والمغنيَ الذي لا يتعب
والنافورةَ التي يعلو ماؤها في سماءِ الرغبة
والربيعَ الذي يُمكن استدراجه
إلى حيث تكونين
مغمورةً بالفرح.
( نص – 28 )
نكتبُ عن الموت، كأنّنا نعرفُهُ
كأننا تذوقناهُ بطرف لساننا
فوجدناه مرّاً
وتلمسناهُ باصابعنا
فكان أملسَ مثل أفعى
وبارداً مثل كهفٍ تأوي إليه الضباع
في ظهيراتٍ الصيف اللاهبة.
الذين عرفوهُ قبلنا
لم يقولوا عنهُ ذلك
بعضهم يدّعي أنّه غامضٌ ومحيِّرٌ
فهو ليسَ حاراً ولا بارداً
لا حلواً ولا حامضاً
بل أن طعمَهُ لا يُدرك
بسببٍ من مخاوفَ غير مفهومة
ورثناها ولم نفحصها جيداً
لأننا لا نريدُ أن نعرف
قبل أن نجربَ الأشياء الأليفة
كالموت
ذلك الذي لا يفسدُ مع الوقت
ولا يهرم.
*
ويقولون أنه كثيراً ما يضلُّ طريقَهُ
فحين تراه امامك مباشرة
فربما هو يقصد ابنك، أو أخاك
أو شخصاً آخرَ لم يخطر على بالك
قبل أن ينفجر إطارُ السيارة
التي مرّتْ مسرعةً جنبك …
*
وما زلتُ أتساءلُ
من المُترفُ ومن البائسُ
في نظر الموت؟
( نص – 29 )
من حياتي التي قضيتُها بينهم
ظفرتُ بحكمةٍ واحدةٍ ،
لكنها كانت بلا جناحين
حكمةٌ بسيطةٌ
لا تحسنُ حتى عبورَ شارعٍ مزدحمٍ
ولا تتقنُ السباحةَ في نهرٍ صغير
حكمةٌ مرتابةٌ
تفضّلُ أن تمشيَ شهراً
تبحثُ عن جسرٍ آمن
أو تغلقُ الأبوابَ على نفسِها
خوفاً من أن تعبثَ الريحُ بشعرها.
*
كان يمكنُ أن أتعلّم خيراً منها
لو أنني عشتُ بين عصافيرَ
أو نباتاتٍ متسلقةٍ
أو حتى بين ذئابٍ
تأبى أن تروَّضَ على الذل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى