رسالة من جمال الدين الأفغاني إلى القيصر الروسي ألكسندر الثالث

جلالة إمبراطور سائر راضي روسيا ألكسندر الثالث
عظم الله شوكته، آمين
13 نوفمبر 1891

مولاي.
إن طغيان الحكومة الإنكليزية في بلدان الشرق المترامية الأطراف، وتوسعها اليومي الجشع في تلك المناطق لابد أن يرغما أي شرقي شريف النفس على بذل قصارى جهده في سبيل منع هذه الحكومة من المضي قدماً في هذه القسوة والفظاظة، وتخفيف خشونتها في التعامل مع شعوب الشرق في مستعمراتها، بل وخلع هذا النير الثقيل، إذا أمكن. إن أهل العقل في الشرق، المطلعين على الأوضاع في العالم، واثقون من أننا لن نستطيع بلوغ هذه السعادة إلا إذا اتحد جميع أهل الفكر في الشرق، وأجمعت الدول المستقلة في هذه المنطقة على رأي واحد، وبذلت كل مافي وسعها في سبيل تعزيز نفوذ روسيا السياسي في الشرق، وتنسيق النهج السياسي معها.
ولما كان نشر هذه الفكرة السامية، فكرة إنقاذ شعوب الشرق، وكذلك إيصال هذا المطلب إلى جميع أهل الفكر التحررين في الشرق عن طريق الجرائد، مهمة عسيرة، فإن ذوي الاقتدار في الهند وأفغانستان ومصر، الموافقين على هذا الرأي، كلفوني بالسفر إلى باريس، والقيام بإصدار جريدة مجانية باللغة العربية هي "العروة الوثقى"، سعياً لنشر الفكرة المعنية عن طريق هذه الجريدة، وعن طريق المطبوعات الأجنبية أيضاً، لكي يقدِّر جميع الناس في الشرق حسن مقصدنا السامي، ويبذلوا قصارى جهدهم لبلوغه، وكذلك لإطلاع الحكومة الروسية على آمال شعوب الشرق. وعلى امتداد أربع سنوات اشتغلت في باريس بهذه القضية الهامة، وفقاً للمطلوب.
وليكن في علم جلالتكم بالطبع أن أهل الاقتدار الذين اختاروني للقيام بهذه المهمة وجدوا أن إصدار الجريدة كان له نتائج إيجابية في الشرق. فقد أيقظت العقول، وأزالت الشكوك بروسيا، وقرَّبت بين آراء شعوب الشرق. (مثلا: بخصوص مشكلة كشمير، ومشكلة هشتاوان وخرسان، وتفاعلات جديدة أخرى لتوسع إنجلترا في إيران). لذلك نصحوني بأن عليَّ:
أولآً: من أجل نشر هذه الأفكار أن أسافر في البداية إلى إيران، ثم إلى بطرسبورغ، لكي أعمل ما في وسعي من أجل إحاطة جلالتكم علماً بأفكار العقلاء في الشرق. وحال وصولي إلى طهران رأيت أن جميع فئات المجتمع، من وزراء وعلماء وتجّار وغيرهم، يتعطشون لتقوية سياسة روسيا في الشرق. وخلافاً لذلك، رأيت أن تأثير روسيا على إيران بلغ الحضيض في الواقع، في حين تعاظمت هيمنة إنجلترا إلى درجة تجعل من الضروري أن نسمي تلك الهيمنة استعماراً، وليس نفوذاً سياسياً. ويعود السبب في ذلك إلى فكرة الشاه الباطلة بشأن الفكرة التي طرحها العثمانيون قبل خمسة عشر عاماً أيضاً بأنه يجب إرضاء الإنكليز بجميع الوسائل الممكنة، ليقفوا سداً منيعاً أمام روسيا. ولبلوغ هذه الغاية سلّم (الشاه) زمام الأمور كلّية لجاهل غِرّ طمّاع، إذْ لم يؤيد الشاه في هذا التوجه غيره. إلا أن هذا الغِرَّ الفاسد الأخلاق لا يتصرف وفقاً لآراء الشاه، وإنما يدفعه فساده إلى خدمة أطماعه الخاصة، انطلاقا من أن لدى الإنكليز أموالاً كثيرة، فيحاول الحصول على تلك الأموال بشتى السبل، دون أن يفكر إطلاقاً بعواقب ذلك على الدولة الإيرانية. لقد رأيت أن القوى السياسية في الوقت الحاضر، أعني الجميع، باستثناء الشاه وهذا الوزير الفتي، مستعدة لإلغاء كل ما هو قاتم حالياً من عقود واتفاقيات هبطت بالوضع السياسي لدولة إيران إلى مستوى الولايات الهندية. ولكن، قبل البدء بتطبيق هذه المسألة الهامة، وتفادياً للخسائر البشرية والمالية الممكنة، فإنهم يرغبون بتلقي دعم أدبي ومعنوي من روسيا. وقد جئت إلى روسيا بعد أن عقدت اتفاقاً مع هذا الحزب العظيم. فالتقيت مع السيد كاتكوف في موسكو، وعرضت عليه بالتفصيل جميع آراء حلفائي في الهند وأفغانستان ومصر وإيران. وبعد أن نشر في جريدتة مقدمة مستفيضة عني وعرض فيها آراءنا، وهذا مقصدي، كتب رسالة مفصلة عني إلى السيد بوبيدونوسوف. وعندما وصلت إلى بطرسبورغ، والتقيت بالسيد بوبيدونوسوف وجّه إلى جلالتكم رسالة أرفق بها مقالة السيد كاتكوف، بينما كنتم جلالتكم في الدانمرك. وبعد ذلك التقيت بالجنرال إغناتيِف، وأوبروتشِف، وتشيرنيايِف، وميتشيرسكي، والسيدة نوفيكوفا، والعقيد كاماروف، والسيد زينوفيِف، واستعرضت أمامهم مقصدي بإيجاز، كما أعلنت في جرائد بطرسبورغ بعض أفكاري التي لم تكن تنطوي على أي ضرر سياسي. وطبيعي أن تكون هذه المعلومات قد وقعت في حقل نظر جلالتكم.
وبعد بعض الوقت أتيح لي أن ألتقي مع الجنرال ريختِر. فقد استفضت أمامه في عرض أفكارنا وأهدافنا، ورجوته أن يساعدني في تأمين عقد لقاء مع جلالتكم. وقال لي إن له الشرف أن يكون أذناً لجلالتكم: "اعلمْ أن كل ما قلتَه لي إنما قلتَه لجلالته". إلا أن هذا اللقاء بالغ الأهمية في الوقت الراهن. وسيتحقق حين يأتي وقته. فالإنجليز متنبِّهون اليوم كما لم يكونوا متنبهين من قبل.
وفي هذه الأثناء قدمت لوزارة الخارجية عددا من الخطط الصغيرة والكبيرة التي وضعها حلفائي في الهند وأفغانستان ومصر وإيران. ولما كانت إقامتي في بطرسبورغ قد طالت لمدة ثلاث سنوات، دون أن تسفر عن أي نتائج، فقد كتب لي حلفائي من إيران أن هاشتادان ضاعت، ويجري عقد معاهدة سرية مع الأمير قاين (أي أن أبواب خراسان مفتوحة). والطريق مفتوحة من كوادر إلى كرمان، بينما يشتري الإنكليز القرى في تلك الأماكن (أي أن مجمل منطقة كرمان الشاسعة وحتى بندر عباس أصبحت تحت سيطرتهم). لقد ضاعت كارون (أي أن الأهواز وشوشتر حتى زردكوه في قبضة الإنجليز). وقد سُلّمت الطريق من الأهواز حتى طهران، بالإضافة إلى البنية التحتية كاملة (وهذا يعني أن العراق كله أصبح ضمن مجال السيطرة الإنجليزية). كما ضاعت معادن (أي أن سيطرة الإنجليز شملت جميع مناطق إيران). وضاعت نبك (ومعنى ذلك أن الروح الحية للمروج الإيرانية وقعت في قبضة الإنجليز). وضاعت تنباكوه (مايعني أن ثلث أرزاق الإيرانيين اليومية أهدي للإنجليز).
وهذا ماسيحل فيما بعد، تدريجياً، بمئات المناطق الأخرى. وإجمالاً، فإن إيران كلها وقعت تحت سيطرة الإنجليز. ولن تمضي مدة طويلة حتى يصبح الشاه في واقع الأمر شبيهاً بأحد النواب الهنود، وتصبح إيران جزءاً من دولة الهند.
فمتى نستطيع أن نحصل من روسيا على دعم لنا لتغيير الأوضاع، وقطعِ الطريق على سياسة بيع الأوطان بهذه الطريقة الشنيعة. إن الأحياء هم القابلون للعلاج وليس الأموات. ولاشك في أن روسيا، إذا ماقدمت لنا الدعم، سوف تستعيد نفوذها ومصالحها في إيران، علماً بأن نفوذها السياسي الآن، وقدرتها على حماية مصالحها في تلك البلاد، أصبحا معدومين عملياً. وحتى أولئك الأشخاص الذين كانوا في الماضي ينظرون باحترام إلى عظمة دولة روسيا، ووزن كلمتها السياسية في الشرق، أصبح في مقدورهم أن يغيروا أفكارهم كلية في وقت قريب. ولكننا نعتقد أن السفير الروسي، وبسبب الهزيمة النكراء التي منيت بها روسيا في الميدان السياسي، يخجل من أن يرفع لجلالتكم صورة صادقة وكاملة عن حقيقة الأوضاع. على أننا لانستطيع أن نتصور أن روسيا عاجزة حقاً.
وفي هذه الأثناء وصل الشاه إلى بطرسبورغ، وكان أكثرية وزرائه وحاشيته من حلفائنا الذين كتبوا هذه الرسائل بالذات. وقد أكدوا لي من جديد أن علّي أن أسعى للحصول على دعم أدبي من الدولة الروسية، من أجل الدفاع عن حياتهم وممتلكاتهم، لكي يستطيعوا توجيه مجمل قواهم ضد سياسة بيع الأوطان، ووضع حد لاستمرار سيطرة الإنجليز. وقالوا إنهم إذا هم طالبوا في بطرسبورغ بالدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم، قبل أن تصدر دولة روسيا مرسوماً يقضي بحمايتهم، فإن أفراد عائلاتهم في إيران سوف يقتلون عن بكرة أبيهم. ولذلك فإنني التقيت مراراً بالسيد غيرس، وشرحت له حالة الوزراء الإيرانيين، وسلَّمت باليد للسيد غيرس وفيلينكالي بعض الخطط. كما أوضحت على نحو مفصَّل للسيد زينوفيِف أن الوزراء والعلماء والتجار في إيران يعتقدون بأن الدولة الروسية ستشملهم برعايتها، وتحمي أرواحهم وأموالهم، وسيكون في وسعهم تغيير الاتفاقيات القائمة مع الإنكليز، أو إلغاؤها كلياً.
لقد وعدني السيد زينوفيِف وعداً لا لبس فيه بأن روسيا ستدافع عن أرواح وأموال من سيقومون بهذا العمل. وقال لي أيضا إنه سيكتب في الحال رسالة إلى سفارة روسيا في طهران. وقد قدَّمتُ له قائمة بأسماء بعض الوزراء والعلماء والتجار والأعيان الذين ساهموا مساهمة فعالة في هذا الأمر.
إن الشاه أخذ مني وعداً بأن أسافر إلى طهران نزولاً عند طلبه. واعتمادا منّي على تطمينات السيد زينوفيِف فقد سافرت إلى طهران، وأخبرت حلفائي بأن روسيا، وَفقا لكلام صريح من السيد زينوفيِف، ستقدم لهم دعمها (الدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم) من أي طبقة كانوا، وبوسعهم الآن أن يستخدموا جميع الوسائل لتغيير السياسة التي تنتهجها بلادنا حالياً. وقد تجرأ حلفاؤنا وكتبوا إلى المناطق الإيرانية، وطمأنوها إلى أن روسيا ستدافع عنا جميعاً، ولم يعد ثمة من داع لخوفنا الآن. إننا اليوم يجب أن نتَّحد ونبذل أقصى جهودنا للدفاع عن حقوق دولتنا ومصالحها، لكي لا نسمح لهذا الغِرّ الجاهل أن يبيع إيران لإنجلترا بثمن بخس.
وكانت أول حادثة نجمت عن ذلك هي أنْ أصدر الوزير الفاسد الأخلاق أمراً يقضي بنهب ممتلكاتي، وطردي باتجاه بغداد بمنتهى الوحشية والخشونة، فتحملت عذابات رهيبة، وبقيتُ دون لباس شتوي. وكتب إلى الدولة العثمانية زاعماً أنني أقوم خارج حدود البلاد الإسلامية بدعوة الشعوب للاحتماء بروسيا، وأنه يجب الحذر مني. ومن دون تبصر بحقيقة الأمر أرسل الصدر الأعظم العثماني برقية إلى والي بغداد، أمره فيها باعتقالي في إحدى ولايات العراق. ولهذا السبب ألقوا بي في السجن مدة سبعة أشهر في مدينة البصرة. ولم أتمكن من النجاة والهرب إلى لندن إلا بعد اللجوء إلى ألف حيلة عجيبة.
أما الحادثة الثانية فهي أن جماعة حلفائي اعتقدت بأن ما وقع لي كان مباغتاً، وأن سفارة روسيا لم تتلقَّ معلومات عن ذلك، وإلا لكانت دافعت عني وَفقاً لوعدها. ولذلك فإنهم، بناء على تطمينات السيد زينوفيِف، أعلنوا مجدّداً أن نفوذ الإنجليز في إيران يُلحِق الضرر بجميع الإيرانيين، أما الاتفاقيات والمعاهدات التي يعقدها الوزير الأعظم مع إنجلترا فإنها في الواقع تعني تسليم إيران كلياً لإنجلترا. لقد تقدموا إلى الشاه بعريضة ضمّنوها شكواهم من سياسة الوزير لتفريطه بحقوق الشعب ومصالحه. وإذْ لم يدرك الشاه أن هذا الطلب من جانب رعاياه هو الطريق إلى ضمان دوام دولته وصلاح رعيته، فإنه سلَّم هؤلاء المظلومين لوزيره الجلاد كي ينكِّل بهم. وهذا الجاهل الفاسد الأخلاق قام خفية بإعدام ستة منهم في السجن، كانوا يحبونني أكثر من حبهم أي شيء. وأستطيع أن أذكر أسماءهم واحداً واحداً، وأقدِّم الأدلة على إعدامهم. أما الآخرون فقد أودعهم السجون في قزوين وأماكن أخرى، بعد نهب ممتلكاتهم، وتعريضهم لشتى صنوف التعذيب. بينما طرد بعضهم من إيران ونفاهم إلى بغداد. ولكي يهدئ اضطرابات العامة، ويقطع الطريق على احتجاجات الأجانب، قال بعد ذلك إنهم كانوا من البابيين (أي أعداء ألدّاء للشاه). علماً بأنه لم يكن لهم أية علاقة بالبابيين. ولم يكونوا، في الحقيقة، إلا خصوماً لأساليب الوزير ولتدخل الإنجليز، وأنصاراً لسياسة روسيا، ويشهد على ذلك ما أعلنوه بأنفسهم.
ولشديد الأسف، فإن روسيا لم تقم، حتى هذه اللحظة، بالدفاع عن أولئك المظلومين الذين يلاقون العذاب في سبيل قضية عادلة، بسبب وعد من السيد زينوفيِف وسياسة روسيا في الشرق. إن سفير روسيا في طهران يستطيع أن يعرف الحقيقة عن طريق الوزراء الآخرين وعامة أهالي طهران. غير أن المترجمين الشرقيين (عرباً وفرْساً) قد لا يفصحون عن الحقيقة كما يتوجب عليهم، وذلك حرصاً منهم على مصالحهم. فإذا ما كانت روسيا ستواصل في المستقبل موقفها اللامبالي إزاء هذه المسألة، فإن تلميحاً واحداً من جانبِ إنجليزيٍّ، أو تعبيراً غامضاً من قبل سفير إنجلترا، يمكن أن يصبح بالنسبة لهذا الوزير الغر سبباً للقضاء على المصالح القومية الروسية ومصالح الأهالي، ولإلحاق ويلات لاتحصى بأولئك المظلومين الذين يتجرَّؤون على الجهر برأي مخالف.
وإذا ما واجهت روسيا صعوبات في أوربا، فليس مستبعداً أن يقوم هذا الوزير الجاهل، مدعوماً من إنجلترا، بإثارة اضطرابات في القوقاز وتركمانستان.
وبناء على ذلك، فإنني على ثقة من أن كلمة صارمة من جلالتكم، أيها القيصر العظيم، لن تقتصر على تخليص الناس الأبرياء من آلامهم، وصونِ أرواح جميع الإيرانيين وممتلكاتهم، بل وبعد إسقاط هذا الوزير الجاهل ستحيي السياسة الروسية السابقة، وتعيد إلى سابق عهده نفوذَها الذي يعيش انحطاطاً تاماً في الوقت الحاضر (اللهمّ اجعل مرسوم جلالتكم عادلاً).
فإذا ما قدِّر لي أن أكون جديراً بهذا الشرف، فإن جلالتكم ستصدر أمراً لأحد الوزراء كي يرسل رداً على هذه الرسالة إلى سفارة روسيا في لندن.
مع أسمى آيات الاحترام

خادمكم المطيع الشيخ جمال الدين الأفغاني
لندن لا دبروك غرود /32/

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى