مؤيد عليوي - شعر كزار حنتوش ومرجعية الجمال في قصيدته - قصائد رسمية - إنموذجا

الشاعر كزار حنتوش من الشعراء الصعاليك في بغداد، ينماز شعره بلغة خاصة به تنتمي الى ثقافته الحديثة ومعجمه العربي، والى توظيفه للمفردة العربية الفصحى المتصلة بنشأته في القرية، واحيانا اللغة غير الفصحى وهي متصلة باللغة الشعبية العراقية في المدينة والريف أيضا ..، فهو يملك زمام اللغة بقوة مهولة تطاوعه بسهولة في شعره فتكون جملته الشعرية مانحة ببذخ لصورها الفنية عن معادلٍ موضوعي جليّ، فتلك اللغة التي يوظفها كزار حنتوش ويحسن بصدقه الفني صياغتها شعرا، هي التي وصفها جان كوهين بـ" الشعر لغة داخل لغة "، حيث المدلول الشعري لنصه يتكون من أكثر من صوره فنيّة في وحدة موضوعية وقد رُصت تلك الصور مرة في سخرية اقصد سخرية أبن الريف الذكي الحذق ومرّة بألم جدّيّة أبن المدنية الذي خبر الحياة فيها والعالم وحركته،
فهذه اللغة الشعرية من أهم وأبرز مرجعيات الجمال في قصيدة الشاعر كزار حنتوش وهي تحمل عشقه الى زوجته الشاعرة رسمية محيبس زاير التي يبدأها بصورة من قلب الريف العراقي، حيث كانت نشأته "غماس"، ( قوديني مثل خروفٍ ضالٍ / نحو ربيعكِ/ خليني أرعى بين بساتينكِ / أنت الطين الحري / وأنا الماء / فلنمتزج الآن / - قيمر – معدان /..) فالخروف لا يكون ضالٍ إلا عندما يتمرد على قيادة قطيعه إذ عادة ما يكون لقطيع الغنم خروف فحل واحد، وإذا تمرد الخروف فلأنه قوي يصعب إرجاعه الى قيادة القطيع ..، فالشاعر ها هنا متمرد في طبعه وهو يعلم بتمرده هذا لكن الحب والعشق يجعله يسلم زمام القيادة للحبيبة في توظيفه لفعل الامر ( قوديني) وهو فعل يشير الى رغبة نفسية بعشق بأن تقوده هي، كما يوظف فعل الامر ( خليني ) من اللغة الشعبية العراقية والمصرية إذ ثمة أغنية لأم كلثوم فيها :( خليني كَنبك خليني)، وكلا فعلي الامر قد أخرجهما السياق من الامر والطلب الى الرجاء إذ في الحب لا أمر ولا طلب بين العاشقينِ.. في صدق فني ليتخلى عن تمرده أو صعلكته، فهو يعشق بصدق ويكتب بصدق ويوظف مفردته بعناية فائقة للتعبير عن مشاعره في صدق فني تماما كما أن يفعل صعاليك العرب قبل الاسلام، حيث لغتهم الشعرية هي لغة مفردات حياتهم اليومية كما ثمّة رأي بأن اصل اللغة العربية لغة الصعاليك إذ لا توجد نقية كما هي لغة شعر القبائل، لغة جاهزة اغلبها خالية من الالفاظ الغريبة والحوشية دون المرور بمرحلة لغة المجتمع، التي تحتوي فيها على الحوشي والغريب من اللفظ كما في لغة شعر الصعاليك، ومنه شعر عروة ابن الورد الذي خالط مجتمع القبائل وهو أمير الصعاليك فكان شعر يختلف عن شعر القبائل – يحمل سمات شعر الصعاليك والمشهور بأميرهم- وأنقى لفظا من شعر بقيّة الصعاليك ، وفي هذه ايضا نرى الشاعر كزار حنتوش يوظف اشتقاق لغوي غير مسبوق في قصيدته "الصعاليك":( هم عصافير مصانع الجعة ,النسور القشاعم/ إن طاروا علق سترتك على الشماعة / وإن حطوا ذر الملح في جرحك, ضع يدك على مقبض خنجرك/ وأحرس بيدرك ) فـ(القشاعم) من غريب اللفظ لها دلالة النسور الكبيرة في السن فالمراد من المدلول بعد ان تحول الدال الى مدلول، فالمراد نسور محترفة الصيد، أو لا تخطأ صيدها لخبرتها الطويلة فيه وهي قوية أيضا، ليوازن الشاعرُ معنى (عصافير مصانع الجعة) ضمن سياقها الشعري،
أما حبّ الشاعر حنتوش فثمة طواعية منه لقلبه ولحبيبته رسمية محيبس زاير، حينما جاء بالفعلين (قوديني، وخليني) مجسدا فيهما مفاهيمه اليسارية وافكاره الماركسية.. فيما نرى غيره من الشعراء يختلف عنه في فكرة الصعلكة والحب والعشق والزواج، منهم على سبيل المثال الشاعر عبد الامير الحصيري يرسم المرأة حلما فلا علاقة حقيقية له مع امرأة، التي لم تكن يوما واقعا ملموسا وهنا ثمة فرق كبير من خلال الفعل الامر وتوظيفه :( احمليني ، والهميني ..) ، في حين حرارة العشق والرغبة النفسية في المعشوقة تتجلى بقوة في الصورة الفنية لكزار حنتوش حينما يصفها بالطين الحري ويصف نفسه بالماء من اجل مزجهما مثل القيمر الذي يصنعه المعدان – يصنعون افضل القيمر في العراق- وهي مفردة متداولة ومعروفة في المدن وريفها، إلا أن توظيف الشاعر لروحية المزج بين نفسه ونفس رسمية حبيبته بهذه الاستعارة الجديدة والخاصة بشعر كزار حنتوش من خلال لغته الخاصة جعل صورته الريفية هذه بما تشبه صورة شعر المتصوفة بمعنى من لم يعشق لا يدرك معاني كزار حنتوش فهو يريدها أن تكون راعية له بحبها هي ويكون هو تابعا لها يرعى في ايامها كلها – فهي الربيع نفسه- والمتصل بالمكان (بساتينكِ).. كيف يشاء لأنها تقوده وترعاه ورعايتها له في كل شيء من حب ومشاعر وجسد.. فتتعشق هي به ويتعشق هو بها كما يُصنع القيمر إذ هي (طين الحري) مخلوقة سحرته بجمالها ومشاعرها، كما أن للطين هنا دلالة النقاء والعفة ليكون هو الماء لهذا الطين، فهي عملية صهر الاثنين ليكونا واحدا لكنه تظل هي تقود هذا الواحد الجديد اللذيذ مثل أفضل قيمر، فالشاعر لو لم ير ما تحمل هذه اللغة من معانٍ في واقعه الريفي لما استعملها برشاقة وفنيّة عفوية غير متكلفة وجمال، لتتحول من دال الى مدلول شعري جديد اقرب الى فكرة "الاتحاد" بالمعشوق عند المتصوفة، فأغلب الصور الفنيّة في شعر كزار حنتوش هي من المشاهدات اليومية .. ثم لماذا (الآن) في (فلنمتزج الآن ) من الصورة الفنية ذاتها ليجيب كزار حنتوش بنفسه في صورة ثانية من نهاية القصيدة ( لا رسميةَ هذا اليوم / لأصحو غدا/ اليوم غناء تحت التوت / وغدا تابوت) فهو في المقطع الاول يريد التزود منها أكثر فأكثر لأنه قرر الرحيل وقد مرر هذا المدلول في نهاية قصيدته على طريقة أمرئ القيس (اليوم خمر وغدا أمر) ولكن بأسلوب كزار حنتوش ولغته وصوره الفنية، مما منح شعره سمة الاصالة، فأمرئ القيس كان صعلوكا من صعاليك العرب في بداية شبابه وهذا ما جعل بعض النقاد يعزون سبب شعريته وفنه الى أثر تلك المدة من حياته وهي أن يقول الشعر عفوا وطبعا غير متكلف فيه..، أو في تأويل ثانٍ متصل بتلك اللحظة (الآن ) من المقطع الاول فهي اقصد رسمية هي الحياة وهي الملكة الراعية له، فأن غيابها عنه يعني موت الشاعر كزار في المقطع الاخير من القصيدة ( لا رسمية اليوم...) فأن حاله يشبه حال أمرئ القيس بعد مقتل أبيه الملك الذي كان يرعاه، وهذا من خلال التوظيف الدلالي للمقطع الاخير.. ليحصر بين المقطعين قصيدته مشاعر حبه وقصة عشقه وذكرياته مع رسمية، ففي الصورة الفنيّة الآتية نجد سخريته من الزمان والايام معه ومع رسمية حبيبته في آخر المقطع الآتي : (مثل بناء أثريّ/ كنت تلمّين بقايايْ/ بين الشوك وبين الأسل المضيافْ/ إذ سقطتُ كالآجرْ/ آخرُ أيام حياتي/ بين يديك الواهنتينْ )
فهذه الصورة الفنية تتجلى فيها رعاية رسمية لــكزار لكن آخر الايام من عمره إذا سقط بين يدي حبيبته مثل حجر الآجر الكبير والثقيل من الابنية الاثرية التي كانت تبنى بذاك الحجر.. تلك هي السخرية من الايام عند كزار بأن يدي رسمية واهنتين، أو ربما سخرية الايام منهما، حيث السخرية مضمرة هاهنا يكتشفها المتلقي بالاعتماد على صدق الشاعر الفني في تعبيره هذا، الذي يمثل مرجعية الجمال للصورة الفنية عن فعل الزمان والايام بما شبيه اعتراف مسيحي في كنيسته، في تشبيه سهل لكنه لا يخطر على بال شاعر إلا إذا كان صعلوكا مثل كزار حنتوش يتناول كل ما يراه شعرا في لغته الصعلوكية الخاصة بصوره فنية، فيها جماليات الاحساس أو الشعور الانساني بوصفه معادلا موضوعيا، ثم يتصل هذا الاعتراف بذكريات الشاعر عن نفسه كيف كان قبل رسمية وعلى أية حال سيصبح لو لم يتلق بها، من نافذة الصدق الفني ذاتها واللغة الصعلوكية ذاتها يمرر كزار حنتوش فنه بجماليات الاحساس ليكون الجمال البهي :
( طيلة عشرينَ سنهْ/ وأنا أتشمّم بحثًا عنكِ/ كالكلب البوليسيْ/ لم يفلت من أنفي شيءٌ/ حتى صرَّةُ بنت المختارْ/ وأخيرًا / لولا فيروزُ / وبغدادُ / ورسميّةُ / لاقترنتْ ضفدعةٌ بي / وألقى العنز عليَّ الفضلات/ ولكنتُ مجرَّدَ عربه / دون وقود / أو عجلاتْ ) فصور هذا المقطع جلية المدلول الشعري.. ثم يعود الشاعر ليتعلق بحبيبته وقلقه أن لا يجدها يوما فيصفها بالترفة جدا مثل خضار ( البربين = الـُبيردة) الرقيق والترف جدا، إنها ترفة رقيقة جدا، فالبلاغة العربية هي مرجعية الجمال من خلال توظيف الشاعر لــلـاستعارة في نظمه للغةٍ سهلة إلا أنها تعبر عن مشاعر تعلق كبيرة بالحبيبة وبأسلوبٍ لا يُظهر هذا القلق إلا اشارة جميلة في : ( أخشى ان استيقظ فجرا/ لأشمك عطرا / مِن أعطاف حديقه ) من الصورة الفنية التي تبدأ بنوع من الخضار (البريبن = الـُبيردة) لقربه من زوجته وحالة الطبخ الطعام في البيت كما كان يعيش الصعاليك قبل الاسلام وبعده، إذ كانوا يعيشون أوقاتهم قرب الحبيبية أو الزوجة في مجتمع الصعاليك، أو يذهبون للغزو.. أما المقطع الآتي فهو : (يا روح "البربينْ" / كم أنت رقيقهْ / أخشى أن أستيقظَ/ ذات صباح / لأجدك على الوردة طلاّ/ أو فوق النخلة عصفوره / أخشى أن أستيقظ فجرًا /لأشمك عطرا / من اعطاف حديقة/ أواه يا روح البربينْ / كم أنت رقيقَهْ ) هذا القلق الجمالي في البحث عن الحبيبة بسبب غيابها، الذي يتحول الى خوف الابتعاد عنها في المقطع الاخير وخاتمة القصيدة حيث يختم الشاعر قصيدته بالإجابة عن سؤال البداية لماذا ( الان)؟ في ( فلنمتزج الان/ قيمر معدان) ،ليكون الجواب ختام القصيدة ( لا رسميةَ هذا اليوم / لأصحو غدا/ اليوم غناء تحت التوت / وغدا تابوت) فهو في المقطع الاول يريد التزود منها اكثر فأكثر لأنه قرر الرحيل وقد مرر هذا المدلول في نهاية قصيدته على طريقة أمرئ القيس (اليوم خمر وغدا أمر) ولكن بأسلوب كزار حنتوش ولغته وصوره الفنية، مما منح شعره سمة الاصالة، فأمرئ القيس كان صعلوكا من الصعاليك في بداية شبابه .. حيث خوف كزار الحنتوش جلي اكثر من القلق المقطع السابق له، فهذه اللغة لغة خوف العاشق هي مرجعية الجمال في هذه الصورة، مما يجعل مرجعية الجمال في المدلول العام لقصيدة "قصائد رسمية"، هي ورح الصعاليك الصادقة في تعبيرها الفني عن الابداع شعرا، هي روحيّة ومشاعر وفكر وعقل وقلب كزار حنتوش بل كل ما يتصل بحياته منذ ولادته الى رحيله، كان يوظفه الشاعر في إبداعه وبعفوية وسهولة عنده فهو قد جُبْلَ شاعرا صعلوكيا متمردا فتمردهُ إبداعيٌّ يكسر فيه القوالب الجاهزة ليبني قواعده الشعرية الجديدة في نصه حيث يقول د.عناد غزوان أن (الفنان الخلاق هو ليس الشخص الذي يحطم القيود الفنيّة المتبعة أو يحاول الخروج عليها والتمرد على صيرورتها فحسب، بل هو الشخص الذي يجعل القواعد والأصول الجديدة ضرورة فنيّة في عمله، أنه الشخص الذي يخلق القواعد الجديدة بعفوية أو بمدارسة عن وعي وادراك بجدارة تلك القواعد ومدى ديمومتيها في الواقع الادبي قوميا وانسانيا ) ، ثم نلتفت الى العنوان "قصائد رسمية" فهو عتبة القصيدة الاولى التي تنقلك الى أكثر من حالة أحساس وأكثر من مشاعر وأكثر من صورة فنيّة كما تقدم.. وكأن الشاعر الحنتوش يختصر قصة عشقه بسرعة كما كان الشعراء الصعاليك قبل الاسلام يفعلون في هذه الثيمة : أبيات قليلة سريعة اذا ما قورنت قصائدهم أو أبياتهم بشعر القبائل العربية التي تصل الى العشرات أو المئات من الابيات طولا في القصيدة الواحدة وقت ذاك، ثم حتى اسم الشاعر "كــزار حنــتوش" لوحده هو عنوان للشعراء الصعاليك في بغداد، اسم يحمل سمة الصعلكة وفيه إيحاء قوي عليها مع شعره وشخصيته.. فالاسم ليس من اسماء المدن وليس من اسماء المترفين فيها، ولا من إسماء سياسي الطبقة الحاكمة، ولا من أسماء رجال الدين.. عبر كل تاريخ العراق الحديث، فهل سمعتَ يوما أن أحد هؤلاء كان أسمه كزار حنتوش أو يشبه تركيبة أسم الشاعر كزار حنتوش وطيبته ونقاؤه كما يصفه معاصروه ..




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى