عبد الستار ناصر - الصيف والخريف.. الفصل الأول من رواية

في محطة بوخارست أنتظر القطار الذي سيأخذني الي بودابست، رائحة عرق السوس وعطر الكولونيا وحفنة من الهرمونات ونساء بلهاوات يقطعن المسافة بيني وبين بائع التذاكر، عازف قيثار لا أحد يعبأ به، والرصيف مزحوم بالهامبرغر والصراخ والمحلات وبنطلونات الجينز وقمصان الهيلاهوب وغناء وتشويق وغرائب تنام علي مصاطب توشك ان تنكسر، وانا أحك جلدي بمئات المسافرين، لا أحد يهمه امري، أشم عرق السوس والمانجا وقصب السكر والفراولة كأني في مكان ما من القاهرة، لا أدري متي سيأتي قطاري و أعرف رقم رحلتي، حتي حل المساء الذي رأيت فيه الجرذان تحت القطارات تتلوي عن شبق وجوع وهي تطارد بعضها نحو فتات الطعام علي طول الرصيف.
خرخرت الفئران بعد أن شبعت من الفول المدمس والخبز الطري، وعادت الي جحورها بعد أن اشعلت الرعب في فساتين البنات المذعورات اللائي رفعن أفخاذهن خوفاً من مخالب الجرذان، وكان الصراخ الناعم يثير الشهوة في الرجال علي رصيف المحطة.
جئت بوخارست عن طريق صوفيا، أبحث عن امرأة أراها في بودابست، قالت ذات يوم: ساعيش بقية عمري هنا اذا تخليت عني، وها أنا افتش عنها منذ شهور حتي تذكرتُ هذه المدينة التي عشقناها معاً ذات سنة من الجنون والفوضي والأسفار.
دون حقيبة أقطع المسافات، من البصرة جنوباً، نحو بغداد، صوب نينوي، أنام وأصحو في المساجد مرة وعلي مصاطب المحطات مرة، حتي رأيت نفسي في بودابست قرب كنيسة كنا نضحك فيها علي اعترافاتنا ان نكون معاً في السراء وفي الضراء حتي نهاية أعمارنا، أضحك من أكاذيبي التي قلت فيها: بعدكِ ياحليمة لانساء ولا فراش ولا غزل، مع أن الخيانة تسري في لحمي وجيناتي منذ طفولتي.
ذهبت فورا الي فندق تاترا حيث عشنا هناك أحلي أيامنا، رأيت الرجل المهرج وراء شبكة الاستقبال يبتسم ويعطيني رسالة يفوح منها عطر حليمة، اري رسومات آرثر روسلر وإيغون شيلي المنسوخة وهي تضحك في الصالة بينما الرسالة تقول: مادمت أتيت فأنا عدتُ الي البصرة أيها الخائن الجميل.
ليلة واحدة في فندق تاترا أري اشجارالزيتون واليوكالبتوس ومئات الحشرات،لا اصدق مافعلته حليمة، حفنة نزوات في امرأة جعلتني أذبل في فراشي وابكي نفسي الحمقاء التي ارغمتني علي الخيانة.
دمدم صوت في قحف جمجمتي: ماذا تنتظر اذا كانت قد رجعت؟ وفي خاصرة الصباح مضيتُ الي محطة القطار وقطعتُ تذكرة إلي صوفيا دون التوقف في اية محطة، وطوا ل الطريق افكر في مكائد حليمة وماذا تراها ستفعل بي غير الذي فعلت؟!
في مقهي برلين اشرب الليمون مع البيرة، احدق في المكان الذي راي حليمة اكثر مما رآني، ربما تأتي بعد ساعة او ساعتين حتي تضحك من تعبي وأنا اطاردها في تلك العواصم دونما امل في العثور عليها، جاءني النادل يسأل عن اسمي، لماذا؟ قال لي: هناك امرأة عربية تركت رسالة من خمسة ايام واظنك أنت الذي تعنيه، طويل القامة، أنف قيصري، عينان صغيرتان، واسمه عزيز، اعطتني عشرة دولارات حتي اعطيك الرسالة، هل أنت عزيز؟
كنت عزيز النفس قبل ان تغلبني حليمة علي امري، نعم انا عزيز، سلمني رسالتها المطعوجة، فتحتها بلهفة وانا اوشك ان اصرخ بين موائد المقهي، لكن الرسالة كانت اقصر مما تمنيت، ليست سوي كلمات سبع تقول فيها: اراك اينما ذهبت ولن تراني مهما فعلت!
سالت النادل: متي رآها اخر مرة في تلك المقهي؟ ولم يعبأ بي، ذلك ان المعلومات لاتعطي مجاناً في المقاهي والبارات.
ليس من شئ يرهقني غير الافلاس والمحبة، ربما كنت المفلس الوحيد بين آلاف السياح، لكن البحث عن حليمة كان ومايزال أول أحلامي حتي تعرف حجم اشتياقي وجنوني بها، غسلت الصحون في مطعم براتسلافا وغسلت آلاف الفناجين في مقهي باربارا حتي اتمكن من البقاء في بوخارست وصوفيا خارج رقابة الشرطة التي تفتش عن غير الشرعيين في المطاعم والحانات المكتظة، وبرغم ذلك لا املك مايكفيني للنوم في الفنادق، ولهذا احتال علي قوانين البلاد ليلا وانا اغفو علي مصاطب المحطات وعلي مقربة من الكنائس، واحيانا امضي نحو الحدائق واختفي ثمة بين اشجارها الباسقة.
يوم قررت الرجوع الي دياري، رأيت جانيت عند اعلي رأسي توقظني:
– ممنوع النوم في الحدائق.

ہہہ

الشرطة في بلغاريا لها مخالب وانياب ناعمة، وجانيت قارورة من تفاح و عسل، لم اغضب منها وكيف اغضب من المسننات الشهوانية التي تشابكت في لحمي وانا اشم عطرها وهي ترفع العصا ترغمني علي النهوض فوراً وانا مازلت احدق في السماء لا اصدق ملامح تلك المراة التي توشك ان تضربني، كنت بين الشهوة والخضوع: ماذا لو كانت الشرطة في بلادي بهذا الجمال؟
– ماذا تنتظر؟ إنهض.
قناص ماهر وقطيع مؤخرات لامعة، هل تراني احلم؟ اشباح وادغال ورعشة تهزني ونساء مجنٌحات يصرخن بي:
– يارجل، ممنوع النوم في الحدائق، الاتسمعني؟ لابد انك احتسيت الكثير من الخمرة، ستاتي معي الي المخفر.
غزوات ومومسات وشقاوات وضفادع تشبه البشر، صحوت من نومي وانا اشم شحم الحوت في غرفة بائسة، اين جانيت؟ اين قارورة التفاح والعسل؟ اين جوازسفري؟ غرفة صدئة وثقوب علي الحيطان، يبدو انني في بغداد، هذا المكان الوحشي الممسوخ يرعبني، انا في هذياني اغرق في كابوسي، ادوخ، اذوي، اتواري، لا احد معي في هذه الغرفة غير الداعرات واللصوص وبيوت العناكب، هل كانت ثمة جانيت في تلك الحديقة التي غفوتُ علي عشبها؟ متي ستفك الحورية كاليبسو سراح اسيرها اوديسيوس؟ عفونة المكان تبكيني، والعاهرات يضحكن مني، بينما الدود يشارك في رعبي وانا لا اعرف ماذا انتظر؟
طردوني بعد يومين، مكتوب علي جواز سفري (يمنع من الدخول الي بلغاريا) واخذتني جانيت بنفسها الي الحدود وهي تضحك من هذا العربي المتهتك المشاكس المفلس الذي ينام في الممنوعات.
اين حليمة من ذلك كله (اراك اينما ذهبت ولن تراني مهما فعلت)؟ يؤنسني ماتقول، مادامت تراقبني اينما ذهبت، شبكة مغالطات ومؤامرات وربما مكائد ومتاهات، مرعوب من فكرة طردي من بلغاريا نحو استانبول، وماذا بعد؟
خواء واحباط وخازوق يدخل بي، لا افهم اي شئ مما يدور حولي، ماذا حل بي؟ مطرود من جنة اوربا الشرقية، لا ادري ماذا سافعل في بقية عمري وانا ابحث عن حليمة التي شطبتني من حياتها !
فتات ايامي، عائق خطير، وانا اشكو حرماني من الفرح، كأنني محكوم بالافلاس والمحبة، لا ادري اين حليمة ولا اعرف اي شئ عما جري بعد ان طردوني من فردوس بلغاريا، شؤم وقنوط ورعب لاحدود له، ماذا افعل حتي احقق حلمي في الوصول اليها؟
جورجيس غروز يرسم المؤخرات المفلوقة، ويرسم المضحكات والكاريكاتير، إبتذال واثارة ودعارة مرغوبة، لا احد يمكنه تفسير الادمان علي الخمرة والشرور والنزوات!
من جاء بلوحة جورجيس غروز علي الحدود بين تركيا وبلغاريا؟ قالت جانيت: انا اسفة علي طردك من بلادي، ثم غادرتني فوراً بعد ان سلمتني جواز سفري المطعون بالمنع والذي بات يوخزني في كل مكان امضي اليه. اخذني القطار الي بغداد، اخر ما املكه من دنانير، لا ادري ماذا سافعل في المسافة بين الجوع والعطش، الهث رعباً من افلاسي ومن هذا الفراغ الذي صارعفريتي وانا اكاد اصرخ بين الركاب (ساموت من الجوع) ولا احد يهمه امري.
في غفلة من زمني، زمن الخمول والشحة، جاءني جرسون القطار واعطاني ماكنت اشتهيه من سمك وسلطة خضراء وحساء بالثوم، ورسالة تقول (تمتع من شميمي مادمت لم تزل حبيبي) !
صعلوك، لست سوي صعلوك، يقال ان الحرب اشتعلت ثانية في بغداد، من اجل ماذا؟ دبابات وبارود ونيازك وحرائق وقوافل من المرعوبين، اجساد يانعة مذبوحة، اكفان بالمئات بلا قبور، قلة ذوق، قلة ضمير، قلة احساس، قلة حياء، اين الحانات والبارات ومواخيراخر الليل، اين الملاهي واغنيات الغجرالموجعة الشبقة الولهانة؟
الحياة صارت حطب محروق ومساميروجرذان وغيلان وحيتان، حياة جوفاء شحيحة كلها شرسة وبعوض ورعاع وغوغاء، وانا لا اصدق نفسي: كيف انني ساعود الي هناك ابحث عن حليمة التي انكرتني والتي لم ازل اموت حبا بها اراها كل يوم في حلمي، هي التي قالت ذات يوم: المهم ان تظهر انت في احلامي.
سخية النهدين كانت، رائحتها قمح وسمسم ونبيذ، غجرية الطول، اكاد لا اصدق ايامي معها، كيف تراها نامت في شقوق جسدي، كيف تأوهت، كيف اعتقلتني في محرابها، صقيع الشتاء وميوعة الصيف وبهارات الخريف، كوثر الليالي ونخلة البيت، البصراوية الحلوة، المخضبة بالحناء والبوبلين والخيزران، اكاد ابكي حوش البيت وسرداب البيت وبيت البصرة الذي لايشبه اي بيت!
ماكان علي رجل في عمري ان يرجع الي الديار في هذا الوقت العصيب، الحروب تحتاج الي حطب وزبائن وطبول واكوام من القش، وانا في حالة بحث عن امراة غادرتني واختفت وراء تخوم الصحراء وربما خلف ظهري علي مسافة تراني فيها ولا اراها.
سيأخذوني حتما الي هذه الحرب المزخرفة بالاوسمة والنياشين والقصائد والغطرسة، انا الذي لايمكنه ذبح دجاجة، كيف بي اطلق الرصاص علي انسان يشبهني؟ كلا، هذا لن يحدث مطلقاً.
تمكنت من السفر الي دمشق، قبل ان ينتبه الغزاة الي ثيابي ويشماغ الراس المزور الذي اعطاني شكل حمار، امي اعطتني كل ماتملكه من دنانيرها، كانت تدري ان دخول الكويت سيقصم ظهر الحكومة ويكسر ظهر الطاووس ويحرق اليابس والاخضر، وانا اعرف ايضا ان الفانوس لم ينفع امام هياج الضوء، وان الارانب لايمكنها ان تمسك بالخرتيت.
اسكن في بيت عتيق اجرته الف ليرة في الشهر، يشاركني فيه رجل مصري واخر من بيروت، بيت من خشب الزان نسمع الصرير مع كل خطوة علي تعرجاته، لايدري اي واحد منا مايفعله الاخر، ناتي ليلاً للنوم ونخرج صباحا كأننا نرفض خلع القناع عن ملامحنا.
رمال الصحراء قتلت مئات الجنود، وبقية الفضيحة لايعرفها سوي الكبار، والقيصر مازال قابعا بين البيوت يرتجف هلعا من القنابل الذكية التي تطارد الثعالب في كل مكان.
جرذي مذعور علي هيأة مارد، ارنب مزركش يري نفسه كالنمر في المرآة، اجوف حتي من الهرمونات، يموت آلالاف في تلك الصحراء وهو يضحك علي شاشة التلفزيون، لافرق بينه وبين باعة الهوي، هو الببغاء الذي يريد دخول التأريخ، حتي إذا مشي إليه فوق البعرور وذروق الغربان.
في مقهي الروضة وصلتني رسالة من حليمة تقول فيها: خير مافعلته ياعزيز، لا احد يستحق ان نموت من اجله.
اين حليمة؟ كيف تعرف خطواتي في كل شبر امضي إليه؟ تحت اي طربوش تختفي وماذا تراها ستفعل بي وانا لا حول ولا قوة لي؟
– اين انتِ ياحليمة، انا تعبان.
افكاري مهلهلة، اصابها الصدأ، لا اعرف ماذا افعل في الوقت العربيد الذي يجثم فوق جلدي، اشتغلت بائعا للصحف و المجلات، اصابني ورم بين الضلوع، المسافات التي مشيتها، ساعاتي مطرزة بالفراغ والجلوس في المقاهي بعد ان تركت بيع الجرائد، باب توما ينعشني في المساء، اشتغلت ثانية في غسل السيارات، غمرني التراب بعاصفة من الحساسية وحفنة امراض في الانف، ولم يكن من حل غير ترك السيارات حتي اعثر علي عمل آخر.
في الجحر الذي اعيش فيه، قال المصري الذي يشبه الباذنجان: إذا كنت تبحث عن عمل يمكنك البدء منذ الليلة، وعلي استحياء قال: انا اشتغل في ملهي ليلي ونحتاج الي غاسل صحون والمكافأة مجزية.
نعم، عشرة الاف ليرة في الشهر واجازة يوم واحد كل اسبوع والدوام سبع ساعات فقط، ماذا انتظر افضل من ذلك؟
تاجر خمور كان مالك الملهي، تاجر نساء وتاجر ممنوعات، والحياة مسعورة وفاسدة وبطيئة مثل سلحفاة، والحرب مازالت تطحن الناس وعناقيد الرصاص تنهمر كما المطر ولا احد يدري كيف تكون النهاية.
نذور وشموع علي خشب خفيف، نقوش في ذاكرتي وخدوش علي مساماتي والطريق جرداء وعرة، والليل يطول بي في ذاك الملهي الصاخب، نساء يانعات ورجال عفاريت يضحكون بلا سبب، وانا اغسل الكؤوس وبراميل النبيذ، مدفون في اطراف دمشق لا ادري ماذا سافعل بعد عام او عامين وهل سينتهي امري في هذا المكان الصاخب المدبوغ بجلود الغرباء والاغنياء والسكاري؟ ماذا يفعل هذا البصراوي المصلوب في بركة الازمات وفي طواحين الخواء والياس والفسوق؟
ماذا تنتظر حليمة حتي تظهر ثانية في في حياتي وتحررني من الخواء والفراغ الذي اعيش فيه؟ انا في معتقل شاسع عنوانه المسافة بين الكركدن الرابض في بغداد وبين المجهول الذي يلكزني كالقولون في دمشق، رفعت الراية البيضاء واسلمت امري للمفاجآت التي ستأتي حتما ذات يوم وتنقذني من عبوس ايامي وفجور الليالي التي اعيشها في ذاك الملهي وديكوراته المضحكة من سعف النخيل والقلاع وجذوع الشجر ودراهم عثمانية وجنيهات مصرية وبستاني افريقي يحرث الارض وراقصات باذخات المؤخرات وطرابيش حمراء وعمائم لامعني لها في مكان كهذا؟!
ماذا تريد حليمة حتي تكف عن تحرشاتها واسرارها والاعيبها؟ ماذا تريدني ان افعل حتي اعتذر عن خياناتي وطيشي؟ ها انا الهث مثل كلب وانا افتش عنها في الشوارع والخرائب والاسواق، لا احد يعرف هذا البصراوي العزيز، مع انني رسام معروف في بلادي، رسمت مئات المؤخرات السخية، رسمت الكنائس والحارات الشعبية، رسمت الوديان والجبال وشلالات الماء، حتي انني رسمت الحمير والكلاب والديناصورات، لعل اعظم رسوماتي التي اهمس معها في صومعتي تلك اللوحة التي تأطرت بخصلات شعرها الغجري الهائج وسميتها (حليمة سطوع الضوء) مازالت في البصرة، في صندوق خشبي، في ذاكرتي اري اللوحة تمشي معي اينما وليت وفي اي شبر حللت، وعندما رآها (محمود بقشيش) قال بدهشة لاذعة:
– إنها الجيوكندة العربية.
اراد ان يشتريها مني، مهما كان الثمن، فقل له: حليمة ليست للبيع، وهل يباع
سطوع الضوء؟

ہہہ

في محطة قطارات بوخارست، قبل عشرين سنة، كنت اشعر بالمرارة والزكام وانا اقطع تذكرتي الي بودابست، القطار يئن علي سكة من احراش ونفايات ونتوءات، والرصيف مزحوم بالسياح والمجانين والمخمورين، اشم رائحة عباد الشمس وعرق السوس ابحث عن وهم عظيم اسمه حليمة، عازف قيثار يلملم القروش والسنتات والدراهم التي رماها إليه المئات من الافارقة والمسلمين والزنادقة ممن يريد حجز مكان في جنة الله التي طولها السماء والارض والمحيطات، ابحث عن اكذوبة قالت لي ذات عام: اراك اينما ذهبت ولن تراني مهما فعلت! مهوس انا بهذا الوهم الذي رسمته منذ عشرين سنة وكتبت عليه (حليمة سطوع الضوء).. مشكوك بامري وانا احك جلدي بمئات البنطلونات، مؤخرة شحيحة واخري فقيرة الفخذين، هذه مليانة وتلك مؤخرة ترقص غنجاً ودعارة، زنديق سفيه وعاهر، الرجال انواع في تلك المحطة، الفحولة نراها في وضح النهار نافرة من تحت الحزام، والهمجية صارت هي الذوق المتسيد، اعني المخابيل الذين يقطعون رصيف المحطة كما المنشار، ذهابا وايابا ً، يبحثون عن فريسة جاءت من روما او من بحر البلطيق او من صحراءالجزيرة العربية، والدسيسة تراها شاخصة مابين الحاجبين: ستأتي الفريسة حتما، والصياد الماهر هو من تعلم الصبر اكثر من سواه، ولايمكنك في تلك المحطات من تفكيك الانحطاط، بعد ان صار الخزي من جملة العلوم التي يمارسونها في الليل والصباح، والشرطة تأخذ حصتها مسبقا ً قبل ان تختفي عن زوايا المحطة وشعابها، مادام درس الخزي سيبقي اطول درس في التأريخ.

ہہہ

في واحدة من ليالي التسكع والبهجة، قالت حليمة: هنا، في بودابست سأبقي بقية عمري إذا تكررت خياناتك وحماقاتك ياعزيز، يومها جاءنا ذاك المشعوذ الذي يشبه الوطواط وقال لها:
– هذا الرجل سيموت حباً، هو فارسك الوحيد، انتما من طينة واحدة وكلاكما بحاجة الي الثاني، فلاتفترقا ابداً.
اي كذاب داعر ذاك المشعوذ العبيط، فقد افترقنا وراح كل واحد منا في طريق، وانا معلول منذ ولادتي، لم اترعرع في بيت كبير ولا اتذكر في طفولتي غير شجرة زنبق باسقة، وحينما ظهرت حليمة في حياتي تغيرت الدنيا فورا واختفت العلة من القلب، ياللهول، كيف يمكنها تلك الحليمة ان تؤكد بعد عشرين سنة علي ان الحمار سيبقي حماراً حتي إذا تبدلت البردعة وصارت من ذهب، هي نفسها التي اشارت الي شجرة الزنبق وقالت:
– ألا تعرف الفرق بين شجرة الزنبق وشجرة الارز؟
اري نفسي مثل قنفذ مرتبك امام غموضها الساحر، غموضها الخرافي البارع، ومن لمسة يد نقلتني من شبح تائه في المفازات الي رجل عاشق وقالت كنُ كما ينبغي ان تكون، فأحنيت راسي تحت سماء الله، لا شئ يخيفني غير لحم النساء النافر وانا اري نفسي بين مئات اليانعات مكشوفات النهدين والفخذين ومن تري يمكنه الصبر علي تلك المسامات المضيئة العطشي وهي تصرخ بي (هيتَ لك) وانا معلول منذ السادس الابتدائي اسفح احلامي علي صورة نصف عارية لجين مانسفيلجد التي جن العالم بسخاء نهديها العامرين، فماتت هي ونهديها قبل ان تصل الاربعين، لكن صورتها مازالت تحت اصابع المراهقين تتناسخ جيلا بعد جيل!
وهكذا ضاعت حليمة، اخطائي كانت اكبر مني، وانا صيف مخنوق بشتاء زمهرير وربيع مقسوم علي خريف ونساء وسرير لايكف عن الهياج والطيران.



* نقلا عن الناقد العراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى