أحمد أبو سليم - جنون الشِّعر

ما الشِّعرُ؟ ولماذا الشِّعر؟ وأَين يمكن أَن يكون موقع الشِّعر في نظريَّة الجمال؟ وهل يمكن أَن نتخيَّل هذا العالم بلا شعر؟ أَو، مثلاً، أَن نتخيَّل كلَّ البشر شعراء؟ ما الَّذي سيتغيَّر في كلتا الحالتين؟

يقول الشَّاعر الفرنسيُّ سان جون بيرس:

"لستُ صانعاً إلاّ للكلمات، إنَّها الكلمات، فمن يعنى بها؟ إنَّها ذاتي، فمن يعنى بها؟"

سوف ينفتح الباب أَمام هذا المنطق واسعاً للتأويلات.

فهل اللُّغة هي مادَّة الشِّعر المحتملة الوحيدة؟ هل تشكِّل اللُّغة مجرَّد صورة للحالة الشِّعريَّة الَّتي تتفجَّر في أَعماق الشَّاعر؟ وما العلاقة بين الصُّورة والأَصل؟ أَعني هل بوسع اللُّغة أَن تعكس الحالة الشِّعريَّة بدقَّة؟ أَم هي مجرَّد حوامل ماديَّة للحالة الشعريَّة، الَّتي لا يمكن لها أَن تتجلَّى دونها؟

قد يبدو من المنطقيِّ القول، إنَّه لا تجلِّي للشِّعر بلا لغة، فالشِّعر مادَّته اللُّغة، نعجنها، كلٌّ على طريقته، وحسب ميوله، وأَحلامه، وميراثه الثَّقافيِّ، وأَدواته الفنيَّة، وخيالاته، ويُخرج منها أَشكالاً بعينها، ولكنَّ ذلك سوف يقودنا بالضَّرورة إلى تعريف اللُّغة ذاتها، ثمَّ، إلى تعريف الحالة الشِّعريَّة الَّتي تنتاب الشَّاعر، كلٌّ ككيان منفصل، ومحاولة القبض على لحظة تداخل الحالة الشعريَّة، باللُّغة، وتجلِّيها من خلالها.

يفرِّق فردينان دي سوسير بين الكلام، واللُّغة، واللِّسان، والكتابة، الَّتي تُعتبر صورة للُّغة، وصورة مشوَّهة، يزيد تشوُّهها أَو يقلُّ حسب اللُّغة، ويؤكِّد على أَنَّ اللُّغة نظام اجتماعي، نظام من الإشارات الَّتي تعبِّر عن الأَفكار، وهي نظام سايكولوجي محض، مستقلٌ عن الفرد، بعيداً عن الكلام، الَّذي يُعدُّ ثانويَّاً، ويدخل ضمن التَّصنيف السايكوفيزيائي.

"والإشارة اللُّغويَّة هي كيان سايكولوجيٌّ له جانبان، الأَوَّل هو الفكرة، والثَّاني هو الصُّورة الصَّوتيَّة، يتَّحدان في دماغ الإنسان بآصرة الإيحاء، ولا يُقصد هنا بالصُّورة الصَّوتيَّة النَّاحية الفيزيائيَّة للصَّوت، (أَي الصَّوت المسموع كموجات)، بل الصُّورة السَّايكولوجيَّة له، أَي الانطباع أَو الأَثر الَّذي تتركه في الحواسِّ، ويصبح هذا المفهوم واضحاً أَكثر حين نتلو في مخيِّلتنا، مقولة، أَو قصيدة، دون أَن نحرِّك أَيَّاً من أَعضاء النُّطق".(1)

اللُّغة ليست تسميات أَبداً، ليست الشَّيء وتسميته، وإنَّما هي أَعمق من ذلك، وأَبعد بكثير، إنَّها كلُّ ما ذُكر أَعلاه، وأَكثر.

ثمَّة سؤال يُطرح على كثير من الشُّعراء المبدعين، حين يقف البعض أَمام صورة شعريَّة مذهلة، أَو فكرة غريبة، مفاده: كيف يكتب الشَّاعر الشِّعر؟ من أَين له بهذه الصُّور؟ من أَين جاءت؟ وتحت أَيَّة ظروف؟

ليس ثمَّة شاعرٌ واحد بوسعه تقديم إجابات مقنعة، فحتَّى الشَّاعر نفسه، يقف أَمام نصِّه في بعض الأَحيان ذاهلاً، ويطرح السُّؤال ذاته على نفسه، دون أَن يجد إجابات.

هي حالة شعريَّة فقط، حالة من التجلِّي، دفعتْ البعض إلى تفسير الشِّعر بالتَّواصل مع الغيب، فبرَّروا الحالة الشِّعريَّة، بالإيحاءات الغيبيَّة، ثمَّ قالوا إنَّ للشِّعر شيطاناً، ثمَّ قالوا إنَّ الشِّاعر فيه خصلة من النبوَّة....فرينيه شار يعرف الشعر بأَنَّه الوسيط بين الآلهة والبشر، ويذهب هولدرين الشاعر الألماني إلى أبعد من ذلك حين يقول إنَّ "الشَّاعر هو ذلك الَّذي يذهب متَّجهاً صوب الإلهيِّ، ما يسمح للإنسان الفاني ببلوغ علامات الآلهة، والشَّاعر هو من يُسمِّي المقدَّس، ويقوم بتحضير الأُسس الَّتي عليها يُقام لسان الأُمَّة، وبذلك يضع قواعد وجودها...."

ثمَّة حرب تستعر منذ زمن بعيد، في كافَّة المجتمعات البشريَّة النَّاطقة، بين الشِّعر، ولغة الشَّارع، أَي لغة العوام، وكلَّما ارتفع وعي المجتمعات البشريَّة، وأَصبحت أَكثر تحضُّراً، تقلَّصت المسافة بينها وبين لغة الشِّعر.

إنَّ التطوُّر الَّذي يحدث للُّغات، هو تطوُّر موضوعيٌّ، بطيء، تفرضه الظُّروف الَّتي تعيشها الشُّعوب النَّاطقة بهذه اللُّغات، والمحطَّات المركزيَّة الَّتي تعيشها، لكنَّ ذلك لا يعني أَبداً أَنَّ هذه اللُّغات تسير دائماً بالاتِّجاه الصَّحيح، إذ ثمَّة عوامل متعدِّدة، واحتمالات، ومسارات، ومفترقات طرق تجد اللُّغة نفسها أَمامها، في عصر من العصور، قد تؤدِّي في حصيلة الأَمر، إلى هزيمة اللُّغة، وضياعها، وتبعثرها، ثم اندثارها كلغة حيويَّة، وتربُّعها على رفوف التَّاريخ.

ليست اللُّغة كائناً بشريَّاً، لكنَّ قدرتها على الحياة، والاستمرار، لا شكَّ مرتبطة بمساراتها، وقدرتها على التكيُّف مع الظُّروف المحيطة، والتطوُّر، واتِّخاذ مسارات صحيحة تؤدِّي إلى أَهداف مرحليَّة بعينها، وقد تُصاب اللُّغة بالتَّعب، والوهن، وهنا، بالذَّات يكمن دور العامل الثَّقافيِّ، ضمن العلاقة الجدليَّة بين اللُّغة والثَّقافة، في إخراج اللُّغة من حالة المرض.

تكمن أَهميَّة الشِّعر بالنِّسبة للُّغة، دون سواه، بقدرته الاستثنائيَّة على تجاوز بناء اللُّغة ذاتها، وفرض بنى جديدة تفيض بالحيويَّة والحياة، وبذلك، فهو يتجاوز الترهُّل الَّذي يصيب اللُّغة إثر التَّداول اليوميِّ.

ولكن يحقُّ لنا أَن نتساءل: لماذا الشِّعر بالذَّات؟

لأَنَّ الشِّعر يستند إلى الخيال بالمطلق، ويحاول دائماً أَن يتجاوز اللُّغة ذاتها.

إن الحالة الشِّعريَّة هي حالة مستقلِّة تماماً عن اللُّغة، وهي أَقرب ما تكون إلى فكرة الحالة الصُّوفيَّة الَّتي يحاول الصُّوفيُّ من خلالها الخروج من الزَّمن، ومن الكينونة الماديَّة إلى الفضاء الرُّوحيِّ، وتجاوز كلَّ حالات التَّضادِّ الَّتي يتأَلَّف منها الواقع الماديِّ، إنَّها حالة من التَّسامي المطلق، تتملَّك الشَّاعر، فتولد من خلالها القصيدة، لكنَّ ولادة القصيدة لا تعني أَبداً أَنَّ هذه القصيدة تولد من اللُّغة، إن للقصيدة ولادة موضوعيَّة بحتة، بعيداً عن اللُّغة، تولد في الوجدان، حالة ضبابيَّة، شكلاً من أَشكال الطَّاقة الرُّوحيَّة، تدفع بالشَّاعر/الفنَّان إلى كلِّ ذلك القلق الَّذي يزلزل كيانه، ثمَّ تبدأُ بعد ذلك في التمثُّل من خلال نافذة اللُّغة بالنِّسبة للشَّاعر، النَّافذة الوحيدة الَّتي تجدها أَمامها كمخرج، ليكتشف الشَّاعر بعد ذلك أَنَّه لم يعبِّر عن تلك الحالة الحقيقيَّة الَّتي اعترته، وأَنَّ اللُّغة كحامل ماديٍّ ونفسيٍّ لم تترجم حالة الهذيان تماماً، ما يدفعه إلى محاولات أُخرى، جديدة، لا تنتهي إلاّ بجنونه، أَو يأسه، أَو موته.

ربَّما ذلك ما يفسِّر أَيضاً هذيان اللُّغة الصوفيَّة الَّتي لا تكاد تفهم منها شيئاً، إنَّها باختصار لغة تحاول أَن تتجاوز الواقع المفعم بالمتضادَّات، إنَّها تحاول أَن تثقب اللُّغة وتخرج منها إلى الطَّرف الآخر.

لقد شهد العالم مجموعة من التغيُّرات الَّتي قلبتْ مفهوم البشر عن الكون، والإنسان رأساً على عقب، فمع الثَّورات الفكريَّة الَّتي قادها كوبيرنيكوس، وغاليلو، وديكارت، ونيوتن، تجلَّت طريقة جديدة للتَّفكير، ومفاهيم عن موقع الإنسان في الكون، وعلاقة الأَرض بهذا الكون، لكنَّ مفهوم الزَّمن المطلق- الخطِّ المستقيم- والكون الآلة الَّذي وضعه نيوتن، لم يستطع أَن يجسِّر الهوَّة بين الفنِّ، بكلِّ الخيال الجامح الَّذي يحمله، والمفاهيم العلميَّة، خصوصاً مع الثَّورة الدِّيكارتيَّة الَّتي مجَّدت العقل، وأَبقت على كثير من المفاهيم الموروثة.

لكنَّ ذلك كلَّه، كان إرهاصات فقط للانقلاب التَّالي الَّذي سيصيب الكون بعد قرنين من الزَّمن، فسرعان ما تمَّ التمرُّد في أَوروبَّا على مفهوم الكلاسيكيَّة، ليحمل الفنُّ على عاتقه رؤيا جديدة للحياة، والوجود، والإنسان.

لقد كانت المدرسة الانطباعيَّة في الفنِّ، تمرُّداً مطلقاً على الموروث، توَّجت مدرسة التَّنوير، ترافقتْ مع الرؤية النيتشويَّة الَّتي أَخرجت الموروث إلى مفاهيم مختلفة تماماً، وجديدة على منطق البشر، تلا ذلك تلك الثَّورات الفلسفيَّة والفنيَّة المتلاحقة، الَّتي ما كان يمكن لها أَن تتنفَّس الحياة لولا الثَّورة المعرفيَّة الجديدة الَّتي انعطفتْ بتفكير البشريَّة تماماً، وأَعني هنا بالذَّات النظريَّة النسبيَّة، ونظريَّة فيزياء الكوانتوم، مع السَّنوات الأُولى للقرن العشرين.

إنَّ الرُّؤية الجديدة قد خلخلت المعرفة البشريَّة، وقوَّضتْ الكثير من الموروث، إلى تلك الدَّرجة الَّتي أَحدثت الدَّهشة، ومع تطوُّر الأسئلة، ومنطقها، أَصبح الأَمر أَشبه بالسِّحر، لم يعد ثمَّة يقين في هذا الكون، وانهار المنطق الأرسطيُّ، ومعطيات العقل، "وجرى تجاوز الكثير من المفاهيم المتضادة كالقوة والمادة، والجسيمات والموجات، والحركة والسُّكون، والوجود والعدم، وتلك هي نظريَّة الكمِّ الأَصعب تقبُّلاً من قبل عقول البشر"2.

ما كان يمكن أَبداً للكثير من المدارس الفنيَّة والفلسفيَّة كالتكعيبيَّة، والسورياليَّة، الصُّمود لولا المنطق الجديد في النَّظرة إلى الكون، حتَّى نيتشه نفسه أُعيد اكتشافه في ظلِّ هذا المنطق.

لقد انقضى مع النسبيَّة والكوانتوم ذلك الوقت الَّذي كانت رؤية البشر لظواهر الكون، والحياة، والإنسان، رؤية رتيبة، فمهومنا للزَّمن تغيَّر، وللمكان أَيضاً، ولعلاقة المكان بالزَّمان، وللكون، وللصُّورة والأَصل، ولدور الإنسان، وللاحتمالات، ولمنطق العقل، وللغة التجريد، ولليقين، وما عادت اللُّغة كلُّها، بكلِّ ما حملتْ من دلالات قادرة على أَن تعبِّر عن تلك الشُّروط، والقوانين الَّتي تحكم العالم ما دون الذرِّيِّ.

كلُّ شيء يبدو مذهلاً، غير قابل للتَّصديق، لكنَّه ملموس، مُثبت، حقيقيٌّ.

لقد خلق الكوانتوم أَسئلة من نمط جديد، هي أَقرب في هذيانها إلى أَسئلة الشَّاعر، ما بنى جسراً ما، خفيَّاً، بين ما يسأَله الشَّاعر، وما يسأَله عالم الكوانتوم.

كلاهما يتعاملان مع عالم هلاميٍّ بلا ملامح، ولا منطق، ولا يقين، عالم لا يمتُّ إلى المتضادَّات بصلة، عالم بلا كتلة أَيضاً.

لقد انتقل الواقع، كلُّه، من ثبات المفهوم، إلى ديناميكيَّته، الحركة الدَّائبة، ومصفوفة الأَسئلة الَّتي تتوسَّع كلَّما حاولنا أَن نجيب على سؤال ما، وسبر أَغوار الكينونة الإنسانيَّة للوصول إلى ما ورائها.

ثمَّة إذن ما تغيَّر في مفاهيم الكون، ورؤية الإنسان، وموروثه، وطبيعة أَسئلته، ومسالك بحثه، وما عاد وصف الواقع مسأَلة سهلة يمكن أَن نمرَّ عنها، هكذا، بسهولة، دون أَن نطرح أَسئلة ما وراء هذا الواقع، وما عادت وظيفة الشِّعر مع كلِّ هذا الانقلاب، هي، بسهولة، وصف ما هو موجود، وإعادة تصويره، نمطيَّاً، ما حتَّم على بعض النقَّاد والشُّعراء إعادة تعريف الشِّعر، ووصفه بأَنَّه عمليَّة خلق مستقلَّة، لا تتبع الواقع المرئيُّ، وإنَّما هي عمليَّة متجاوزة له، ما يعني هنا، بالضَّرورة، إعادة النَّظر في منطق اللُّغة، لتكون وعاء صالحاً لحمل هذا المتخيَّل.

إن الحداثة ليست مجرَّد حداثة في مصطلحات اللُّغة، أَو في القفز عن الشَّكل، مهما كان، بل في تلك الرؤية الشعريَّة-اللُّغويَّة الَّتي تندرج ضمن إطار محاولات تجاوز اللُّغة إلى ما خلفها، إلى ذلك العالم الموازي القابع في الظُّلمة، الخارج عن القانون، فلحظة الحداثة، هي تلك اللَّحظة الَّتي يكون بوسع الشَّاعر أَن يقبض فيها على لحظة زمن هاربة في ذلك العالم، وعكسها.

ثمَّة لغة أُخرى، في الدَّاخل، لغة الرُّموز، والصُّور، لغة فطريَّة نفسيَّة موجودة منذ وجد البشر، لكنَّنا لم نستطع حتَّى اللَّحظة فكَّ شفرتها.

ثمَّة ما هو متجاوز للُّغة، كالكوانتوم، والرِّياضيَّات، والموسيقى، والصُّوفيَّة، واللَّوحة السُّورياليَّة، وغير ذلك كثير، ثمَّة ما يقبع خارج قوانين اللُّغة، بطبيعته، والشِّعر، الَّذي ما فتئ لا يتوقَّف أَبداً عن محاولات تجاوز اللُّغة، جزء من هذه المنظومة أَيضاً، لكنَّه مختلف عنها كونه يحاول أَن يتجاوز اللُّغة وأَداته اللُّغة ذاتها ما يجعل مهمَّته شبه جنونيَّة.



علم اللُّغة العام-فردينان دي سوسير-ترجمة د. يوئيل يوسف عزيز-دار آفاق عربيَّة.

التصوُّف الشَّرقي والفيزياء الحديثة-فريتجوف كابرا-ترجمة عدنان حسن-دار الحوار للنَّشر والتَّوزيع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى