سهير السمان - اللغة العربية بين الدين والسياسة..

لقد استحوذت بعض اللغات الإنسانية على العالم، حيث يلتقي حولها البشر، وتُترجمُ منها وإليها المؤلفات، وتُنظم بها المؤتمرات العلمية، والمحافل السياسية، وأسباب ذلك عديدة، منها أن اللغة تحيا بحياة شعوبها، وتقدمهم وتطورهم، فلم تصبح لغة مثل الانجليزية؛ اللغة العالمية إلا لأنها استطاعت أن تحقق التواصل العالمي من خلال العلم والتكنولوجيا.
و اليوم ونحن نحتفل باليوم العالمي للغة العربية، نقف أمامها كلغة كانت في فترات زمنية سابقة لغة عالمية، تعلمها وتعامل بها الكثير من شعوب الأرض.
ولكن هل كان سبب انتشار اللغة العربية في العالم ،هو السبب نفسه الذي انتشرت به اللغة الانجليزية الآن؟ أم أن الدين والسياسة كانا السبب الرئيسي في انتشارها قديما من خلال ما سمي بالفتوحات الإسلامية، حيث لم تخرج اللغة العربية من بيئتها في الجزيرة العربية، عن طريق التجارة أو السياحة، بل كان الدين والحروب السياسية سبب في انتشارها.
في حين أن التجارة من قبل ظهور الإسلام كانت هي الوسيلة التي جعلت من اللغة العربية تستقبل العديد من المفردات السريانية والآرامية في مراحل تكوينها وتستوعب وتستقبل المتغيرات في تراكيبها ومفرداتها إلى جانب لهجات ولغات القبائل العربية التي استقت منها الكثير لتكون بعد ذلك اللغة العربية الفصحى التي أصبحت لغة الشعر والمعاملات التجارية في عصر ما قبل الإسلام.
ولاشك أن لعلماء الإسلام التنويرين دور كبير في جعل اللغة العربية لغة علم وثقافة في زمنهم، أمثال ابن سيناء والرازي والكندي، وغيرهم ممن ترجموا الكتب اليونانية والفارسية، و هم أيضا من أدخلوا النظم والقواعد لحفظ اللغة وجعلها لغة تقوم على الأسس المنطقية.
ولكن أين اللغة العربية اليوم من لغة العلم والتكنولوجيا والتقدم؛ سوى أنها لغة يساعد على انتشارها فقط رغبة الداخلين في الإسلام لتعليم القرآن، وحفظ الطقوس والشعائر الدينية، أليس ما نراه اليوم هو قتل للغة العربية التي اختزلت كلغة دينية تقوم أساسا على الكتاب المقدس، وأصبحت لغة الدين السياسي، التي يتعامل بها العرب كونهم أحق البشرية في حمل لواء الإنسانية وبالتالي يجب أن تحاط لغتهم بهالة من القداسة، والسعي إلى عزل اللغة عن الواقع تحت ذريعة الخوف من "تلوّثها" بالعامي أو الأجنبي، ويعد هاجسا دينيا وقوميا شوفينيا، وكأن اللغة العربية كيان "صافٍ" لا يجب اختلاطه بكيانات مستحدثة، في حين أنه من المعروف أن القرآن نفسه لا يخلو من الألفاظ والمفردات الأجنبية، وبالتالي فإن العربية إذا أرادت أن تتخطى محليتها وارتباطها بالدين فقط والمقدس، عليها أن تتلاقح باللغات الأخرى، وأن تأخذ من "العاميات" المختلفة والثرية، فالعاميات هي المجال الحي الذي يشهد التفاعل البشري اليومي وتطوره، والذي يدل على عبقرية الإنسان في الإبداع اللغوي اليومي، وهو ما يمكن أن يضخ الحياة في اللغة العربية، فلا تكاد تخلو العبقرية الشعبية من انتاج صيغاً و اشتقاقات وأساليب جديدة، يمكنها أن تكون رافداً كبيراً ومهماً لتطوير العربية وتقريبها من الإنسان البسيط، فاللغة العربية يجب أن تقلّص المسافة الموجودة ما بين "عربية المدرسة" و"عربية الحياة"، وإذا لم تستفد العربية من العاميات فإنها ستتحوّل إلى لغة "خطبةِ" الجمعة في المساجد والجوامع.
من جانب آخر لا يمكننا أن ننظر إلى اللغة العربية تلك النظرة المقدسة التي ننظر بها إلى القرآن، لنقول عنها أنها اللغة التي سيتكلم بها أهل الجنة، واستبعاد باقي اللغات البشرية التي تحمل الكثير من الكنوز في العلوم والفنون والثقافة. يجب أن نتعامل مع اللغة ككائن حي، يتغير ويتطور، تختلط باللغات الأخرى، وتتلاقح معها، فاللغة ليست لغة المشاعر والعواطف التي نتغنى بها، بل هي أداة منتجة وفاعلة.

سهير السمان
# اليوم العالمي للغة العربية#

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى