محمد فيض خالد - نخلة شيحة.. قصة قصيرة

دقائقٌ ويطلّ اللّيلُ بجناحيهِ ، يُخيّمُ الظّلامُ المُوحِش مُقتَحِما سَماءَ قريتنا ، يُرسِلُ المساءُ سجوفه المُخيفة ، حينئذٍ تدبّ الحَياة في جَسدِ اللّيلِ المُسجّى بين طياتِ الأفق ، نشعر وكأنّ أغلالا آخذة بأعناقنا ، وقشعريرة تتمشى في أعصابنا المُهتزة ، ينقطع اللّعب ، لنطُالِع من الجانبِ الشَّرقي للترعةِ ، تفاصيل المشهد الذي اختلف ليله عن نهارهِ ، تتراءى شاخصة تتمايل تحتَ عيونِ الكواكب ، التي اطلّت من فروجِ السُّحبِ المُتراصّة ، تمسح أيدي النسائم الباردة فوقَ جريدها المُتَهدّل ، تتراقص منتشية سعفاتها الخُضر ، يُسمع لها صلصلة في حفيفٍ مروّع ، سألت أحد العجائز عن تاريخها المجهول ، قال مستوحِشا ، بعد أن سَحَبَ نفسه الأخير من دخينتهِ المُرتَجِفة بينَ أصابعهِ : لا أحد يعرف عن " نخلة شيحة" إلا الخوف والهَلَع ، وأحاديث الجِن والمردة ، قالت لي جارتنا التي اعتادت الذهاب لبحرِ يوسف مُبكِرا : لقد رأيتُ جنية افترشت الأرضَ ، تسقي صغيرها ، وقد تدلّت أثدائها كالجِرارِ ، رمتني بعينها المحمرّة واختفت ، عرفناها جيدا ليست كباقي نخلاتِ الجِسر القديم ، في محيطها تتلاعب المخاوف بقلوبِ أعتى الشجعان ، حين يستحكِم الظّلام فينزع نَزعا يطيّر الألباب ، كيف لا؟! وعفاريت شيحة يعترضوا المارة ، ويتلاعبون بهم ، دارت الكثير من المراهناتِ بين فتيانِ قريتنا الأشداء ، تحتَ سمعِ قمرِ اللّيلِ السّاهر ، فمبلغ الفتوة ؛ أن يقتحمَ المُراهنُ تلك المفازة ، ويعود مُنتصِرا ، يحملُ من ثمراتها اللّذاذِ ، تمنى عبدالعاطي صديقي الأثير يوما ، وهو يسرح بنظرهِ في الأفقِ والهمّ ينوشه ؛ أن يكبر ويصبحَ شابا ، فيقارِعَ أقرانه ، ويتلمّس أسباب الوصول " لنخلة شيحة" قال له والده ، ونظراته مشحونة بالإعزازِ : إنّ جدّك ممن غَلَبَ عفاريت النّخلة ، كافأه والده ، فأُقيمَ عرسه بعد أسبوعٍ ، في أوقاتٍ كثيرة يُزيّنُ الشيطان لنا بلحها الأصفر شبيه الكهرمان ، ننظر إليهِ من طرفٍ خفي ، ولكن من ذا الذي يجرؤ ، بعد سماعنا الشيخ " رفيع" وهو يكرّ حبات مسبحته فزِعا : لقد اتخذَ الجَان والأبالسة بلحها طعاما ، يجتمعوا عليهِ حتّى يدب الشّفق الأحمر في حاشيةِ الأفقِ مع مطلعِ النّهار ، فجعنا الدّهرُ فيمن فجع في ريفنا الهانئ ، حِينَ امتدت كُتَل الأسمنت والطّوب الأحمر ، تَلتهِم حقولنا الموّرِقةُ ، حُوصِرت النخلة بأعمدةِ الإنارة ، واكتظّ المكان بلمباتها المُشِعة ، سرت في عروقِ النّخلة برودةِ الشّيخوخة ، لم تحتمل قهر الزّمان ، بين عشيةٍ وضحاها تهاوت أرضا ، داسها الصِّبيان في ألعابهم ، طُويت صفحتها ، كما طُويت صَفحات كثيرة غيرها ، نسيها أهل قريتنا ، فعادة أهل قريتنا النسيان ..


محمد فيض خالد / مصر


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى