حسن إمامي - المدينة الزرقاء

ها نحن التقينا على شاطئ جميل. على متن القطار المتجه شمالا، تصفحت الجريدة. جعلت أملا في الأبراج، قرأت محتوى المهنة والعاطفة والصحة. ابتسمت للتلاقي، استغربت لغرابة التخمينات.

طويت الصفحة لأعود إلى نفسي. فتحت الرواية على صفحة علمتها بتذكرة قاعة سينما، تذكرا لفيلم لم أرد أن امحوه من ذاكرتي، عشقي لرومانسيته وموسيقاه ومشاهده، وقصة حبه التي رقى بها مخرج الفيلم لتكون نموذجا يقتدى، ربما لقلبه هو وطاقم إنتاجه. من يدري.

سافرت عبر الرواية إلى العالم الباريسي، وتيه الغربة، والبحث عن الذات، والاستمتاع بالحرية وملذات الكاس والجسد القابل للالتحام واللقاء والاختراق.
فككت عقدتي في إطفاء لهثي. لم يكن الرجل وحده من يجري وراء المرأة، من يعبر عن الرغبة، يبوح بكلمة: أحبك! كانت المراة كذلك تجري،تعبر ،تبوح...

تنقصنا في دواخلنا المساواة. تفكرت ان الرجل إذا أراد المرأة لزمه الذهاب إلى معركة حربية للعودة بقربان تقرب. هل يعود من المعركة؟ ربما يموت على آمال معلقة.

تنقصنا في دواخلنا المساواة. لابد ان نحارب لهاثنا، وجري غددنا قبل عقولنا. ربما لنا الفوضى، ولهذا العالم الباريسي النظام. عبث فيه هي أفكاري بين ذهني ومكان تصوير مشاهد الرواية.

نظرت في ممر المقطورة.كراسي على اليمين وعلى الشمال مصفوفة،مربعات متقابلة،مثاني مثاني،على ذات اليمين وذات الشمال جلدية زرقاء
أملت في شعر مصفوف أنثوي حاضر فيها. ربما تعويض عن حاجاتنا وضرورة المرأة في حياتنا وأنفاسنا. ارتحت لبعض حضورهن، من بدا وجهها أمامي، مهتمة بأنوثتها وأناقتها من هي مغايرة لقبلتي أراها من خلف رأسها ورقبتها... من هي ضاربة في السن في زاوية، تجاعيد ومساحيق بالية....

قلت تلك حبيبتي، وهذه في مقام امي وخالتي...

ها أنذا اثبت في ذهني اثاث هذه المقطورة في سفري وسجل ذكرياتي. ادخلت مشاهد الطبيعة والمدن والقرى في شريط سفري الذهني والحسي. ألفت بين المادي والمعنوي، بين ذكريات ماضية في السفر ومشاهد الأمكنة والبشر.

تلك كانت رحلتي.

ها نحن التقينا على شاطىء جميل. في هذه المدينة الزرقاء، التي اسميها زرقاء اليمامة. لا ادري لم سبقني هذا التشبيه في صورته على فهمي له. ما لعقلي يسبقني في استنتاجاته ولا يساعدني على القبض على الحدس والفهم في أوانه؟! ربما لانفتاح زوايا أبراجها و أفق أسوارها السميكة على زرقة المحيط المتوجة ببياض. كنت أحب أن يجعل كحلا على مدارها، حتى تصبح جميلة فاتنة عيونها، زرقاء المحيط، مرتقبة الآفاق. كم منا يحب هذه المدينة و لا يدري لماذا هو يحبها؟ هل ينفلت الحب عن فهم العقل، فيجرف المشاعر والأقوال والأفعال، ويطالب العقل بالانقياد؟

لماذا أحبها أنا كذلك؟ لا ادري، رغم محاولة فهمي بعقلي. هل هي منطقة العروج إلى السماء؟ وأي سماء؟

أنا لا أسافر، نفسي هي التي تسافر، هي التي تختار هذه المقهى وهذا الزقاق، وهذا التلاقي التواق للأشواق.
لماذا أحبها؟ هي مجال التلاقي.

وجدت الجواب في السطر السابق من الباقي. مدينة نظمت عالمها للعشاق. جردتهم من عقد ومن رقابة الذهن ومجتمع الحذاق. لماذا أحبها؟ أ لكوني اشتاق؟ نعم... ضغط الممنوع والمكبوت لا يطاق.
لماذا أحبها؟ وأين أنا ذاهب الآن؟ أليس إليها ولأجلها؟ قد تكون هي المرأة ـ المدينة، أو المدينة ـ المرأة، كل يتجسد في الآخر. ألست ذاهبا لملاقاتها؟

ها نحن التقينا على شاطئ جميل، شاطئ المدينة الزرقاء.

وأتساءل عن تأنيث الاسم للمدينة، فأقارنه مع تسمية الدوار. واستحضر الخوف من بارود الانتقام، والدفاع عن الشرف بإراقة الدماء وخنق الأنفاس... وهذه المدينة مرحاء.
ربما هي أحلام رسمتها عنها كي أحبها فيها وأعيشها في خفاء. فعيون الدوار حاضرة في كل نقطة من البلاد ، أكانت مدينة بالتأنيث أو مدشرا بالمذكر. ربما.

ها نحن نلتقي على شاطئ جميل، هي آثرت أن نبتعد عن مدينتنا. ماذا تريد؟
هل تريد الانطلاق في مكان الإسراء والعروج؟ هل تريد التجسد في المدينة الزرقاء؟ تفتح لي أسوارها وتقحمني في أسرار سراديبها ومسالكها، في لعبة تشتعل حرارتها مع أشعة الشمس الساطعة. تزعزع برودة الزوايا المحجوبة عن الأشعة الشمسية، وتنبعث الحرارة الباردة لتدفئ الأنفاس التي هي في طريق المد والهيجان مع حركة البحر، الساخنة بالاشتياق...
لماذا في كل مرة نحتاج لإعادة نفس الزيارة والاكتشاف، لهذه المدينة أو لذا الجسد... هل المسالة حب واشتياق؟ ربما.

ها نحن نلتقي على شاطىء جميل. بداية انزعي حذاءك، كفاك تقييدا للحركات، اتركي الدم يسري في سائر الجسد، ستشعرين بارتياح.

على رمال تتعانق وتتداخل مع الماء ولعبة اليابس والمبلل، ستكون لخطونا كذلك وبتدرج لجسدينا في هذه المدينة الزرقاء.
هو سحر الحياة.

سحر الحياة، اختيار الزمان والمكان، ثم (...) وما يناسب الكلام ويطرب الوجدان.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى