د. سيد شعبان - الذي لم يدخل الكهف

لم تمض بعد تلك السنوات الثلاثمائة؛ التسع الزائدة لن تأتي ربما لأن آلة الزمن مصابة بالعطب أو لعل الفأر الذي عبث بسد مأرب قد استهوته اللعبة فعاد مجددا يمارس هوايته في سرقة الأحلام الوردية.
الأشقاء في جيدهم سلاسل من رصاص أعمى وأصم، كل قبيلة منهم نثرت عطر منشم.
ملأوا خزان السد بالدم لأحمر، لم تعد عدن جنة الله في أرضه ولم يكن بد من صنعاء وإن طال السفر.
إنها أبيات شعر مستهلكة لاتشفي من وباء ولا تشبع من جوع.
قيل إنه سافح في أكثر من مدينة؛ خرج من " أبو غريب" يلقي بشواظ من لهب، عراة هزأ بهم هؤلاء الذبن جاءوا من وراء البحار.
مرة وراء أخرى تكاثرت الجرذان في تلك البنايات الخربة، سكنت الغربان ذات الأجنحة المزيفة حجرات النوم العتيقة؛ مارست فيها كل الأفعال التي تثير التقزز، عند شاطيء المنتزه تجوب بنات عرس غير آبهة بالعابرين في ليالي الشتاء المثقلة برذاذ البحر.
أما النسوة فقد اكتفين بأن يلتقطن لها الصور التذكارية.
يخرج عالم الأحياء المفتون بنظرية النشوء والارتقاء كل مساء ليدلل أنها سليلة كائنات عملاقة تشبه الفيلة أو هي إليها أقرب.
قبل ذلك الوباء كان يحلو له أن يغازل اللواتي يقفن في الشرفات متهدلات الشعر، يرقبن القادمين عبر البحار.
تلوك الواحدة منهن حكاية مضى عليها زمن.
ينتظرن القطار على أمل أن يأتي فيه ذلك الفارس المرتدي قناع الفروسية لايحفلن بغير بطاقة حسابه الجاري في المصارف.
ربما كان واحدا ممن امتهنوا غسيل الأموال في بلاد مصابة بتبلد الحس.
اعتدل في جلسته وبدأ في سرد كثير من الروايات؛ مؤكد أن بعضها لايصدقه العقل، استمعت إليه والنوم يداعب جفني سيما ونحن في حالة من فراغ قاتل لم تعد لدينا غير تلك الخرافات نقتاتها في زمن الكورونا.
لم تفلح نصائح الأطباء في بث الطمأنينة في داخل الناس؛ وحدهم الذين دخلوا ذلك الثقب المجوف بنامون في سعادة.
- ترى هل سمعوا بخبر ذلك الوباء؟
انتابتني حالة من الدهشة، أجبته مؤكد أن كلبهم الرابض في مقدمة الغار لن يكف عن التصنت، لديه حاسة الشم تفوق تلك المعدات التي تتجسس ليل نهار على أرقام الهواتف.
يوم سقطت بغداد كان ثملا، أخبرته بأن الفأر الذي عبث بالسد تضخم حتى صار حاملة طائرات تلقي بكتل من نار؛ عجز الرشيد فغدت حاضرته مرتعا لهؤلاء العلوج.
الذي يخرج مساء في برامج اللغو يبرهن أن بنات عرس يمتلكن اغراء لم تتمتع به الفاتنة الشقراء.
ولأنه يدمن ذلك العبث حاول أن يمد عبنيه إلى واحدة منهن، يكفيه أن يحيط أرصدته بسياج حديدي من وجاهة مزيفة.
حالة من التيه تنصب شباكها حولي، افتقدت بطاقة هويتي، هل ينكرني زمني؟
حاولت أن أتعرف على الطريق إلى مدخل الكهف الذي سكنه السبعة وثامتهم كلبهم، عيون تترصدني، صافرة العربة الممغنطة تشي بي، ألقى بجسدي في مياه البحر فيطردني جهة الشاطيء، كيوم ولدتني أمي تلقفتني أنثى بيضاء للناظرين، دثرتني لم تتركني نهبا لتلك العيون الوقحة.
افتقدت منذ أن وطئت قدماي هذه الشوارع والأرصفة التي تقذف باللهب أشياء كثيرة، وجدتني في حلبة مصارعة المنتصر فيها مصاب بألف طعنة.
بدت لي المدينة العجوز كطفل مصاب بمرض غريب؛ نحيل يترجرج في جلبابه ورأس متضخم يقارب ثلثي جسده، حركة قطار الأنفاق تبث داخلي شعورا بالاختناق، حين كان تحت النهر- فالقطار يمر عبر أنبوب ضخم يصل بين ضفتي النهر- تملكني الخوف من أن يخترق الماء عرباته، يقترب الموت مني في كل لحظة.
يوم كنت صغيرا حذرتني امرأة غجرية من أن أمسك ظلي.
ثمة أقاويل أن من يفعل هذا يمسه طائف من الشيطان؛ يظل قزما مهما مرت عليه السنوات، غير أن شعر رأسه يظل أسود كيوم ولدته أمه، ترسم السنون خيوطها المتعرجة، صرت مولعا بتتبع الحكايات الغريبة، في مرة كان القمر مكسوفا لم يعد لي ظل، غمرتني فرحة لم أجد لها مثيلا، رفعت ذيل جلبابي وأطلقت ساقي جريا حقا لقد كان الهواء مغريا لمن لم يجد قوت يومه يكفيه أن يملأ بطنه منه بدل أرغفة الخبز الجافة، لم أكن أرتدي غير هذا الجلباب، صرت الولد المجذوب، سخر مني الصغار الذين كنت ألعب معهم.
في ذلك الميدان كان الموعد، فالأسود تزأر حين تشعر بأنها على موعد مع الفجر ومن ثم تشرق الشمس.
أسرعت أمي كي لا أحاول تتبع ظلي، تدرك كم أنا مصاب بذلك الهاجس القاتل!
عندما اجتزت بوابة محطة السكة الحديد العتيقة التي خططوا أن تشق القارة السوداء، نهبوا الغابات وافترسوا الغزلان؛ ساقوا الأسود عبيدا في مزارع البن والقطن، كم ألقوا من نفوس في مياه بحر الظلمات!
ارتحلوا بعدما زرعوا في برنا أشجار السنط التي تشبه رؤوس الشياطين؛ أسرع منتشيا ففي تلك المدينة تكمن الأحلام التي تراود القادمين من أعماق الوادي الذي يضربه القحط أن يمتطوا السيارات الفاخرة؛ يتخلصوا من تلك الشقوق التي تشبه أخاديد قوم عاد!
أتلفت كل ناحية، تعجزني أمواج من البشر يجرون خلف شيء خفي، صراع لا طاقة لي به. رغيف الخبز معجون بعراك يومي.
بنايات تعلو حتى تقارب السحاب؛ مدينة يسكنها ثلث أهل المحروسة، تلتهم بتلك الكتل الخرسانية حبات القمح.
أجري وأكاد أمسك ذيلي، يخيل إلي من سحره أنه يسابقني، ترى لأية وجهة هو سائر؟
تبدو قلعة الجبل من بين أطلال العتبة الخضراء، أنظر مأذنة الحسين إنها تقف وحيدة تكاد تشبه أبا عبدالله يوم كربلاء، على يميني يقف الأزهر صامتا أوجعته سنابك خيل بونابرت.
أمر بشارع النحاسين أجتاز الممر المؤدي إلى الغورية، يوما سكن هنا الأتابك ومماليكه يثيرون الصخب. عن يساري يقف سبيل أم عباس، تتراقص فوقه قطط تنبح عليها كلاب سلجوقية.
إنها حالة من حذر يحيطه قلق، تعلو بناية قديمة لافتة مكتوب عليها" ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان".
ساعتها تمادي ذيلي في الطول حتى كدت ألمسه.
يهزأ بي الذين يرتدون الثياب التي تتراقص فوقها نجوم صفراء، ثمة شبح يعدو خلفي.
صافرة عربة غريبة تشق جموع البشر ، تنادي مكبرات الصوت علي، أهرب إلى شارع جانبي، تفتح لي فتاة ذات وجه يقطر شهدا باب بيت عتيق تعلوه نجمة يتوسطها الهلال.
غير أنني غريب الوجه فلا يعرفني أحد، يصحبني الذباب كأنما هو مكلف بحراستي، لم أعد أثير غير شعور بالنفور، ثوب مشقوق وساقان يشبهان أعواد الذرة المتساقطة جراء عبث الماشية بها.
في مدينة لاتنام كل الأشياء فقدت زينتها تخلت عن حياء الأنثى، وجدت صورتي معلقة على أعمدة الإنارة تحذر المارين من تحت قوس باب زويلة أن ثمة هاربا من ظله يوشك أن يعبر النهر إلى الضفة

د. سيد شعبان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى