د. عبد القادر رابحي - عن حالة راهن الشعر في الجزائر

قد لا تختلف حالة راهن الشعر في الجزائر كثيرا عن حالة راهنه في البلدان العربية الأخرى نظرا لما يجمع حالة الكتابة الشعرية من عناصر خارج نصية تتعدى ما يمكن أن يكون خصوصية تجربة تميّز بلدا عربيا بعينه عن بلد عربيّ آخر. ولعل هذه العناصر الجامعة في تأثيرها، السلبي والإيجابي، على منحى الكتابة الشعرية العام، هي ما يتعلق بواقع راهن الشعر المرتبط بما صارت تتيحه وسائل الاتصال المعاصرة من سهولة انتشار للنصوص أصبح بموجبها الحديثُ عن حالة الشعر في بلد ما، مرتبطًا بما تقدمه وسائط العصر من نماذج نصية تتحدى الرؤى النقدية التقليدية التي حاولت ولا تزال تحاول ركْنَ النص الشعري في قوالب جمالية وشكلية معينة بناءً على تصوّرات نقدية دوغمائية لم تخل من تمركز إيديولوجي، ولم يعد الواقع الشعري، كما يظهر في النشر الورقي والإلكتروني، يطمئن لها كثيرا أو يعتمد عليها في تسيير رؤيته للكتابة الشعرية في عصر الثورة الرقمية.
لقد كانت الكتابة الشعرية الجزائرية لصيقة جدا إلى وقت قريب بهذه التصورات النقدية الثابتة التي توارثها المبدعون والشعراء من الزخم الثوري الذي أحدثته حركة التجديد الشعري في النصف الأول من القرن الماضي، والتي تظهر الآن وكأنها ثورة أشكال بما يحمله مفهوم الشكل من أبعاد فلسفية تتجاوز المفهوم السطحي للشكل/ الغلاف الذي خيّم على العديد من التنظيرات الشعرية التي صاحبت انتقال القصيدة العربية من بنية تساوي الشطرين (القصيدة العمودية) إلى بنية الشطر الشعري(قصيدة التفعيلة).
ولعل بعضًا من هذه القضايا التي نعتبر أن النقد العربي قد حسم فيها نهائيا منذ الثمانينيات من القرن الماضي، لا تزال عالقة في المخيال الشعري الحالي للعديد من الشعراء في الجزائر على غرار شعراء العالم العربي، بسبب ما تخلّفه البنيات الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية التي تنتج في الغالب الأعم نماذج حياتية لا تتيح للمخيال الإبداعي أن يتماشى مع متطلبات العصر، نظرا للفارق الكبير بين الواقع الاجتماعي المنافح من داخل المعياريات التقليدية عن رؤيته الجمالية للشعر، وبين الواقع الثقافي العالمي المتغيّر بسرعة مذهلة والذاهب نحو آفاق ثقافية مُعولمة مفتوحة على عوالم تجريبية لا نهائية .
لقد كان تغير الجوانب الفنية في النص الشعري الجزائري مرتبطا بتغيّر الجوانب الثقافية المتأتية هي الأخرى مما حمله الزخم التاريخي من متغيرات جذرية على مستوى البنيات العميقة أثناء الانتقال الفجائي للمجتمعات من وضعيات تاريخية إلى وضعيات تاريخية جديدة، من الاستعمار إلى الحرية، ومن البداوة على التحديث، و من الأمية إلى التعليم. ولعل النص الشعري في الجزائر قد خضع إلى هذه القاعدة التاريخية كما هو الحال في العديد من الدول العربية التي توفر لديها شرطُ الانتقال من حال إلى حال.
لقد مرّ الشعر الجزائري، منذ عصر النهضة العربية، بما مرّ به الشعر العربي عموما. و لعله كان أكثر وفاء لخطية التطور ولسرعة تقدمها من العديد من الدول العربية الأخرى. لقد تزامنت الإحيائية المشرقية مع إحيائية شعر الأمير عبد القادر، كما تزامنت موجة الرومانسية مع حالة التحديث اللغوي في القصيدة العمودية، ثم انتقلت بسرعة البرق إلى قصيدة التفعيلة مع أبي القاسم سعد الله، وجربت قصيدة النثر في السبعينيات مع شعراء الجيل الجديد، وهي الآن تحاول أن تقدم أنموذجا لكتابة متماهية مع روح العصر من خلال ترسيخ قصيدة النثر وتجريب الهايكو والشذرية وما صار يسمى بالكتابة الإلكترونية في المدونة الشعرية بجرأة كبيرة و دون عقدة أو خوف.
لكن، هل استطاعت الشعرية الجزائرية المعاصرة، كما غيرها من الشعريات العربية، أن تتجاوز إشكالات المسارات الثنائية في تقديم أنموذج ناصع لقصيدة تعكس جدل اللحظة بما يتيحه العالم من ممكنات إبداع؟ و هل استطاعت أن تتجاوز عقدة الشكل/ الغلاف التي تربض في باحة الإبداع من خلال الحروب الكلامية التي يخوضها الشعراء في كل جيل بين العمودي والحرّ، و بين القديم والجديد؟ أتصور أن طريقة نمو المجتمع وتطوره أنتجت خطين متوازيين لكتابة شعرية، يسيران في اتجاه واحد، و لكن بسرعتين مختلفتين. و قد انعكس هذا التوازي على الشعر وأثر في ترسيخ الرؤى التجديدية التي لا تزال تعتقد أنها تكتب للمستقبل !


عبد القادر رابحي- الجزائر


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى