عبد الزهرة المنشداوي - أغنية قديمة

دبق مزعج، كنت اشبه بسحابة ساخنة يلفها قميص في داخل غرفة طين مستعرة بلا تهوية . قبر غاية في الضيق. هممت بالخروج للبحث عن نسمة هواء باردة تخيلتها، جهازالراديو في البيت بث لحن اغنية قديمة تماهت مع رائحة التراب المرطب بالماء بفعل طريقة والدتي في تبريد الاجواء فغيرت ما انتويته، لم انهض، لكني ذهبت بعيداً.! الى ذلك اليوم الذي أولى فيه والدي ظهره للمسجد ومشى نحو الحانة عبر الجسر القديم. تراءت لي صور موتاي ميتاً فميتاً، حتى ممن ظلوا فوق سطح الارض بلا مراسيم دفن من اولئك الذين لم يستوفوا شروط الموت كاملة، منهم من شاخ ومنهم من هرم ، لم يعودوا يشبهون انفسهم الماضية، كانوا هم وليسوا هم. ضممتهم الى قائمة موتاي دونما كفن دونما قبر أو موت معلن، رأيتهم موتى احياء مقرفين لا جدوى منهم. فلا أمل للموتى ولكن للأحياء أمل كبير في أن يموتوا.
انثنيت مع صوت الاغنية الى ذلك الزمن، زمن الفقر، والطفولة ، وبيوت الطين .رأيت عنزة صديق صباي عوده كانت تضحكنا كثيراً .. يضع اذنها الطويلة البيضاء بين أسنانه ويعضها عضاً مؤلماً فتطلق صوتاً اشبه بالصراخ فنبتهج ونضحك مسلتقين على الارض نرفس الهواء بأرجلنا. تلك لعبتنا الاثيرة بعد لعبة دحرجة الاطارات القديمة على طول الطريق المترب. ينزل قرص الشمس من عليائه، ندلف الى بيتهم ، يستدرجها بالبرسيم ثم تبدأ حفلتنا اليومية معها ولا تنتهي إلا بولوج والده للبيت فيغضب وينتهرنا ويطردنا بقسوة. كان لصديقي عوده عينين لايفارقهما القذى، وابتسامة عذبة، وبشرة رقيقة سمراء، وشعر قصير يتوج هامته انتهت حياته بسن مبكرة وجدت جثته على الجسر وبرقبته اطار سيارة لذلك كان من موتاي المفضلين طالما ينبثق فجاة بذاكرتي المملوءة بالقبور .
حتى ازهار الدفلى جاءت بها الاغنية مع عرائش العنب وظلال جدران بيوت منازل موظفي محطة السكك الحديدية المشيدة على الطراز الانكليزي، كنت اتملى رؤيتها في طريقي عندما كنت صغيراً.. احمل فطور والدي الحارس في مكان قريب واعود بحزمة عيدان سيكار المزبن النحيفة الجوفاء من الأسفل يبعث بها ابي لجدتي العمياء، فانحدر مع قضبان سكة الحديد الممتدة نحو الجنوب لتغيب في غابات النخيل الكثيفة.
شذى ازهار الدفلى جاء قوياً بقوة اللحن، شممته يسري مع انغام موسيقاها.
كم احببت شجيرات الدفلى وقضبان السكك الحديدية ولكنها ويا للأسف، اختفت وماتت وربما رحلت مع آخر جندي بريطاني غادر البلد الى غير رجعة.
رأيت شجرة التوت الباكية.! وارفة الظلال ضخمة ، معمرة ، كريمة، تظلل بيت صديق طفولتي الآخر صبري كانت مثل خيمة خضراء تجعل من بيتهم الطيني المتداعي قطعة من جنة نسمع عنها من اصحاب الذقون الطويلة والعمائم الضخمة الذين يتكلمون عن عوالم لا مرئية لكنهم واثقون من وجودها كما هم واثقون من الأرواح التي تتلبسها القطط السوداء، فينهوننا نحن الصغار من التعرض لها بأذى .
احلى ثمارها تلك التي نجدها فوق سطح الدار وقد شوتها اشعة الشمس فغيّرت لونها وزادت حلواتها ، نأكل منها ثم نعبئ جيوبنا لنهبه على من نجد من الصبيان بكرم بريء، رأيتني مع صبري هرعت مسرعاً الى بيتهم كان يركض امامي، وانا من وراءه محاولاً اللحاق به. اخبرني أن شجرة التوت تبكي!! طلبت رؤيتها على وجه السرعة لسماع بكائها. عندما وصلنا، اشار الى جذعها الضخم واراني كتلة صمغية تسيل من الجذع.
- أنظر
ضرب الجذع بقطعة حديدية ولم ننتظر طويلاً لتبكي فعلاً بدمع سائل كثيف . الام خرجت بعصاها ملوحة ، هربنا لانلوي على شيء كانت تقدس الشجر، وتطلب شفاعته، تزورها مع النساء تضمخها بالحناء وتوقد لها الشموع.
في السوق وفي زحمة الباعة والمشترين سرقنا حبات الطماطم من البائعات المفترشات الارض وبطريقة مبتكرة من خلال عود طويل ثبتنا في نهايته إبرة خياطة ومن بين أرجل المشترين كنا نمده ونغرزه في الحبة ونستلها بمهارة. لطالما خدعنا طبيب المركز الصحي القريب من بيتهم، نجرح اقدامنا في الجوانب التي تقرنت بفعل ملامسة الارض، فنحصل منه على مرهم بلون الطين شبيه بالقيء يضعه لنا على قطعة ورق بالية فنشعر بانتصار وسعادة لاسبيل الى وصفهما.هو الآخر. صار من موتاي، ولكن فضل السكن تحت الارض. ذهب للمسجد ومنه الى محكمة الثورة ليتدلى من حبل مشنقة فاختزل الزمن بينه وبين الله.
اختفت شجيرات ازهار الدفلى، اختفى عوده وعنزته، صبري وشجرة التوت، جدتي، ابي وكل الذين عرفتهم لكن الاغنية بقيت كلما سمعتها تأتي بهم.


عبد الزهرة المنشداوي

* جريدة المدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى