أ. د. عادل الأسطة - لأجلك يا قدس : محمود شقير و "حليب الضحى"

آخر ما قرأته لمحمود شقير هو قصصه القصيرة جدا " حليب الضحى " ( ٢٠٢١ ) ، وهو ليس أول إصدار له في هذا النوع الأدبي ، ففي ١٩٨٥ أصدر " طقوس للمرأة الشقية " ، وغدا اسمه مرتبطا به .
صارت القصة أشبه ببيت الشعر المنفرد أو بالبيتين القائمين بذاتهما أو بالمقطوعة الشعرية ، واقتربت حجما من فن ( الإبجرام ) الذي جسده أحمد مطر في لافتاته ، ما دفعني مرة إلى اقتفاء خطا طه حسين في كتابه " جنة الشوك " الذي قدم له بكتابة عن خصائص " الإبجرام " وكتب نماذج نثرية منه ، ويبدو أن ( الفيس بوك ) و ( تويتر ) وما شابههما شجعوا على شيوع الكتابات القصيرة ، فما عاد لدى كثيرين من القراء رغبة في قراءة النصوص الطويلة .
كيف نفسر إذن ميل شقير وكثيرين إلى كتابة الرواية ؟
الأمر يستحق وقفة متأنية حقا . أهي الجوائز مثلا ؟
عموما فإن ما يثيره المرء هو :
- ما مدى تلقي هذا الجنس الأدبي قراءة ونقدا وإعادة طباعة ؟ وما مدى علوقه في الذاكرة ؟ وما مدى الاستشهاد به في مناسبات اجتماعية أو سياسية أو دينية - إن ناسب مضمونه اللحظة أو الفكرة المخوض فيها أو الموضوع المتحدث عنه ؟ هل يمكن إنجاز ذلك كما هو الأمر في الشعر ، أم أنه - أي نوع القصة القصيرة جدا - لافتقاده الوزن والقافية يخفق فيما نجح الشعر فيه ؟
كثيرون من كتاب المقالات أو من الخطباء أو حتى من المثقفين يستشهدون بأبيات من الشعر ، فهل يمكن أن تكون " القصة القصيرة جدا " في قادم الأيام مثل الشعر ، أم أنها تكتب ، مثل قصيدة النثر ، لتقرأ ؟
أسئلة كثيرة تثار حول القصة القصيرة جدا وفاعليتها ، ويمكن أن تسعفنا دور النشر أو الكتاب أنفسهم بإحصائية عن رواجها ، علما بأن قسما من المتابعين لها سيقول إن مجالها هو وسائل التواصل الاجتماعي لا الكتاب الورقي .
هل دارت الأسئلة السابقة في أذهان كتاب القصة القصيرة جدا ومنهم شقير نفسه ؟
وأنت تقرأ " حليب الضحى " سيخطر ببالك مقولات نطق بها بعض الشعراء والنقاد وبعض كناب القصة القصيرة ؛ مقولات مثل وحدة الديوان أو وحدة المجموعة القصصية .
منذ أواسط ٨٠ القرن ٢٠ صار محمود درويش يصدر الديوان المكتمل وتخلى ، تقريبا ، عما كان يقوم به سابقا من جمع قصائد متنوعة معا في كتاب . من " ورد أقل " إلى " لماذا تركت الحصان وحيدا ؟ " إلى " سرير الغريبة " إلى " حالة حصار " أنت تقرأ ديوانا يضم قصائد متجانسة تتمحور حول موضوع واحد وتتشابه في شكلها البنائي ، فهل ينحو شقير المنحى نفسه في مجموعاته القصصية القصيرة جدا ؟ وهل كان الأسبق في هذا الجانب عندما أصدر مجموعته " طقوس للمرأة الشقية " التي تمحورت حول المرأة واقتربت القصص كلها في بنائها ؟
إنني عموما أثير أسئلة وأمعن النظر في الأمر أكثر مما أقدم إجابات .
هل اختلفت " حليب الضحى " عن " طقوس للمرأة الشقية " في وحدة موضوعها وترابطها ؟ ( موضوع الأولى المرأة وموضوع الثانية متعدد وتشغل القدس مكانة كبيرة في تفكير الكاتب ) .
أحد تعريفات كلمة بنية هو " الصلة بين " ، فهل ثمة صلة بين القصص القصيرة في المجموعة ؟
تنقسم المجموعة إلى أربعة أقسام على النحو الآتي :
1 - من ص ١٠ إلى ص ٦٧ ويصدره بقول ل ( سلفادور دالي ) " لا تخف من الكمال فإنك لن تدركه " .
2 - من ص ٦٩ إلى ص ١٠٤ ويصدره بقول جلال الدين الرومي " بغير هذا الحب لا تكن "
3 - من ص ١٠٦ إلى ص ١٥٤ ويصدره بقول ( إميل سيوران ) " عندما أبكي بجوار زهرة تنمو بوتيرة متسارعة "
4 - من ص ١٥٦ إلى ص٢٠١٤ ويصدره بقول ( إميل سيوران )
" أجحد كل مخاوفي مقابل ابتسامة شجرة " .
وليس اقتباس تلك الأقوال غير مفكر فيه ، ويفترض أن يتأمل المرء فيها ويقرأها في ضوء ما تلاها .
في القصص هنا لا يوجد سارد واحد يسردها كما في " طقوس للمرأة الشقية " ، وإنما هناك ساردون ، ومع تعددهم فأظن أنهم في النهاية هم الكاتب نفسه ، فلا مستويات لغوية إطلاقا تعكس اختلاف بيئاتهم مثلا ، وإن تنوع المكان الذي تتحرك فيه الشخوص ما بين القدس ويافا وأريحا ، وإن اختلفت الأسماء في القصص .
كما لو أن القصة مقطوعة شعرية غنائية محورها العالم وانعكاسه على الذات . وما يعزز أن القصص صادرة عن شقير أنه غير قادر على نسيان موضوعه المحبب ، وهو القدس ، وأعماله السابقة التي تحضر إشاراته إليها وإلى شخوصها . يصدر " حليب الضحى " بسطر من روايته " ظلال العائلة " نظرت ليلى إلي بعينها الباقية ، ابتسمت وقالت : نتبنى طفلة " وفكرة التبني تحضر في " حليب الضحى " ، وهو يهدي مجموعته " إليها مرة أخرى ومرات .. إلى القدس وأخواتها الأخريات " و " إلى حفيدتي الخامسة عشرة : ريتا " . والإهداء يذكر بإهداء درويش قصيدته " تحت الشبابيك العتيقة " ( ١٩٦٧ ) من ديوان " آخرالليل " : " إلى مدينة القدس وأخواتها " وهوإهداء تخلص منه في سنوات لاحقة في طبعات لاحقة . وما يذكر بدرويش أيضا بعض قصص المجموعة في أسلوب كتابتها وفي بعض موضوعاتها . وأنت تقرأ بعض القصص تتذكر ديوان " حالة حصار " ( ٢٠٠٢ ) أو هذا ما تذكرته أنا . كما لو أنك تقرأ كتابة متقاربة جدا .
عندما كتبت الكلام السابق على حائط الفيس بوك الخاص بي أعاد القاص قراءته وتساءل عن مدى صحته ، وأنا بدوري أوضحت .
أسلوب البوح الهاديء الناعم الرقيق تجده في قصائد " حالة حصار " وتجده في " حليب الضحى " ، ولا شك أن القاص قاريء جيد لأشعار الشاعر ، وهو ما نلحظه في سيرة شقير الذاتية " تلك الأمكنة " التي صدرت مؤخرا .
خذ هذه القصة القصيرة جدا من المجموعة :
" شهيد
رشيد زوج نفيسة ، والد قيس ، قتله الجنود وهو عائد
إلى بيته في المساء .
قيل في تبرير الجريمة إنه لم يتوقف حين أمره الجنود
بالتوقف ،، فاطلقوا عليه النار .
الآن: نفيسة أرملة ، وقيس الصغير يتيم ،
ابنتنا قدس هي اخت قيس ، أمه نفيسة هي أم ابنتنا ؛
ونحن عائلة واحدة في السراء والضراء "
وما أكثر مقاطع " حالة حصار " في الكتابة عن الجنود الذين قتلوا فتيانا فلسطينيين .
وخذ أيضا القصة التي تليها " بدم بارد " ( ص ١٨٧ ) وقصة " حب " ( ص ١٩١ ) وقصة " حرية " ( ص ١٩٢ ) ، وإذا كنت قارئا لديوان الشاعر فلن تخطيء التشابه مع مقطوعات درويش .
قصة " حرية "
" نريد صباحا هادئا
خاليا من الطائرات التي تزرع الموت والدمار
خاليا من الجنود ومن المستوطنين والمستوطنات
تتجلى في فضائه حرية بكر لا تعرف الانكسار
قلنا قولنا هذا ونمنا على أمل ، واستيقظنا على آمال " .
وأنت تقرأ بعض القصص تشعر أنك تقرأ مقطوعات شعرية حقا .
خذ هذه المقطوعات من ديوان محمود درويش " حالة حصار " :
" يقيس الجنود المسافة بين الوجود
وبين العدم
بمنظار ذبابة ...
نقيس المسافة ما بين أجسادنا
والقذيفة ... بالحاسة السادسة "
و
" أصدقائي يعدون لي دائما حفلة
للوداع ، وقبرا مريحا يظلله السنديان
وشاهدة من رخام الزمن
فأسبقهم دائما في الجنازة :
من مات ... من ؟"
و :
" الشهيدة بنت الشهيدة بنت الشهيد
واخت الشهيد واخت الشهيدة كنة
أم الشهيد حفيدة جد شهيد
وجارة عم الشهيد ( الخ
... الخ ... )
ولا شيء يحدث في العالم المتمدن ،
فالزمن البربري انتهى ،
والضحية مجهولة الاسم ، عادية
والضحية .. مثل الحقيقة .. نسبية
( الخ ... الخ ... )"
الجمعة والسبت
١٦ و١٧ نيسان ٢٠٢١




* ( مقال اليوم في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه ١٨ نيسان ٢٠٢١ )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى