د. صبرى محمد خليل خيرى - ما بعد العلمانية: نقد العلمانية فى الفكر الغربى المعاصر

نشاْة مصطلح " ما بعد العلمانية":
تتمثل المراجع التأسيسية لمصطلح " ما بعد العلمانية" ، في مجموعة من الأعمالٍ البحثيةٍ ، التى صدرت فى بدايه العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين ، والتى كانت حصيلة العديد من المؤتمرات والمنتديات التى شارك فيها العديد من المفكرين الغربيين المعاصرين ومنهم : الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، والكندي تشارلز تايلور، وعالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرغر، وعالم الأنثروبولوجيا من أصل إسباني خوسيه كازانوفا، ومنها: مؤتمر عقد في جامعة هارفرد ، تحت عنوان " استكشاف الما بعد علماني"، في الثالث والرابع من أبريل عام 2009 ، ومؤتمر عقد فى كلية العلوم الدينية في جامعة واشنطن سانت لويس (ميسوري) تحت عنوان " النقاش حول العلمانية في عالم ما بعد علماني" ، في التاسع والعاشر من أبريل عام2010، ومؤتمر عقد في جامعة بولونيا ، تحت عنوان "السياسة والثقافة في المجتمع الما بعد علماني" ، فى الثانى عشر والثالث عشر من مايوعام 2011 (محمود حيدر/ مقاربة تحليلية نقدية لمنشأ المفهوم ومآلاته).

دلاله المصطلح على موقف نقدى من العلمانية:
ورغم تعدد تعريفات مصطلح " ما بعد العلمانية"،الا ان له دلالة مشتركة بين هذه التعريفات ، مضمونها اتخاذ العديد من المفكرين الغربيين المعاصرين موقفا نقديا من العلمانية، رغم أنها احد أركان النظام الليبرالي ، كنظام متكامل للحياة ، يسود فى المجتمعات الغربية منذ عدة قرون.

نماذج:

اولا: هابرماس:

نقد فرضيه أن التحديث يتلازم مع العلمانية ،ويقود الى تهميش دور الدين
: تبنى هابرماس خلال محاضرته في تيلبورخ بعنوان(مجتمع ما بعد العلمانية. ماذا يعني هذا الاصطلاح ؟ ) نظرة نقدية تجاه فرضية أن التحديث يتلازم مع العلمانية ، ويقود بالضرورة إلى تهميش دور الدين، خاصة في الفضاء العام. ويقول إن الاعتقاد بأن الدين يختفي تدريجياً خلال عملية التحديث يفتقر للأرضية التي يقوم عليها.

امثله: ويستشهد هابرماس بحيوية المجتمعات الدينية الأمريكية، والنسبة المئوية الثابتة للمواطنين الأمريكيين المتدينين، مع كون الولايات المتحدة، ، رأس الرمح في التحديث". كما يستشهد بما اسماه " انبعاث ديني على مستوى العالم"، من الإرساليات الإنجيلية في أمريكا اللاتينية إلى تقدم التيارات الأرثوذكسية المحافظة في الديانات العالمية الراسخة.

تعاظم نفوذ الدين : الكنيسة والدولة : يقول هابرماس: " صحيح أنه في العصر الراهن أصبح الدين يحصر نفسه في الفعالية المركزية له المتمثلة في الرعاية الكنسية للأتباع، وانزوت ممارسة العقيدة إلى الفضاء الشخصي. وفي نفس الوقت أصبح الدين يكسب نفوذاً على نطاق العالم، وعلى نطاق فضائنا العام أيضاً. كما أصبحت الكنائس والمنظمات الدينية تقوم بشكل متزايد بلعب الدور الذي يمكننا أن نسميه بالتأويل في فضاء مجتمعاتنا العلمانية. وبذلك تستطيع هذه المؤسسات التأثير على الرأي العام بمساهمات ذات علاقة بالقضايا الرئيسية، بغض النظر عن أن الحجج التي تتضمنها هذه المساهمات قادرة على الإقناع أو ليست قادرة".

ما يتوقعه الغربيين من بعضهم البعص لضمان الطبيعه المدنيه للعلاقات الاحتماعيه فى دولهم: وقاد ذلك هابرماس إلى طرح السؤال: "ما الذي يجب أن نتوقعه من بعضنا البعض من أجل ضمان استمرار الطبيعة المدنية للعلاقات الاجتماعية في دولنا الوطنية المتحصنة جيداً رغم تعدد الثقافات ووجهات النظر الدينية في العالم؟"

تحقيق العلمانيه استغرق قرون واتخذ اشكال مختلفه: وللحصول على إجابة لهذا السؤال، يلقي هابرماس نظرة على مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة، الذي انبثق من الحروب الدينية في أوروبا مطلع العصر الحديث. ويقوم بتذكيرنا بأن هذا الفصل لم يتحقق إلا تدريجياً عبر القرون واتخذ شكلاً مختلفاً في كل منظومة قانونية خاصة بكل دولة من دولنا الأوروبية.

على العلمانيين ان لا بقوضوا قواعد الاعتراف المتبادل : ويتساءل هابرماس في نفس الوقت حول ما إذا كان مطلوباً أيضاً أن يخوض الجانب العلماني عملية تعلم مماثلة أيضاً. فإذا استمر المواطنون العلمانيون في تعزيز تحفظاتهم حول الناس ذوي الذهنية الدينية على أنهم أناس لا يمكن أخذهم بجدية، فإنهم يكونون بذلك قد قوضوا القواعد الأساسية للاعتراف المتبادل الذي تقتضيه المشاركة في المواطنية. يقول هابرماس يجب على المواطنين العلمانيين أن يظلوا منفتحين أمام احتمالات أن التعابير الدينية نفسها يمكن أن يكون لها معنى إذا تمت ترجمتها إلى نصوص علمانية.

( د.هشام عوكل / ما بعد العلمانية::قراءة بفكر الفيلسوف يورغن هابرماس حول صياغة نظرية للحداثة ولعقلانية جديدة (

ثانيا: تشارلز تايلور :

التاطير لمفهوم العلمانية :
يضع تشارلز تايلور في بداية الكتاب تأطيراً مهماً لمفهوم العلمانية، مبيناً فيه خصوصية مفهوم العلمانية وارتباطه بسياق تاريخي محدد.

الدلاله الاصليه للمصطلح: ويرى إن معنى العلماني بالأصل هو الأملاك أو الأراضي التي تقع خارج الكنيسة.

تطور دلالته: ثم تطور المعنى ليشير إلى كل ما هو خارج إطار أو سيطرة الكنيسة.

ارتباط دلالته اللاحقه بالرؤيه الكونيه للمسيحبه: فهو يرتبط بالرؤية الكونية للمسيحية، خاصة فيما يتعلق بين الدين والدنيا، أو العلوي والدنيوي. فالمسيحية تقيم فصلاً واضحاً بينهما، وتربط بين الدين والكنيسة بشكل كبير، بحيث لا تتجاوز حدود الدين حدود الكنيسة. وما هو خارج الدين يصبح علمانياً، أي غير ديني.

دلالالته تشير الى طبيعه ثنائيه ثم اختلاف بين مجالين: لذلك يوضح تايلور أن مصطلح العلماني في الغرب يعبر في البداية عن طبيعة ثنائية، مميزاً بين بعدين من الوجود، ثم يتحول إلى مصطلح يُعبر عن اختلاف بين مجالين، الأول هو “العلماني”، والذي يرتبط بالكيان المحايث، ونقيضه وهو “الديني” المرتبط بالمتعالي.

ارتباط دلالات المصطلح بالغرب وتاريخه: لكن هذا التقسيم الذي يقيمه مصطلح العلمانية يرتبط بشكل كبير بالغرب وتاريخه الاجتماعي والسياسي، وطبيعة الكنيسة أيضاً. ففكرة الفصل بين “الدين” والمجالات الأخرى تتبع للمسيحية في الغرب وهي غربية بالإضافة للظروف التي مر بها. فالانقسام الذي حصل بين “الديني” و”غير الديني”، أو “المحايث” و”المتعالي”، في الغرب هو الذي شكَّل التصور الغربي والواقع التاريخي للعلاقة بين الدين وجوانب الحياة في الغرب، وهو المسؤول أيضاً عن تشكيل تصور ما عن الدين يجعله قابعاً في مكانٍ منفصل عن الأشياء الأخرى.

استعراض السياقات التاريخيه لحضارات غير غربيه: يستعرض الكتاب السياقات التاريخية لعدة حضارات ودول مثل الصين والهند والحضارة الإٍسلامية وأمريكا الجنوبية، ويعرض تاريخ هذه الحضارات ويستقرأ التصور القائم لديها عن ثنائية العلماني والديني.

خطا اسقاط التجربه الغربيه العلمانيه عل الحضارات الاخرى: ويثبت الكتاب خطأ إسقاط التجربة الغربية العلمانية على الحضارات الأخرى، وتبين خصوصية كل تجربة فيما يتعلق بحضور الدين في الحياة الاجتماعية والسياسية، حتى في العصر الحالي، عصر الحداثة والعولمة.

الصراعات الدينية لا يُفضي بالضرورة إلى تراجع الدين: كما يرى الكتاب أن الصراعات الدينية والتنافس الفكري بشكل عام لا يُفضي بالضرورة إلى تراجع الدين أو ضعف الإيمان الديني. فعادة ما يُشار إلى أن وجود صراع ديني داخلي بين المذاهب، مثل البروتستانت والكاثوليك، أو السنة والشيعة، سيفضي في نهاية المطاف إلى تبني العلمانية كخيار وحل لهذه الصراعات، ولكن التجربة التاريخية لا تؤكد هذا.يعلق تايلور على هذه النقطة بالقول إن الصراعات المذهبية وحظر المذاهب المهرطقة والتهجير القسري وحتى الصدامات المسلحة، كل ذلك لم يؤدِ بحد ذاته إلى تراجع الدين في الغرب.

المتخيل الاجتماعى البديل: فكل هذا “لم يقدم حجة مقنعة لهجر الأنماط الدينية رفضاً لها حتى جاء متخيل اجتماعي بديل في المشهد، فتح احتمالية العيش خارج هذه الأنماط (أي الأنماط الدينية)”. (تشارلز تايلور/ ما وراء الغرب العلماني/ تحرير: عقيل بلغرامي/ ترجمة: عبيدة عامر/ الشبكة العربية للأبحاث والنشر، )

ثالثا:إميليو جينتيل:



مصطلح الدين العلماني " "Secular Religion : يستخدم هذا المصطلح لوصف نظام متطور بدرجة أكبر أو أقل من المعتقدات، الأساطير الطقوس، والرموز التي تخلق هالة من القداسة حول كينونة تنتمي في الأصل إلى هذا العالم، وتحوِّلها إلى طائفة وموضوع للعبادة والتكريس. وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين، تم تبني تعبير الدين العلماني بوضوح لتعريف الإيديولوجيات والنماذج التي حاولت استبدال الأديان الميتافيزيقية التقليدية بالمفاهيم الإنسانية الجديدة التي خلقت منظومة عقائدية خاصة بالإنسانية، التاريخ، الأمة، والمجتمع. من جهةٍ أخرى، تم إرجاع مفهوم "الدين العلماني" بشكلٍ عام إلى عالم الاجتماع الفرنسي رايموند آرون Raymond Aron، الذي استخدمه في مقالة له كتبها عام 1944 لتعريف المذاهب التي تعِد بالخلاص للجنس البشري في هذا العالم.
مصطلح الدين السياسي" Political Religion ": أما بالنسبة لمصطلح "الدين السياسي" Political Religion، فيُنسِب بشكلٍ عام إلى الفيلسوف النمساوي إيريك فوغلين ، الذي نشر كتابه الأديان السياسية The Political Religions عام 1938.. ( إميليو جينتيل / الدين السياسي: بديل عن الدين، أم أنه دين جديد؟)
دلالات المصطلحين: ونرى ان لهذين المصطلحين الذين تناولهما الكتاب دلالة مضمونها فشل العلمانية فى طرد الدين من الحياة العامة حتى فى المجتمعات الغربية العلمانيه،ورغم تطبيقها فى هذه المجتمعات لقرون،فطرد العلمانية للدين من الباب فى هذه المجتمعات، ادى الى دخوله من الشباك فى اشكال متعددة ، منها شكل اديان علمانيه او سياسيه.
رابعا: نحو موقف نقدى من العلمانية فى سياق الفكر السياسى العربى -الاسلامى المعاصر:

تعريف المصطلح:

اولا: لغة :
مصطلح “العلمانية ” هو ترجمة عربيه لمصطلح (Secularism )، والذي هو صيغة نسب لكلمة ( Secular )، والتي تعنى في اللغة اللاتينية الدنيا أو العالم ، فالأصل اللاتيني لمصطلح العلمانية يفيد أذا معنى ما هو دنيوي مقابل ما هو ديني .

لا علاقه للمصطلح بالعلم: ورغم ما يدخل في تركيب كلمه العلمانية من حروف كلمه العلم، إلا انه لا علاقة بين العلمانية نزعه والعلم منهاجا، والأصل اللاتيني للترجمة العربية ينفى مثل هذه الصلة (د. عصمت سيف الدولة ، عن العروبة والإسلام ، ص187)، فالأولى أصلها اللاتيني ( Secular )، بينما الثانية أصلها (science) .

ثانيا: اصطلاحا: أما اصطلاحا فان العلمانية هي نزعه تعمل على الفصل بين الدين”ممثله في السلطة الدينية” والدولة “ممثله في السلطة السياسية” .

الدلاله الاصليه ودلالات لاحقه: وإذا كان ما سبق من حديث يتصل بالدلالة العامة -المشتركة لمصطلح علمانية وهي دلالته الأصلية – التاريخية ، فقد اكتسب المصطلح لاحقا دلالات خاصة- منفردة متعددة، ومنها أن العلمانية هي فصل الدين عن السياسة”السلطة السياسية” ،وليس الدولة “ميشيل عفلق”

شكلا العلمانية:

اولا: العلمانية المسيحية ” ذات الأساس الديني”:
وقد كانت العلمانية في الأصل جزء من الديانة المسيحية، استنادا إلى قول المسيح (عليه السلام) ” أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ” (متى 17: 21) .وهنا يمكن الحديث عن احد أشكال العلمانية وهو العلمانية المسيحية، وهي علمانية ذات أساس ديني للاتي ا/ لأنها احد مبادئ الديانة المسيحية ، وردت الإشارة إليه في العديد من النصوص المسيحية،وله تطبيقات كثيرة في هذه الديانة، ب/ لان المسيحية ديانة تعنى بالعلاقة بين الإنسان-الفرد- وربه، وتركز على العقائد والعبادات والقيم الأخلاقية والروحية “ذات طابع فردى “اى تنظم العلاقة بين الأفراد” ولكنها لا تتضمن تشريعات ذات الطابع الاجتماعي ” اى تنظم حركة المجتمع ” – كما في الديانة الإسلامية مثلا- وما أطلق عليها اسم “تشريعات مسيحيه ” هي من وضع الكنائس المسيحية المتعددة في مراحل متاجره،ج/ رغم أنها ترى جسد الإنسان يجب أن يخضع لسلطه الحاكم ، لكنها ترى في ذات الوقت أن روحه يجب أن تخضع لسلطة المسيح- تلاميذ المسيح – الكنيسة..

ثانيا:العلمانية الليبرالية”الطبيعية – اللادينيه”: وقد تحولت العلمانية إلي تيار فكرى معين، ظهر في مرحلة معينة من مراحل التاريخ الأوروبي ، تحول إلي ثورة ضد تدخل الكنيسة في الحكم، انتهى إلى إقامة نظام متكامل للحياة ، هو النظام الليبرالي التي تشكل العلمانية احد أركانه، كان محصلة عوامل ثقافية ونفسيه وتاريخية وحضارية سادت أوربا نحو سبعه قرون . وهنا يمكن الحديث عن شكل آخر للعلمانية وهو العلمانية الليبرالية ، اى التي تشكل احد أركان النظام الليبرالي الأربعة “بالاضافه إلى الرأسمالية والفردية والرأسمالية ” . وهى علمانية طبيعيه- لا دينيه، اى تنطلق من فكرة “القانون الطبيعي “، والتي مضمونها ( أن مصلحة المجتمع ككل تتحقق حتما من خلال سعى كل فرد لتحقيق مصلحته الخاصة ) – التي يستند إليها المنهج الليبرالي – لتقول بعدم تدخل الدولة في النشاط الديني والحياة الدينية للمجتمع – ليصبح النشاط الديني بذلك مقصورا على الأفراد – وتقول بوجوب خضوع جسد الإنسان للسلطة السياسية ، أما روحه فحرة حرية مطلقة ، اى تقوم على أساس حرية الاعتقاد المطلقة ولست المقيده ، اى للإنسان مطلق الحرية في اختيار اى اعتقاد ديني”مسيحي أو خلافه”، أو لا ديني “الإلحاد أو الشك..”

المواقف المتعددة من العلمانية : وقد تعددت المواقف من العلمانية في المجتمعات المسلمة ، غير أن هناك ثلاثة مواقف أساسية منها وهى :

أولا : موقف القبول المطلق :اى قبول العلمانية دون تمييز بين دلالاتها المتعددة، وأشكالها المختلفة ، و سلبياتها وايجابيتها .

نقد:

التغريب:
كما سبق الإشارة فان أن العلمانية “الليبرالية” هي احد أركان النظام الليبرالي ، كنظام متكامل للحياة ، كان محصلة عوامل ثقافية ونفسية وتاريخية وحضارية سادت أوربا نحو سبعة قرون. بناءا على هذا فان موقف القبول المطلق للعلمانية هو شكل من أشكال التغريب الذي مضمونه أن تستبدل المفاهيم والقيم والقواعد الإسلامية (التي تشكل الهيكل الحضاري للمجتمعات المسلمة ) بالمفاهيم والقيم والقواعد الغربية، لتحقيق قدر من الشعور المستقر بالانتماء إلى الحضارة الغربية .

ثانيا :موقف الرفض المطلق: اى رفض العلمانية دون تمييز بين:اولا دلالاتها المتعددة “دلالتها الأصلية –التاريخية”العامة – المشتركة”(فصل الدين عن الدولة) ودلالاتها اللاحقة ،ثانيا: أشكالها المختلفة “العلمانية المسيحية ذات الأساس الديني”قول المسيح أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ” و العلمانية المسيحية ذات الاساس الطبيعي اللاديني، ثالثا: سلبياتها التي تتناقض مع الإسلام كالدين ومنها إقصاء واستبعاد الدين عن الحياة العامة وقصره على الحياة الخاصة… و ايجابياتها التي تتسق مع الإسلام كدين : ومنها تقرير مدنيه السلطة ورفض الكهنوت والثيوقراطية..

نقد:

التكفير:
هذا الموقف يقوم على تكفير كل من يتبنى أو يدعو إلى العلمانية في المجتمعات المسلمة .

اشكاليات متعدده: وهذا الموقف يواجه عده إشكاليات ومنها:

أولا:عدم التمييز بين عله منع شكلي العلمانية : أن هذا الموقف لا يميز بين عله المنع في الشكل الأول من أشكال العلمانية “العلمانية المسيحية” ممثله في قول المسيح (عليه السلام)(أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، وهى أنها من شرع من قبلنا الذي يخالف شرعنا –لان شرعنا يتضمن تشريعات كليه تشمل كافه مناحي الحياة- وهنا لا يجوز أن يقترن المنع بالتكفير” لأن هذا طعن في الأنبياء السابقين، فعدم عملنا بشرائعهم لا يعنى انكارنا عملهم بشرائعهم – وعلة المنع في الشكل الثاني من أشكال العلمانية “العلمانية الليبرالية”-وهى أن أساسها طبيعي – لا دينى- وهنا يجب على من أراد أن يقرن المنع بالتكفير أن يلتزم بضوابط التكفير الشرعية .

ثانيا:عدم الالتزام بضوابط التكفير الشرعية : أن هذا موقف لا يلتزم بضوابط التكفير التي قررتها النصوص وأكد عليها علماء الإسلام ومنها قاعدة”التكفير على العموم أما المعين فيتوقف تكفيره على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع” بمعنى جواز القول بان المذهب المعين أو القول المعين هو كفر، أما الشخص المعين فلا يجوز القول بكفره إلا بعد استيفائه شروط التكفير وانتفاء موانعه عنه، والدليل على ذلك أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لعن شارب الخمر على العموم، ولما جلد رجلاً شرب الخمر قام رجل فلعنه فقال (صلى الله عليه وسلم) (لا تلعنوه فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) (رواه البخاري(، فوجد الرسول(صلى الله عليه وسلم) مانع من اللعن العام وهو محبته لله والرسول .يقول ابن تيمية ( إن التكفير العام يجب القول بإطلاقه وعمومه، وأما الحكم على المعين بأنه كافراً أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه) (ابن تيمية، الفتاوى، الفتاوى ،مجلد 12، ص22) .وتطبيقا لهذه القاعدة فإنه إذا كان من الجائز القول بتضمين مذهب العلمانية أو بعض مذاهبها لمفاهيم كفريه- وهو قول مقصور على العلماء – فانه لا يجوز أن القول أن الشخص المعين “العلماني ” كافر إلا بعد استيفائه شروط التكفير وانتفاء موانعه عنه.

ثالثا :عدم التمييز بين أنواع عدم الالتزام بالشرع : أن هذا الموقف يحكم بكفر العلمانيين لأن تعريفه للعلمانية هو عدم الالتزام بالشرع ، ولكنه لا يميز بين أنواع عدم الالتزام بالشرع ، وهو ما يخالف أصل من أصول الفكر السياسي السني – وهو وجوب التمييز بين نوعين من أنواع عدم الالتزام بالشرع :الأول هو عدم الالتزام بالشرع مع الإقرار به، وحكمه انه ظلم او فسق، والثاني: عدم الالتزام بالشرع مع إنكاره ،وحكمه انه كفر بدليل قوله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) [5 /المائدة /45]، وقوله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) [5 المائدة /47]، وَقوله تعالى (مَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )، وقد روى علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى” وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ” قال ( من جحد ما أنزل الله، فقد كفر، ومن أقرّبه، لم يحكم به فهو ظالم فاسق) (أخرجه الطبري في جامع البيان بإسناد حسن/ سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني /ذكره أبو عبد الله بن بطة في الإبانة الحكم بغير ما أنزل الله)، ولذا ينسب لابن عباس في رده على الخوارج ” إنه ليس الكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة: كفر دون كفر” ، ويقول الشيخ الألباني (وقد جاء عن السلف ما يدعمها، وهو قولهم في تفسير الآية: «كفر دون كفر»، صحّ ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ثم تلقاه عنه بعض التابعين وغيرهم )، بناءا الأصل فان الفكر السياسي الاسلامى السني يقوم على عدم تكفير من لم يلتزم بالشرع (سواء كان فرد أو جماعه أو حاكم أو نظام سياسي..)، إلا بعد التحقق من إنكاره للشرع . وهذا الأصل يتسق مع احد الأصول السياسية لمذهب الخوارج ، وهو تكفير الحكام الذين لم يلتزموا بالشرع والخروج عليهم دون تمييز بين من اقر به ومن أنكره ، استنادا إلى تفسير خاطئ لقوله تعالى( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )(المائدة:44).

رابعا:استبعاد المبرر الحضاري لرفض العلمانية : أن هذا الموقف يحصر رفض العلمانية للمبرر الديني ، ويستبعد رفضها لمبرر حضاري أيضا وهو أنها شكل من إشكال التغريب ،لأنه يقصر الإسلام على الدين، بينما الإسلام دين وحضارة.

ثالثا : الموقف النقدي :

التمييز بين الدلالات المتعددة لمصطلح العلمانية : وهو الموقف الذي يقوم على التمييز بين الدلالات المتعددة لمصطلح العلمانية ، حيث أن للمصطلح دلالة أصلية – تاريخيه واحده – هي فصل الدين عن الدولة ، كما أن له دلالات لاحقه – خاصة متعددة ، وبالتالي فان رفض الدلالة الاصليه التاريخية”ألعامه المشتركة” للمصطلح، لا يترتب عليه رفض أو قبول دلالاته اللاحقة” الخاصة المنفردة” إلا بعد تقييمها.

التمييز بين سلبيات العلمانية وايجابياتها: كما يقوم هذا الموقف على التمييز بين سلبيات للعلمانية التي تتناقض مع الإسلام كالدين ومنها إقصاء واستبعاد الدين عن الحياة العامة وقصره على الحياة الخاصة… و ايجابياتها التي تتسق مع الإسلام كدين : ومنها تقرير مدنيه السلطة ورفض الثيوقراطيه… يقول المفكر الاسلامى احمد كمال أبو المجد انه يجب تحليل المكونات المختلفة للعلمانية ” إذ أن فيها عناصر لا نعتقد أنها تتعارض بالضرورة مع الإسلام ، كاعتبار السلطة السياسية ذات أساس مدني مستمد من رضا المحكومين، ونفى الصفة الثيوقراطيه عنها ،وكالتسليم بحق أتباع الديانات المختلفة في ممارسة شعائرهم الدينية بحريه، إلا إذا صادمت ما يعرف بالنظام العام والآداب العامة، وهى فكره ترتبط بالدولة ولا ترتبط بالإسلام ، أما فصل الدين عن الوله، بمعنى إقصاء الدين عن أن يكون له دور في تنظيم أمور المجتمع فإنها المكون الرئيسي من مكونات العلمانية الذي لا يسع مسلما قبوله ” (أحمد كمال أبو المجد، نحو صيغة جديدة للعلاقة بين القومية العربية والإسلام،مجله المستقبل العربي ،العدد26 – ابريل 1981 ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ، ص 115).

تجاوز مذاهب الثيوقراطيه والكهنوت والعلمانية معا: وهذا الوثق ينطلق من كون الحل الاسلامى "الصحيح" لطبيعة العلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية ،يجعل العلاقة بينهما علاقة وحدة وارتباط (وليست علاقة خلط أو تطابق كما في مذهبي الكهنوت و الثيوقراطية ) ، لان السلطة في الإسلام مقيدة بقواعد كلية (الشورى والعدل والمساواة…. وعلاقة تمييز (وليس فصل كما في العلمانية ) لان الإسلام يميز بين التشريع كوضع الهي ثابت والاجتهاد ككسب بشرى متغير. اذا الحل الذي قدمه الفكر السياسي الإسلامي لمشكلة العلاقة بين الدين والدولة يتجاوز كل الحلول التى قدمها الفكر السياسي الغربي(اى الثيوقراطيه والكهنوت من جهة والعلمانية من جهة أخرى)...


د. صبري محمد خليل / أستاذ فلسفة القيم الاسلامية في جامعة الخرطوم

______________________________

الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات الموقع الرسمي للدكتور صبري محمد خليل خيري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى