مالك معاذ سليمان - البص السياحي.. قصة قصيرة

كان البص السياحي في ذلك الصباح الجميل على اهبة الاستعداد للإنطلاق الى وجهته بعد ان اكتظت مقاعده الوثيرة بالركاب... كانت ستائره السميكة السوداء قد اُسدلت على جانبيه بإحكام، فأضحى شبه مظلم لولا بصيص الضوء المنبعث من مصابيحه المعلقة على سقفه... حركة نزول وركوب على بابه الأمامي من قبل الركاب ومشيعيهم او من السابلة، اما متنه فقد شهد حركة دؤوب، غير عادية... اصوات باعة جائلين، بُحت حلوقهم من شدة الصياح واستجداء المشترين، ابرزهن فتيات يانعات، يعرضن اقراص السمسمية والفول المدمس والتسالي، وتوسلات شحادين يسألون الناس الحاحاً والحافاً، يتوسطهم نشالون يذرعون ممشى البص جيئةً و ذهاباً، متحينين الفرص الذهبية للانقضاض على فرائسهم وضحاياهم من الركاب بخفة ونشاط يحسدون عليه... وتبلغ الفوضى ذروتها عندما يطلق رضيع هنا او هناك حلقه الصغير بصياح يأبى ان يتوقف رغم المحاولات المستميتة من الامهات المغلوب على امرهن... وتتواصل دراما الفوضى والصخب عندما يعلو صوت رجلين متعاركين من اجل الحصول على مقعد غاب صاحبه، فتستقبل اذناك من الشتائم ما يعف القلم عن تسطيره، او عندما يرتفع صوت متحدث على الموبايل، يحاول جاهدا ان يُسمِع صوته للطرف الآخر... كان اغلب من في البص يشارك في هذه المسرحية الهزلية المرتجلة التي يغلب عليها طابع الصخب والضجيج عندما يتحدث الجميع بصوت واحد، فتبحث عن المصغي فلا ترى عيناك غير افواه تثرثر بلا هوادة، فلا تملك حينها غير ان تضع اصابعك في اذنيك، مخافة ان تنفجرا.
كانت المقاعد الست الاوائل شبه محجوزة لاسرة واحدة تتوسطهم عروس بضة ما زالت ترفل في ثوب عرسها الجميل، تزين كفيها حناء سوداء ذات رسومات رقيقة منمقة ، زادتها رقة وجمالا... كانت تلك المجموعة في شغل تماما عن ما يجري في انحاء البص من فوضى عارمة، واقتصر نشاطها في التقاط صور السيلفي مع العروس، او مع من اتوا لتشييعها بينما كانت تُسمع زغرودة خجولة من حين الى آخر، او صوت مغنية مشهورة منبعث من اجهزة الموبايل... كان منظر تلك الاسرة هو الجانب المشرق الوحيد في ذلك البص العجيب، ثم فجأة تعالى صوت محرك ماكينة البص وطغى على كل ذلك الضجيج، اما صوت نفيره العالي، فكان بمثابة صافرة النهاية لتلك المسرحية الهزلية...شرع الباعة الجائلون والشحادون والنشالون في التهيؤ للانسحاب والنزول واحدا تلو الآخر، وقبل ان ينفض سامرهم، ظهر في مقدمة البص رجل ضخم الجثة، صارم القسمات، اكثر ما كان يميزه شارب كث، اتخذ شكلا دائرياً، ليغطى معظم وجهه...كانت عيناه محمرتين، يتطاير منهما الشرر والتحدي... احتار الجميع في تصنيف ذلك الرجل؛ فمنهم من حسبه سائق البص، ومنهم من حسبه احد عناصر الأمن جاء في إثر مجرم خطير، ومنهم من لم يوفق في تصنيفه، بيد ان الجميع قد اشتركوا في شعور الرهبة والتوجس منه خوفاً وفزعاً... ارتجف الجميع عندما صاح بأعلى صوته: يا فلانة!! صيحة اهتزت لها مقاعد البص الوثيرة ومن عليها و اوقفت كل متحرك واخرست كل فاه والجمت كل تفكير، عدا التفكير في ما يلي هذه الصيحة من امر جلل وحدث لا تحمد عقباه.. ثم اردف تلك الصيحة بأخرى اجبرت الاعناق على ان تشرئب في فضول لتعرف من هذه الفلانة التي اوقعها حظها العاثر في براثن هذا الرجل الشرير، الذي لن يأتي من ورائه خير على ما يبدو.
وقبل ان يردف الصيحة الثانية بثالثة اقوى منها، جاء صوت فلانة من اقصى البص واهناً، متقطعاً، متحشرجاً لا تكاد تسمعه الآذان الصاغية ولا ان تستبينه العيون الفاحصة المتوجسة من اول وهلة. كانت فلانة شابة في مقتبل العمر ذات حسن وجمال ووجه فيه مسحة من الطفولة والبراءة وفي حجرها طفل رضيع حول مقلتيه الواسعتين بقايا من دموع لم تجف بعد...اجابت فلانة بنعم يا ابو فلان، فكانت كلماته المزلزلة:
أنتِ طالق!!
أنتِ طالق!!
أنتِ طالق!!
القى بتلك الحروف الانشطارية التي لم تؤذ شظاياها فلانة المفجوعة فحسب، بل انقرزت ابرها المسمومة في قلب كل انسان في ذلك البص العجيب... القاها دون ان يرمش له جفن او يهتز له وجدان، ثم ولى الادبار لا يلوي على شيء، ليبتلعه زحام الميناء البري للأبد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى