عبير عزاوي - لعنة المرايا

خطواتي منتظمة باتجاه قاعة الاجتماعات في الفندق الذي أملكه، صوت حذائي على البلاط الفاخر لفت سمعي بصداه المميز . المصعد الحديث السريع يثب بي طابقاً تلو آخر ، وعند الطابق السادس عشر،أتوقف قليلاً خارج الباب، اتهيأ لأدخل بثقة وعنفوان الى القاعة حيث يجتمع رؤوساء أبرز الشركات المنافسة ، سيستمعون لعرضي حول المشروع العملاق الجديد الذي سيكون علامة فارقة في تاريخ العمل وستكون صفقته الأعلى ربحاً من نوعها .
أفتح باب القاعة،الهدوء يسيطر على المكان .
ينغلق الباب خلفي؛ القاعة فارغة تماما، يبدو أنني أخطأت المكان ،استدرت عائداً ادراجي عالجت الباب ببطاقة ألكترونية لكنه لم يفتح.
- " حسن بالتأكيد أني تأخرت على الاجتماع ولن يبدأوا بدوني لاشك سيقوم أحد بالبحث عني فهم يعرفون أني دقيق في مواعيدي ."
خطوت خطوتين للوراء، شكل القاعة قد تغير كلياً حولي ، فوقي وأمامي الكثير من المرايا مختلفة الأحجام، خطوت إلى منتصف القاعة ، متاهة حقيقية.
أنا لست صديقا للمرايا أبدًا، أنظر الى وجهي صباحا حين أحلق دقني ،أنظر في مرآة السيارة لأتبين طريقي ،وماعدا ذلك لا أذكر أني أنظر الى مرآة أبدا.
لاتعكس المرايا أي صورة، قربت وجهي من صفحة المرآة الكبرى المنتصبة وسط القاعة ؛ فلم أر شيئاً تحسست وجهي؛ ثم تحسست صفحة المرآة الصقيلة ؛ كل شيء طبيعي ؛ عدت لتقريب وجهي منها ؛ فلم يظهر شيء.
المرآة معلقة بحامل خشبي فخم مطعم بخيوط فضة؛ درت حولها فلم أجد مايثير ريبتي ، واجهت المرآة من جديد، صفحتها الصقيلة اللامعة تحولت الى لون أسود مددت يدي لألمسها وأكتشف الخلل، التقط السواد يدي حاولت سحبها بعنف ، فالتقمني السواد وابتلعني، ثم ألقى بي في هوة لاتنتهي، تدحرجت وارتميت في براح واسع أسود ؛ فجاة ظهرت صفحة صقيلة لمرآة صغيرة تبعتها أخرى وأخرى تحول البراح حولي إلى غابة من مرايا؛ وأنا أقف مشدوهاً لا أجرؤ على الاقتراب من أيّ منها ؛ بل أخذت المرايا تقترب مني حد التصاق إحداها بوجهي، رأيت وجهي مفلطحاً مهروس الملامح؛ التصقت أخرى بخدي فظهر وجه أمي صافياً، مجعداً، شاحباً، لم أرها منذ سنوات أقعدها المرض والتعب الطويل، أفنت عمرها في معمل الزجاج، لتعيلنا انا وإخوتي الستة بعد هجر والدي لنا.
- منذ متى لم أزرها ؟! لا أذكر.
لا أذكر أيضاً أني تمعنت في وجهها من قبل؛ كنت آخذ منها ما أحتاجه من مال ؛ وأمضي دون أن أنظر في وجهها الذي يملأ المرآة الملتصقة بوجهي الآن؛ فيه مايفوق معنى التعب والكبر.
ارتجفت، مددت يدي لألمس وجه أمي فالتقمني فضاء المرآة وتناولتني يد خشنة قاسية صفعت وجهت وأعادتني ملقى في البراح الأسود مرة أخرى؛ عادت المرايا الصقيلة تنبت حولي تقترب من وجهي كما في المرة الأولى تلتصق إحداها بوجهي تتفلطح ملامحي وتقترب مرآة أخرى من جانب وجهي الأيسر تبدو فيها صورة وجه مديحة؛ حبيبتي الأولى، أحببتها وعدتها بالزواج؛ ظلت خليلتي لسنوات؛ لكني تزوجت غيرها .
تصفعني اليد القاسية نفسها ؛ وتعيدني للسواد الأول، يتكرر المشهد بمرايا جديدة ؛ (صبا) زوجتي؛ ابنة مديري في العمل ؛ أغويتها حتى رضيت بي زوجاً ؛ جعلني والدها مساعده الأقرب ؛ دبرت له حادث سيارة وأخذت كل شيء ؛ صارت شركاتهم وأموالهم كلها لي وصرت أهم رجل في البلد .
تتناوشني المرايا ؛ تظهر فيها وجوه لاتحصى؛ عم طاهر الموظف عندي والد ثريا التي رفضتني ورفضت ان تكون زوجتي؛ ألقيت به في السجن بتهمة اختلاس أموال من الشركة ؛ جعلتها تركع عند قدمي لأشفي غليلي وشهوتي منها ثم أقذفها خارج شركتي .
المهندس عادل ذراعي الأيمن الذي يدقق في كل ما أفعل، ظهر في المرآة وهو يُدفن تحت أنقاض بناء غير مطابق للمواصفات.
تتكاثر المرايا، تتناهبني الوجوه الخارجة منها تتكاثر الأيدي التي تمزق جسدي ووجهي وتنثر اشلائي فتعيد المرآة السوداء تجميعي وابتلاعي وتقيؤي.
في مرآة ضخمة أعلى الفضاء الأسود تبدو صورة قاعة الاجتماعات حيث من المفترض ان أكون الآن، حول الطاولة يجتمع الشركاء ، على كرسيي الخاص يجلس ابني الوحيد وهو يعلن نفسه الرئيس الجديد لشركاتي القابضة؛ إلى جانبه يجلس (إيزاك ) التاجر النمساوي
مبتسماً بفخر. وهو يستعد لسماع بنود صفقة السلاح الجديدة.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى