سهير السمان‮ ‬ - وكانت قُبلة

مازال هذا الفجر‮ ‬يسكبني برفق مؤلم علي سرير رجل مصلوب،‮ ‬ويحاول الربيع المنهزم أن‮ ‬يتلو بعضا من دفئه علي آثار الصلب من حولي،‮ ‬هل فقدته وفقدت الوطن،‮ ‬بخلت عليه بالقبلة الوحيدة التي طلبها مني،‮ ‬علي أمل ألا تكون هي القبلة الوحيدة والأخيرة،‮ ‬عندما قال لي لأول مرة منذ تقابلنا من سنين‮: ‬هل لي بقبلة قبل أن أذهب للساحة؟‮ ‬
لقد تغير كل ما حولنا وفقدت الأشياء معانيها القديمة في قواميسنا،‮ ‬أخذنا نعيد تركيب الزمن و نصحح مسيرته،‮ ‬كنا نكتم كل شيء،‮ ‬ونخاف أن نعبِّر عما تجيش به أرواحنا،‮ ‬ولكننا الآن استطعنا أن نتلو الآيات بصوت الحرية،‮ ‬لا بصوت المستعبد الخائف،‮ ‬والآن‮ ‬يقولها لي دون خوف أو تردد وكأنها حق‮ ‬يريدها أن تكلل مسيرتنا،‮ ‬لقد قضينا سنين ونحن ننتظر أن‮ ‬يسمح لنا القدر أن نتزوج،‮ ‬ويجمعنا بيت واحد،‮ ‬وقف أمامنا الأهل معترضين،‮ ‬كيف وأنا من بيت‮ "‬سادة‮" ‬في صنعاء‮ ‬يرفضون أن‮ ‬يزوجوا بناتهم‮ ‬لمن هم أقل طبقة،‮ ‬وخصوصا إن كان من منطقة أخري‮! ‬
وفي هذه اللحظة‮ ‬التي كان فيها‮ ‬يرتدي معطف الأطباء المساعدين في نقل الجرحي الذين سقطوا‮ ‬بالرصاص أثناء مسيرتهم وهم‮ ‬يهتفون‮ (‬الشعب‮ ‬يريد أن‮ ‬يسقط النظام‮) ‬أجبته بعد ذهول مما قال‮ : ‬ماذا تقول؟ هل أنت مجنون؟
‮- ‬لم أكن عاقلا مثل هذه اللحظة،‮ ‬لقد عرفت وطني،‮ ‬تجاهلته كثيرا،‮ ‬ولكن في هذا المكان تعلمت معناه،‮ ‬كيف انتظر أن‮ ‬يجود لي بما أتمناه إن لم أبادر أنا بالإفصاح عن حبي‮.‬
‮- ‬هل تعي ما تقول؟
‮- ‬لقد وعيته جيدا‮ (‬أنت الوطن‮ ).‬
لم أره بعد جملته هذه،‮ ‬حاولت أن ألحق به وسط أولئك الجرحي والمسعفين ولكنه اختفي‮! ‬بعد أن خلًف الثورة في قلبي وذهب،‮ ‬أبعد هذه السنين؟ وطول انتظار؟‮ ‬يذهب لمعشوقة أخري‮! ‬لماذا؟
بقيت أتلو الصلوات في محراب الجرحي من حولي،‮ ‬راجية أن‮ ‬يعود،‮ ‬سأهتف بكل صوتي أنت لي أيها الوطن‮.‬
وعند توافد الجرحي افتش فيهم وكأن كل واحد منهم‮ (‬هو‮) ‬ويزداد خوفي،‮ ‬إلي أن استقر أمامي،‮ ‬ليس جريحا بل جسدا خاليا،‮ ‬تغطي وجهه الدماء،‮ ‬وابتسامة تعلو وجهه،‮ ‬وعينان نصف مفتوحة وكأنها كانت تنظر إلي أحد لا تريد فراقه،‮ ‬انهارت قدماي أمامه،‮ ‬لم‮ ‬يستطع لساني أن‮ ‬ينطق إلا بجملة واحدة‮ (‬كيف حدث هذا؟‮) ‬أخبرني زميله الذي كان معه في الساحة بعد أن انضما‮ ‬للمسيرة‮.‬
‮- ‬أتعلمين أني لم أعهده بهذه العزيمة من قبل سوي هذا اليوم،‮ ‬كان‮ ‬يقودنا وكأنه‮ ‬يسابق الزمن كمن‮ ‬يريد أن‮ ‬يلحق بموكب حبيبته في لقاء أول،‮ ‬كان‮ ‬يهتف بقوة ويصدح بأشعار‮ ‬غزل ما سمعتها من قبل علي لسانه‮.‬
أتعلمين أدركت أنه‮ ‬يحب بجنون،‮ ‬يحب هذه الأرض وهذه البلاد،‮ ‬لعمري إنه كان متيماً،‮ ‬كان‮ ‬يقول‮:‬
افتحي لي النافذة‮ ‬يا جدتي
فأبي أغلق عليَّ‮ ‬باب الدار
قال‮: ‬لا تلعب فالوقت مليء بالأخطار
خفت وبقيت أنظر من النافذة
ذاك اللص‮ ‬يسرق الأبقار
فرغت من الحليب‮.. ‬والجبن أواني الدار
قررت أن أكسر باب الدار
هيا نكسر باب الدار
وكنا نهتف جميعا،‮ ‬نكسر باب الدار‮... ‬نكسر باب الدار‮... ‬نكسر باب الدار.إلي أن واجه تلك المسيرة وابل من الرصاص من كل اتجاه فلم نعد ندري هل الرصاص من ورائنا أم كان من خلفنا،‮ ‬حاولنا‮ ‬الهرب،‮ ‬وهو كأنه‮ ‬يحاول كسر الباب،‮ ‬استقرت تلك الرصاصة في قلبه المحب،‮ ‬وفاضت دماؤه والتقي وجهه علي صفحة الأرض ضاما شفتيه‮ ‬يقبِّلها وهو‮ ‬يقول‮: ‬لقد أبيت تقبيلي ولكني أضمك بجراحي و أقبِّلك رغما عنك‮. ‬ملأت دموعي وجهي المتعب و لم أتمالك نفسي بعد الحديث،‮ ‬فدنوت من نعشه،‮ ‬أحضن رأسه،‮ ‬فكيف وقد حضنته الأرض قبلي‮ ‬وهل لي الآن‮. ‬أن أقبِّل شفاها قبلتني أرضا‮ ‬ووطنا‮!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى