علي خليفة - لماذا نعجب بمسرح العبث؟

حين ظهرت أوائل مسرحيات العبث على يد بعض الكتاب خاصة صمويل بيكيت ويوجين يونسكو توقع كثير من النقاد أن هذه الموجة من الكتابة المسرحية لن تستمر طويلا، وسيملها الجمهور سريعا، وأنها ستنتهي، ولن يكون لها أثر خلال وقت قليل، ولكن ما حدث بعد ذلك كان خلاف ذلك تماما، فلقد انجذب جمهور كبير لمسرح العبث، ومال بعض الكتاب ذوي الكتابات الواقعية والأسلوب الكلاسيكي في الكتابة لذلك النوع من المسرح، وما زال مسرح العبث يلقى إعجابا من القرّاء والمشاهدين له، لا سيما تلك المسرحيات المهمة التي كتبها كبار كتاب مسرح العبث، ولاقت نجاحا كبيرا حين عرضها، وما زال بعضها يلقى نفس النجاح عند عرضه، وذلك على الرغم من ظهور تيارات مسرحية ظهرت بعد ذلك، كمسرح الغضب، وتيارات أخرى تجعل التجريب هدفها، وتضعف سلطة النص على حساب سلطة العرض المتمثّلة في قدرات المخرج وجماعة الممثلين، ومن يقوم بالسينوغرافيا.
وسأحاول هنا أن أعرض الأسباب التي تجعلنا نعجب بمسرح العبث، ونستمر في إظهار إعجابنا وانبهارنا به.
أولا: ما في مسرح العبث من كسر لتقاليد المسرح العتيقة والثورة عليها
وكتاب مسرح العبث يَرَوْن أن المسرح قبلهم كان نوعا من المحاكاة والتقليد، بخلاف مسرحياتهم التي هي نوع من الابتكار، كما أنهم لا يكتفون في مسرحياتهم بعرض قضايا جديدة، ولكنهم يعرضون هذه القضايا الجديدة المستمدة من واقعهم بأساليب جديدة، وأشكال جديدة، ومن ثم فإن ثورتهم على المسرح قبلهم كانت في المضمون والشكل معا.
ونحن نرى في بعض مسرحيات سارتر وكامي بعض أفكار كتاب مسرح العبث عن عزلة الإنسان المعاصر وعدم قدرته على التكيف مع من حوله، ولكنهم يعرضون هذه الأفكار في أشكال كلاسيكية في الكتابة، كما نرى ذلك في مسرحية كاليجولا لكامي، ومسرحية جلسة سرية لسارتر، ولكن كتاب مسرح العبث يعرضون هذه الأفكار في أشكال فيها تمرد على الشكل المسرحي المتوارث، فلا نرى فيها خطا دراميا متصاعدا، ولا شخصيات نامية لها ملامح محددة.
ونعطي مثالا على ذلك بمسرحية المغنية الصلعاء ليوجين يونسكو، فهي تعبر عن عجز الإنسان عن تواصله الحقيقي مع كل من حوله حتى أقرب الناس إليه، ولا نرى في هذه المسرحية حدثا متصاعدا وشخصيات نامية ، بل إن هذه المسرحية تعتمد على مواقف متتالية لا رابط بينها، وهذه المواقف تفتقد المنطق أيضا.
ثانيا: النهايات الغريبة في مسرح العبث
وبعض مسرحيات مسرح العبث نرى فيها حتى قبيل نهاياتها أحداثا غريبة، ولكن يمكن قبول حدوثها أو احتمال حدوثها، حتى تأتي نهاياتها الغريبة لتؤكد عبثية الأحداث السابقة فيها، وتنبيه المشاهد الذي كان يظن أنه مع أحداث منطقية أنه كان واهما، ونرى ذلك في مسرحية الدرس ليونسكو، ففيها نرى مدرسا تأتيه طالبة في بيته، ويلقي عليها دروسه بشكل فيه عنف وحدة، وتبدو دروسه ساذجة وفيها مغالطات وتناقضات، وكل ما مضى يبدو قبوله مع ما فيه من غرابة، حتى تأتي نهاية هذه المسرحية الغريبة لتؤكد أن ماسبق كان تمهيدا لتلك النهاية العبثية، فذلك المدرس يقتل تلميذته، ويأمر خادمته بدفنها في المكان الذي دفن فيه أربعين تلميذة من قبل، ونراه في الوقت نفسه يستعد لمقابلة تلميذة جديدة.
وأيضا نرى هذه النهاية الغريبة الصادمة في مسرحية فتاة في سن الزواج ليونسكو، ففي هذه المسرحية نرى رجلا وامرأة يجلسان على مقعد كبير في إحدى الحدائق، ويتحدثان في أمور لا رابط بينها، ولا تبدو لها أهمية، وكل هذا مع غرابته يمكن قبوله، ولكن نهاية هذه المسرحية هي التي لا يمكن قبولها، وتؤكد عبثية الأحداث في هذه المسرحية، فقد كانت تلك المرأة تحدث ذلك الرجل عن ابنة لها في سن الزواج، ويدخل المسرح على تلك المرأة وذلك الرجل شاب، وتقول هذه المرأة لذلك الرجل: إن هذا الشاب هو فتاتها التي في سن الزواج، ولا يستغرب الرجل من ذلك.
وما أشبه هذه المسرحيات العبثية التي تسير حتى قبيل نهاياتها بما يمكن قبول حدوثه مع ما فيه من غرابة بالأحلام والكوابيس التي تتغير فيها الأشياء بعد ذلك لصور صادمة لا تتفق مع المنطق، ولكنها تتفق مع طبيعة الأحلام والكوابيس.
ثالثا: الثورة على أشكال المسرح الحديثة كالمونودراما
ولا يكتفي كتاب مسرح العبث بالثورة في مسرحهم على تقاليد المسرح الأرسطية القديمة وما أضافه نقاد المسرح وكتابه من تغيرات عبر السنين، بل إنهم يثورون أيضا على بعض الأشكال المسرحية الحديثة، وذلك من خلال وضع لمساتهم ذات الطابع العبثي عليها، كما نرى هذا فيما فعلوه في شكل المونودراما، فنرى أنهم جعلوا المونودراما مبررا قويا لعزلة الإنسان وشعوره لعدم القدرة على التواصل مع غيره،، وليس مجرد الرغبة في عرض تناقضات الذات كما نرى ذلك في كثير من مسرحيات المونودراما عند غير كتاب العبث، وهكذا نرى أن مبرر المونودراما عند كتاب مسرح العبث هو عجز الإنسان عن التواصل مع غيره، فصار يعيش مع نفسه، وهو أيضا قد يبدو عاجزا عن تواصله مع نفسه، كما نرى هذا في مسرحية شريط كراب الأخير لبيكيت.
رابعا: تغير الشخصيات وتقلبها وتلونها
والشخصيات في مسرح العبث تتصف بأنها شخصيات متقلبة ومتلونة، ولا نرى ثباتا لها في صفاتها، فهي كالطبيعة التي تعيش فيها وتتصف بالتقلب، ونرى مثالا لذلك في شخصية هام في مسرحية نهاية اللعبة لبيكيت، فهو شخص متناقض في تصرفاته، ونراه يقسو على والديه اللذين قطع أرجلهم ووضعهما بعد ذلك في برميلين، ثم نراه بلا مقدمات يحنو عليهما أحيانا، ويعود بعد ذلك لقسوته، ويستمر طوال هذه المسرحية في ذلك التقلب والتلون.
وأيضا نرى مثالا آخر لتقلب الشخصيات في مسرح العبث في مسرحية المهندس إمبراطور آشور لفرناندو أرابال، ففي هذه المسرحية نرى من يقوم بدور المهندس ومن يقوم بدور إمبراطور آشور فيها في تقلب مستمر، ونراهما يتبادلان الأدوار أحيانا.
وأيضا نرى مثالا ثالثا لهذا التقلب في الشخصيات في مسرح العبث في مسرحية مسافر ليل لصلاح عبد الصبور، ففي هذه المسرحية نرى عامل التذاكر فيها لأحد القطارات يتلون في شخصيات مختلفة؛ فيظهر فيها على أنه الإسكندر الأكبر وقد عاد من التاريخ لفرض سلطته من جديد على من حوله، ثم يتلون نفس الشخص في شخصية عامل لقطع التذاكر شغوف بأكل تذاكر الركاب، ثم نراه يتلون في شخصية عشري السلطة الذي يهتم بأمر مقاطعة كبيرة، ويحقق في جريمة تمس المساس بالمقدس في هذه المسرحية.
وقد يصل التلون والتقلب في الشخصية لمدى أكبر في مسرح العبث، فنرى الإنسان يتحول لكائن آخر، فيصير على سبيل المثال خرتيتا، كما نرى ذلك في مسرحية الخرتيت ليونسكو، وفي هذه المسرحية تتحول الاستعارة والتشبيه لحقيقة، فلم يعد الأمر مقتصرا على تشبيه بعض الناس بالخراتيت، ولكنهم يتحولون في هذه المسرحية لخراتيت بالفعل، والغريب هنا أن من يتحولون لخراتيت هم من يتمسكون بالعقل والمنطق؛ لأنهم - من وجهة نظر يونسكو والعبثيين الآخرين - يحاولون فرض نظام من المنطق على الحياة التي تخلو من أي منطق.
وهذا التقلب والتلون في الشخصيات في مسرح العبث مقصود به أولا الثورة على شكل الشخصيات المتوارث في أن يكون لكل منها أبعاد محددة، وتنمو من خلالها، كما أنهم قصدوا من وراء هذا التقلب والتلون في الشخصيات إظهار الخلل الواضح في كل الشخصيات في ذلك العصر من وجهة نظرهم - التي لا تتفق معهم فيها -.
خامسا: تصوير حالة العجز والموت المعنوي بصور مجسدة
وأكثر الشخصيات في مسرح العبث هي شخصيات تشعر بالملل وفراغ الحياة من المعنى، وتعيش فيما يشبه الموت؛ ولهذا ليس غريبا أن يتجسد لها الموت في الحقيقة، كما نرى ذلك في مسرحية أميديه ليونسكو، فالزوجان اللذان يظهران في هذه المسرحية يعيشان حياة أشبه بالموت في فراغها وما فيها من تكرار ممل؛ ولهذا لم يكن غريبا أن تظهر جثة في بيتهما، وتنمو باستمرار حتى هددت هذه الجثة حياتهما التي تشبه الموت في ذلك البيت.
سادسا: لا توجد توقعات مفاجئة للشخصيات في مسرح العبث
تدرك الشخصيات في مسرح العبث أنه لا سبيل لخلاصها، وأنها تحيا حياة مملة تخلو من المعنى، وتوهم نفسها أحيانا بأنها تحظى بالسعادة، ولكنها سعادة زائفة، كما نرى هذا في مسرحية الأيام السعيدة لبيكيت، فبطلة هذه المسرحية ويني رغم أنها مدفونة إلى وسطها في الأرض تعبر عن سعادتها بالحياة، وهي تتكلم في أمور تافهة لا تدعو للسعادة، وتعجز عن التواصل مع زوجها ويلي، وتصبح مدفونة حتى عنقها في الفصل الثاني والأخير من هذه المسرحية دلالة على ما يحاصرها من قيود وما تشعر به من عجز، ومع ذلك نراها تردد عبارة أنها تشعر بالسعادة.
وكذلك نرى في مسرحية في انتظار جودو أن الشخصيتين الرئيستين بها، وهما فلاديمير واستراجون، لا يشعران بأن لحياتهما أي قيمة، ولا يوجد أي داع يدفعهما لاستمرار الحياة، ومع ذلك نراهما يتمسكان بالانتظار العبثي لشخص لن يأتي حتى يستطيعا أن يجعلا لحياتهما الخاوية مبررا في البقاء.
سابعا: مظاهر القسوة الشديدة في مسرح العبث
ونرى في بعض مسرحيات العبث مواقف فيها قسوة وعنف شديدين، كالموقف الذي نراه في مسرحية في انتظار جودو، وفيه يقوم بوزو بضرب تابع له ضربا شديدا، وهو مقيد بسلسلة يمسك بوزو بطرف منها، وهو يضربه ويهينه، وأيضا نرى في نهاية مسرحية الدرس مشاهد قسوة شديدة في قتل المدرس تلميذته بوحشية شديدة بلا مقدمات.
وعرف أرابال بالذات بكثرة مشاهد العنف في مسرحه، كما نرى هذا في مسرحية قرافة العربات، ومسرحية الجلادين ومسرحية فاندو وليز، بل إننا نرى أرابال على لسان بعض شخصياته في بعض المسرحيات يرى أن العنف والقسوة هما ما يولد الإنسان عليه، وأنه يخالف فطرته حين يميل للطيبة والوداعة والمسامحة، كما نرى هذا بشكل واضح في مسرحية الناسك له.
ثامنا: الثورة على اللغة، والنظر إليها على أنها أداة تواصل عقيمة
وكثير من كتاب مسرح العبث يرون اللغة أداة تواصل عقيمة، فالناس يظنون من خلالها أنهم يتواصلون، ولكنهم في حقيقة الأمر يظهرون عاجزين عن التواصل من خلالها، وصور هذا يونسكو في كثير من مسرحياته، كما نرى هذا في مسرحية الخرتيت خاصة في الفصل الأول منها، وفي مسرحية المغنية الصلعاء، وتبدو اللغة عاجزة عن التعبير عن الحوار والمناقشة عنده في مسرحية مشهد لأربعة التي نرى فيها ثلاثة أشخاص يبدو أنهم يتنافسون ويتجادلون في أمر ما، ولكنهم عاجزون عن أن يتواصل أي واحد منهم مع غيره، كما أننا نفهم من هذه المسرحية أنه لا توجد قضية معينة يحاولون النقاش حولها، ولكن الأمر لا يزيد عن إظهار عجزهم عن التحاور والنقاش أساسا، وأكثر من هذا أننا نرى يونسكو يعود للغة لما كانت عليه من كونها مجرد أصوات - كما هو اعتقاد البعض - قد لا تحمل أي معنى، كما نرى هذا في مسرحية التحيات.
وتأثر توفيق الحكيم بموقف كتاب مسرح العبث من اللغة، خاصة موقف يونسكو منها في مسرحية يا طالع الشجرة في المشهد الذي يتم استحضاره من الماضي، ويتحدث فيه بهادر مع زوجته بهانة، ويبدو للناظر إليهما أنهما يتحاوران حوارا فيه انسجام شديد بينهما، ولكن من يدقق النظر في حديثهما يدرك أنه حديث متواز، فكل واحد منهما يتحدث مع نفسه، ولا يلتفت لما يقوله غيره دلالة على فقدان التواصل بينهما.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى