رسالة من عبد الحي سيد إلى ياسين الحاج صالح

-عزيزي ياسين،
لست أدري ما الذي دفعني أن أمسك قلمي لأكتب لك مع قراءة كل صفحة من كتابك “بالخلاص يا شباب!” ولست أدري ما الذي أدى الى أن يستولي على تفكيري موضوع الصمت عندما شرعت بقراءة أول كلمة عن السجن في كتابك. كنت قصدت أن أجري مراجعة تقليدية لكتابك عن تجربتك الانسانية في السجون السورية. عن “السجن الوحش” الذي قمت أنت بترويضه والسيطرة عليه “بالقراءة والتعلم”. عن الأدوات التي سمحت لك بتقييد ذلك الوحش. عن الكتب التي تعلمت أنت منها هناك، وتغيرت تحت تأثيرها. عن امكانات “استئناف شروط الحياة والصراع” في السجن. عن المعارك الصغرى – الكبرى، للحصول على قلم أو بضع أوراق. عن السجن “كسيرورة تعلم”. عن “الجهد الموصول لانقاذ فسحات انسانية داخل السجن”. عن مقاوماتك مع رفاقك “لتعيش وتصون انسانيتك وتوسع عوالمك”. عن السجن “كشرط محتمل للمثقف” في سوريا الثمانينات. باختصار عن إمكان جعل السجن “إطاراً للتحرر”.

لكن، أمام “قصة الانعتاق” التي تحكيها صفحات كتابك، أجد نفسي مندفعاً لأكتب موجها كلامي إليك، لأحدثك عن الوجه الآخر للسجن السياسي في سوريا الثمانينات والتسعينات، الا وهو الصمت. أريد أن أحدثك عن مملكة الصمت على قول “ابن العم” رياض الترك، التي قبعت أنا وقبع المجتمع السوري فيها لزمن طويل، كما قبعت أنت و”ابن العم” في السجن. أريد أن أحدثك عن الصمت من حيث هو سجن رمزي طبع حياتي وحياة السوريين اليومية، في الوقت الذي كنت أنت فيه تتنقل بين سجون المسلمية وعدرا وتدمر. السجن والصمت. كلاهما وجهان لواقع واحد. السجن مكان وفكرة. والصمت كل المكان والفكرة نفسها. كلاهما واقع نعيش ونتلوى فيه. وبينما السجن هو حيز مكاني، فإن الصمت هو حيز رمزي؛ وبينما رمتك السلطة في السجن لنيف وستة عشر عاما، فإنها ألقت بي وبالمجتمع السوري عموماً في حيز الصمت لعقود عدة. الصمت والسجن، يا صديقي، هما “مستنقعنا” المشترك: فحيث لفّت حول عنقك طحالب السجن الطويلة، قبعت أنا وكثر مثلي في مياه هذا المستنقع الراكدة والنتنة. ليس قصدي أن استهين بالقسوة التي تعرضت أنت لها في السجن، بل إن قصدي أن أهوّن عليك، على الرغم من أنك لست في حاجة الى ذلك بعدما “روضت الوحش”، كما تحكي في كتابك. أريد أن أقول لك إن العنف العاري الذي ذقته أنت في السجن، ليس الا درجة أعلى بكثير من العنف نفسه الذي كان قد طبع علاقة السلطة مع المجتمع السوري في حياته اليومية على مدى عقود.

أريد يا صديقي أن أحدثك عن الصمت وليس السكوت. لقد كان السكوت، يا ياسين، حال البعض ممن شاهدوا وسمعوا ولكنهم أعرضوا بوجوههم وتعايشوا أو برروا بقرارة أنفسهم، أو دافعوا عن “الطغيان” والأوضاع غير المنصفة في البلد. ليس بين الصمت والسكوت إلا حاجز رث، يمكن اختراقه في كل وقت. وقد كان جزء من تحدي الصمت أن لا تسقط في السكوت. لن أتوقف طويلا عند الشروط التي جعلت من الصمت قيداً للفرد “بألياف أعصابه”، كما تقول في كتابك عن حال السجين الذي كنت فيها؛ بل أريد أن أحدثك عن الصمت في سوريا من حيث هو “تجربة تحرر” وتجربة انعتاق حقيقية”، كما عشتها أنت ورفاقك في السجن؛ عن الصمت الذي سمح للثورة بأن تقع، وللحلم بالكرامة والحرية بأن تكون ممكنة.

منذ أوائل الستينات، أجبرت السلطة المجتمع السوري على الانضباط في حياته اليومية “بأوامر اعتباطية وجائرة”، كما كانت تفعل في تعاملها معك في سجنك على نحو ما تصف في كتابك. حدث ذلك في كل مكان، وفي كل وقت. لا فرق أن تكون في المعمل أو المدرسة أو المشفى. كثيراً ما خبر المجتمع، يا ياسين، “تقصف الركب” و”نشفان الريق”، عند كل استملاك اعتباطي للأراضي أو تنفيذ عمليات هدم جائرة لمساكن بناها أصحابها على عجل، بشكل “مخالف”، وبالموارد المتاحة، لمواجهة حرقة انعدام امكانات الحصول على سكن كريم. كان المجتمع يعيش في مواجهة سلطة تستبيح الحياة العادية، بكل تفاصيلها، وتجعل من “استحالة توقع المصير” وضعاً طبيعياً. كان المجتمع السوري “فاقد الخصوصية جذرياً”، كما كانت حال السجين التي تصفها في كتابك، وفي حالة “انكشاف تام” أمام سلطة كان يبدو أن “اصنص” وجودها هو ممارسة ملحمتها السوريالية “بأفانين الترويع” اليومي. كثيراً ما كان الفرد يجبر في معاملاته الإدارية على خلع “شرفه” الذي يعامل كمثل “فردة حذاء”، كما تعرضت لذلك أنت في السجن، ليضعه في فمه، وليكزّ عليه بأسنانه، من أجل أن يستجدي بالواسطة والتوسل والرشوة للحصول على أتفه الحقوق. في كل مرة كان فيها الفرد يحصل على مسكن أو مكسب أو فرصة متواضعة، كان ذلك يحدث “بصعوبة” مع بقائه “مهددا بخسارته في كل حين”. كان الوضع المثالي لإدارة الشؤون العامة في البلد هو حالة أبد، كمثل ذلك “السجن المطلق” الذي عشت فيه أنت يا ياسين في تدمر، حيث “الزمن لا يمضي” و”يتراكم” فوق المحكومين “ليخنقهم”. سوريا بخير عندما تبقى ذلك “المكان المغلق الذي لا تغير فيه”، وحيث “لا يدخل اليه ولا يخرج الزمن”.

في هذا “الحضيض الطويل” ولد الجيل الذي ينزل اليوم الى الشوارع، ليحلم ويهتف للكرامة والحرية، وليصوّر ويُعتقل ويستشهد. لقد فتح هؤلاء الشباب عيونهم على هذا الصمت، وعاشوه “لأنه لم يكن لهم خيار آخر”. ولأنهم لم يكونوا يعرفون ماذا يفعلون “غير أن يبقوا على قيد الحياة”، فقد “عاشوا ما استطاعوا”، كما كنتم تفعلون في السجن، وتجرعوا بأجسادهم جبروت الطغيان. لكنهم لم يستسلموا يا عزيزي ياسين. كان الصمت الذي تكوّروا فيه، سجنهم وملاذهم في آن واحد. لقد دخلت أنت السجن لأنك لم تصمت. ولكن الصمت الذي خيّم بعد ذلك في سوريا الثمانينات والتسعينات، له قصة أخرى. وهي قصة “لها معنى”، كما كانت الحال في سجنك. لم يكن الصمت، يا صديقي، صمتاً عن سجنك أنت ورفاقك كمثل هيثم الخوجة وبكر صدقي، بل كان سجناً مع سجنك. وكما كان السجن بالنسبة إليك قصة تحرر، فقد كان الصمت في سوريا “قصة انعتاق”. لقد تجرع المجتمع السوري، يا صديقي، حياته الشقية بصمت. أدارها بما هو متاح، ولكنه لم يكلّ من “توسيع مساحته الانسانية”. أمام انعدام امكانات اللقاء في فضاء عام، خلق المجتمع السوري فضاءاته الخاصة، وطوّر أحلامه وروايته الكبرى البديلة التي سيكسر بها الصمت. لم ينزلق المجتمع السوري بصمته في عتمة “الهويات القاتلة”، بل عانق في أحلامه أسمى القيم الانسانية العصرية، قيم الكرامة والحرية والعدالة والمواطنة. في مواجهة الحصر والاسكات، كان المجتمع السوري خلاّقاً في توسيع امكانات وعيه، وكان مثقفوه وفنانوه وسينمائيوه يفعلون ما يستطيعون. لقد خرج ربيع دمشق عام ٢٠٠٠ من هذا الصمت، حيث فتحت فضاءات الصالونات الخاصة على المساحة العامة، بعدما منع الناس من اللقاء لعقود. لن أنسى، يا ياسين، وجوه العشرات من الشباب الصامتين، الذين أتوا ليستمعوا فقط بدون نقاش، الى محاضرتك الاخيرة في منتدى جمال الاتاسي. هل تذكر يا صديقي داريا عامي 2003 و2004، حيث انطلق شباب مثل يحيى الشربجي ورفاقه في حملاتهم المدنية ضد الفساد في البلدية، أو حملات النظافة في الساحة العامة. اعتُقل هؤلاء الشباب، ومن بقي منهم على قيد الحياة هو معتقل اليوم، ونُكِّل بهم وتعذّبوا أشد عذاب. لكن حراكهم هذا خرج من رحم الصمت. هم نفسهم من يبتدع الآن أكثر المواقف تأثيراً في الثورة. إن قنينة بقين التي ربط بها شباب داريا زنبقة ووضعوا عليها قطعة بقلاوة ليقدموها الى رجال الأمن الذين كانوا يصبّون بنادقهم، تعبيرا عن سلمية مطالب التظاهر السلمي وانسانيتها في بدايات الثورة، هي نتيجة طبيعية لهذا الصمت الذي ولد فيه شباب داريا وفيه قبعوا، ومثلهم ملايين الشباب في كل بلدة من بلدات سوريا. صحيح أن الصمت كان بالنسبة الى شباب الثورة قيداً، لكنه كان كذلك إطاراً للوعي المحرِّر. كان الصمت بالنسبة إليهم رقصاً مع الأصفاد، وهدير مقاومة يومية، وغليان وعي تحرري. اليوم، وبالثورة، كسر الشباب الصمت الذي سيطر على حياتهم لعقود، وقالوا بالفم الملآن: بالخلاص أيها الصمت!

تدرك إذاً يا صديقي أن رسالتي هذه لم تكن مديحاً للصمت، بل مرثية له. إن قصة الصمت في سوريا لن ترويها الكتب، بل حكايا الناس عن مقاوماتهم اليومية في الأوضاع الصغيرة التي كانت تجري تحت النظر، والتي لا يمكن أن تفهم إلا لأن في الصمت وعياً بانعدام العدالة، وتوقاً عارماً لتحقيقها. سيتعين علينا يوما ما، يا صديقي، أن نشقّ معاً، ويداً بيد، “بطن هذا الوحش”، لنستخرج قصص مقاومات الأفراد واحدا واحدا لان “كلها ثمينة وكلها فذة”.

بالخلاص يا صديقي… بالخلاص يا ياسين.

دمشق في 19 تموز 2012

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى