إبراهيم محمود - ما ليس يكتمل: نبيل سليمان والرواية المفتوحة

في قراءة نبيل سليمان " 1945- ..."، ناقداً وروائياً عربياً سورياً، ثمة ما يستدعي الوقوف على منعطف طرق. انطلاقاً من ملَكة الشغف في القراءة والكتابة، وبالعكس، كما لو أن حياته وعد أبدي بهما، أبصر النور من أجلهما، ولن يفارق النور إلا وهو مأهول بهما بكامله، وبهما تعرَف روحه فالقراءة والكتابة الفعليتان وعْد بالآتي بما لا يأتي، وبالتالي، فهما حكْم مبرم بانتظار موصول بهما. إذ لا أكثر من طرقه السالكة، وهي ليست سالكة بسهولة، جهة أسلوب كتابتها، إنما المهم والأهم، هو جهة الموضوعات المطروقة. فكل موضوع يعرَّف بنفسه بطريقة تتناسب، والمساحة الزمانية- المكانية التي يشغلها، وما هو يقدَّر أنه يمتد بمؤثراتها، وتداعياته

ذلك ليس مديحاً، إنما مكاشفة لبنية كتاباته حيث يتداخل فيها الناقد والروائي أو بالعكس، دون نسيان أن وراء هذه التوأمة الكتابية، يبرز قارئ مصاب بعدوى القراءة المزمنة لكل ما هو حياتي " من يمارس مسحاً لعناوين كتبه التي تضمها مكتبته البيتية في قريته " البودي " التابعة لمحافظة اللاذقية، حيث رأيتها قبل عقد من السنين، سوف تتأكد لديه مثل هذه العلاقة "، ولن يكون قارئه أو ناقده مبالغاً، إن ربط بين أي عمل روائي له، وما يسبقه أو يلحقه من عمل نقدي، جهة محتوياته، ومستجدات الأحداث في المنطقة، والتوجهات الثقافية القائمة، من خلال أهم العناوين الثقافية التي تتصدرها، وهذا من شأنه أن يترك كل عمل منجَز " ورقياً " لديه، في طور التتمة، أي ما يقبل الإضافة، ما يقبل القراءة " الـ: ما قبل، والـ: ما بعد له " تجاوباً مع مفهوم الكتابة بالذات، بالنسبة إلى كاتب، يقرأ ويكتب وعينه على الآتي، ويمضي على ما يكتبه بوصفه المنتظر لما يزيد في أثره توسيعاً وعمْق أبعاد، وتلك هي الكتابة المركَّبة الفعلية.

إنه امرؤ يعيش الحياة، ينغمر بها، وهي في تنوع مسالكها، وهي مسالك، انعطافات، ومغامرات، ذهابات وإيابات يعاود فيها السرد حضوره دورياً، وتبرز أعماله كما لو أنه عمل فني واحد،بيت بمنازل كبيرة، وما أظهرَها للعيان، كما يقال، ليكبر البيت ويتسع، وتكبر منازله وتتسع بالمقابل، بيت صيرورةٌ طبعاً،ولهذا، يعيش قارئه تفاصيل الحياة التي خبِرها، وتلك التي سمع بها، وقرأ عنها، في صهارة واحدة، وهو ما يذكّر بمدى انخراط الكاتب في الحياة، وهنا يظهر نبيل سليمان باحثاً من ناحية عن " الزمن المفقود " وعن الزمن الموجود، ومن ثم الزمن المنشود أو الموعود، إن جاز التعبير إذ ( إن أهمية القراءة لا تتجلى إلا في تفاصيل الحياة..) "1".

ولا أشك للحظة واحدة أنها أحاط بها، ومن هنا كان البحث قراءة وكتابة إدماناً ، ليلَ نهاره !

ذلك ما يجعل قراءته صعبة، ولا بد أن تكون كذلك، في خاصيتها النهرية والينبوعية معاً، إذ إن كل رواية هنا، تومئ بما هو مجهول الاسم، كما لو أنها تسمّي ما ينبغي النظر فيه، قبلها، ولحظة الانتهاء منها، تثير متخيل القارىء بما من شأنه التفكير في التالي، أي ما يجعل الرواية حلقة في سلسلة حلقات طويلة، لا تكون نهايتها إلا تلك المرسومة في نهاية المسمى بـ" الكتاب " وليس بفعل القراءة الذي يحرّر الكتاب من ربقة الغلاف بعنوان، والصفحات التي يعرَف بها.

في قراءة روايات نبيل سليمان التي تعدّت العشرين " 23 " رواية، بدءاً من بدعته اللافتة، بطابعها الطوفاني، القياماتي " الصُّوري " إن جاز التعبير " ينداح الطوفان " سنة 1970، وصولاً إلى بدعته الأفخم " تاريخ العيون المطفئة " سنة 2019، حيث مفارقة التعبير عنواناً، أي ما يجعل للعيون المطفأة تاريخاً، وكيفية قراءته من قبل العيون البصيرة، والكاتب، الروائي هنا مؤرّخ اللحظة المفصلية، ولحدث مفصلي، وفي ضوء ما هو مفصلي يؤرخ لما هو مشرّخ، في القراءة هذه ليس من وعد بالبدء الحسابي، إنما إيفاء هندسي بما لا يحاط به فنياً، وليس من تصريح خطي، أو بوح من لدنه، ليعوَّل عليه، ناحية ما يمكن الاطمئنان إليه روائياً، كونه يكتب عما هو رجراج، زالزالي، مضطرب، متلاطم واقعاً، وما على قارئه إلا أن يسايره، أو لا بد عليه أن يغادره، لأنه لن يجد ما يبحث عنه. ثمة حدَاد قائم على واقع، ومخاض واقع، وهذا في بنية تكوينه يتطلب قارئاً يرتقي إلى مستواه، وهو متمرس في قراءة ما هو هندسي داخله.

هذا ما أسمّيه، وما سأتوقف عنده باللامكتمل، أو ما لا يكتمل. إنه ما يستدعي مفهوماً منطقياً، جديراً بالذكير، وهو " الاستقراء الناقص " الذي يفعّل كل أثر بأثر متوقع، ولاحق عليه وهكذا.

الاستقراء الناقص يسمح بالإضافة، بالتفاعل والتجاوز، وتكثيف العلاقات، بمفهومه العلمي، وربما كان مفهوم " القطْع الناقص ELLIPSE، بطابعه الكوكبي، ومساره غيرر المنتظم خطّياً، يوائم هذا التصور، وكما اشتغل عليه جاك دريدا بتركيز ( هنا أو هناك ، اكتشفنا الكتابة: تقاسماً بدون تناظر موضح، إغلاق الكتاب من جهةَ، وفتح النص من جهة أخرى ) " 2 ".

ذلك ما يصلنا بعمل الكتابة اليوم، وضمناً ما يأتي متعالقاً مع النص الإبداعي ضمناً، أي حين يصبح مفهوم " اللامكتمل " أو ما ينبغي إضافته، تعبيراً عن قابلية النص للاستمرار. وما كان لهذا النص أ، يفصح عن دوره، عن اسمه وخطورة مهمته، إلا لأن الواقع يصدم على مدار الساعة، بالنسبة إلى الباحث الكشّاف، والمبدع، والإبداع وليد المأساوي على مدار الساعة، كما لو أن كل جديد يُعَد لما هو مغاير، ومغاير لمفهومه، ومستجد، لما يكمّله، وهكذا دوليك، ومن هنا تتأسس فاعلية مفهوم " الكارثي " الذي يعتمَد عليه في تعرية الواقع، وبتعبير دريدا مجدداً، وهو يعاين هذا المكمل، وما يجعله مكمَّلاً بالتالي عليه واقعاً، أي ما يجعل القطع الناقص استيلادياً بلا هوادة ( لقد افتتحت الكارثة لعبة المكمل لأنها أقرَّت الاختلاف المحلي ) " 3 ".

كل كتابة مكاشِفة، إبداعية، تعيش وضعيتي الحِداد " الكارثة " وانبثاق الحياة: قيامتها طبعاً.

بعيداً عن التنظير، أو التجريد، توفّر قراءة كتابة نبيل سليمان في مجموعها: ما كان نقداً منها، وما كان رواية، مثل هذا الاستشراف على ما هو كوكبي، وما هو عصي على التحديد، دون بذل الجهد الذي تشترطه قراءة عمل لم يبصر النور إلا من خلال سبْر كوكبي.

إنها مسيرة حياة تلك التي يخلص لها، وينتقل من حلقة إلى أخرى فيها، ليكون الكثرة في واحد، يكون الناقد والمنقود، هو وما ليس هو، وبلسانه، حين يقول ( لست من الذين يتنكرون جزافاً لماض، ولا ممن يخشون أن يخفون نقلة أو تطوراً في الحياة الشخصية أو الفكرية أو في ممارسة القراءة والكتابة ) " 4 ".

نعم، ثمة ماض لنا جميعاً، بعد موشوري لنا، سوى أن الكاتب يبتكر ماضيه في كل عملية كتابة، إنه عرّابه ووهابه، دون ذلك كيف يمضي إليه قارئه، ويقيم علاقة معه، متفاعلاً معه ؟

بين " ينداح الطوفان " و" تاريخ العيون المطفأة " مسيرة نصف قرن، يعني متغيرات فلكية حصلت، أو هندسية الطابع، وشتان ما بين الزمن المحتسَب فنياً للرواية الأولى، والزمن المقدَّر بعلائقه، ودلالاته، للرواية الأخيرة حتى الآن. ففي مجتمعه الروائي، إن جاز التوصيف، يتراءى هو بالذات أجيالاً، أطيافاً، تنوعالت، كما هو مجتمعه السوري، لكنه واحد في الحالات كافة، مثقف الرؤية، والمؤرخ لها، لكنها العامل بلغة الفن، الذي يعد بما لا نهاية له.

وفي كارثية " ينداح الطوفان " حيث كانت الرقابة لها بالمرصاد، كانت كارثة مكانية، فجيعة الإنسان باسمه، بموقعة المواطنة، بما غيّب عنه من قبل أولي أمره، ولتتناسل الكوارث، وهي بمضمونها الفعلي ومن ثم المجازي، وما يتعرض له مجتمعه والجوار من تصدعات تترى.

يمكن لشهادات السنين، والتواريخ المسجَّلة أن تضيء ساحة القول هذا، حين نرى ( أن العقد الثامن من القرن العشريني المنصرم كان عاصفاً ومؤثراً بالنسبة للكاتب، سواء في تدشينه للكتابة عبرالرواية، وبدءاً من " ينداح الطوفان-1970 "، وما أثارته من ردود أفعال، ولاحقاً " السجن- 1972 "، و" ثلج- 1973 "، وخصوصاً فيما بعد مع " جرماتي 1977 "، وقد شب عن الطوق كثيراً باسم بات يُعرَف به، وسجلّ له، صار يكبر ويكبر ويزداد عدد صفحاته لدى أولى الأمر في دائرة الرقابة والمتابعين لما يُنشَر ويثار في الكتابة هنا وهناك ) " 5 " .

مجموعة أعماله الأخرى التي تبصم له بـ" العشرة " على مضاء عزيمته الإبداعية، تمضي بنا إلى متشعبات المواضيع، إنما وساعة المساحة الجغرافية ومؤثراتها، مع " المسلّة-1980 "، و" هزائم مبكّرة-1985 "، و" قيس يبكي-1988 "، وشقيقات أربع بذات الاسم الدال مع منطلق التسعينيات، في مدارات الشرق الملحمية الأثر : " الأشرعة "، و" بنات نعش"، و" التيجان " ، و" الشقائق " ، ما بين عامي 1990- 1993 "، و" أطياف العرش- 1995، و" مجاز العشق- "1998، " ...و" في غيابها- 2009 "، و" سمر الليالي- 2000"، " حجر السرائر-2010 "..و" مدائن الأرجوان – 2013 " ، و" جداريات الشام 2014 "، .. و" تاريخ العيون المطفأة- 2019 "، حيث يترافد الكتاب النقدي والروائي، وما بين هذا وذاك، نشاط أدبي أو نقدي، في محاضرات، أو ندوات، أو مؤتمرات، أو حوارات ثقافية، بحيث يسهل اعتباره جبهات مفتوحة، إنما بأسلحة تحيي هنا.

وربما كان الذي قاله بخصوص تداعيات " ينداح الطوفان " محفّزاً له، لأن يبقى بتلك الجاهزية الكاملة، جامح المتخيل، إذ يقول تجاه الموقف الرقابي منها( كانت تلك الخطوة الأولى مع الرقيب الاجتماعي الذييتذرع أحياناً بالقيم والأخلاق وبسواهما، ليفعل ما تفعله اليوم بعض المؤسسات الدينية أو القضائية أو الأمنية أو الإعلامية . ) " 6 ".

أي إن نبيل سليمان لم يسترح حتى في " اليوم السابع " وهو ما يبقيه مستثمراً كامل قواه النفسية والجسدية كذلك، موائماً فيما بينها، ليراهن دائماً على الآتي، حباً بما سبق، وتعميقاً لأثره .


في مفاتحة " ما ليس يكتمل ":

كما نوّهتُ، فإن في تيمة " ما ليس يكتمل " ما هو بمثابة إقرار واقع حال الكتاب التحفة، الكتاب الذي يشغل قارئه، كما شغل مؤلفه، وفي الشأن الروائي، لا تعود المساحة الواقعة بين دفَّتي الغلافين، هي حقيقة الرواية، إنما ما يجعل الكتابة عينها محيلة على اللامرئي، والذي يكون القارىء أو الناقد كشاف الأثر هو من يستطيع تفضية المقروء فيها، وفي الآن عينه، ما من شأنه مكاشفة ما كان الروائي يفكر فيه، أو استبقاه لديه، من إشارات، أو خربشات، أو جمل معينة، أو شطب، أو تغيير، جرّاء استنطاق المسطور، وتبيّن اللمسات الأولى، قبل ظهوراً عملاً مطبوعاً، وما يمكن لهذه القراءة أن تنبّه الروائي عينه، إلى ما كان يتفكره، وإبقاء خط الاتصال مفتوحاً.

في نجوى السجين، وبلسان الراوي، نقرأ ابتداء، ما يكون تجسيداً لكارثة( يا جبل المرام- إليك انشدَّت أبصارنا بأمراس المستقبل والعناد،- ولقد ربضت منذ أول التاريخ هنا،.... نتنت الأرض هنا،- استنقع الماء الراكد في أقدم مدن العالم...وتنمهد الدروب- وتورد الأيام- وتورد الأيام..) ثم مع بدء الرواية تالياً ( الأغنية ملء كيانه..هزته الرعشة عندما لمعت في خاطره صورة الأيام المورّدة، ورفع عينيه إلى الجبل الذي يسد منافذ الأفق الشرقي..جبل المرام !)"7".

تلك حالات السجين، أومن بين حالاته، حيث الجبل المعرَّف باسم " المرام " ومفارقة المعنى، حالات تشد القارئ إلى الداخل، أو تمارس تأثيرها البيني في مكونه النفسي، لينشغل بها.

هناك مدارات لمتخيل الكاتب، هناك حالات يعيشها الكاتب، لا يمكن أن تتطابق مع تلك التي يجري توصيفها في نسْج شخصية معينة، ذلك من البداهة، وإلا لتوقف العمل عن أن يكون فنياً، إنما ما يمكّن من اقتفاء أثر الكتابة، وكيف تنفتح قراءة الرواية هنا على تعددية قراءات.

كيف أن هذه القراءة تحفّز فيروح ناقدها على السؤال عما انشغل به الروائي بداية، وعما تفكَّره لحظة الانتهاء من روايته، وحتى حين أبصرها كتاباً مطبوعاً، وخاصية التردد لديه.

في مقال له حول هذه النقطة " الكتابة غير المكتملة " يتوسع ليبراف في المفهوم، فيستهل المقال قائلاً ( من السهل وضع فهرس للأعمال غير المكتملة ، حيث تبدو الفكرة للوهلة الأولى بسيطة وفورية وغير إشكالية. )، ويأتي على ذكر أمثلة كثيرة، ومن ذلك، كافكا، كما في قوله ( أما بالنسبة لروايات كافكا ، فنحن نعرف تناقض الوصية التي وجهها إلى صديقه ماكس برود:

من بين كل ما كتبته ، ستحسب الكتب فقط: الحكم ، والسائق ، والتحول ، ومستعمرة السجون ، وطبيب الريف ، وقصة بطل الصيام [...] من ناحية أخرى ، كل ما لدي كتب أخرى (في شكل مقالات في مجلات أو مخطوطات أو رسائل) [...] كل هذا دون استثناء ، ويفضل دون أن يُقرأ كل ذلك (لا أمنعكم ، ألق نظرة عليها ، لكنني أفضل ألا تفعل ذلك ، وعلى أي حال: لا أحد غيرك يفعل!) ، كل هذا بدون استثناء ، يجب أن يحرق ، وأنا أسألك للقيام بذلك في أسرع وقت ممكن.) " 8 ".

إنها حالة عدم الرضا عن الكتابة بالذات، عن فورة القلق النفسي، وزخم المعيش اليومي بالمقابل، ومعايشة ذلك الصراع المتعلق بخيارات تتنافس فيما بينها، ليكون أحدها متقدماً على البقية. رغم أن ليبراف، يورد مواقف أخرى تقف على النقيض من ذلك، أي اعتبار كل عمل مطبوع في طوع المكتمل، وهو عائد إلى طبيعة التقدير للوضع بالذات .

ذلك يذكّر بما انشغل عليه روجيه غرينيه 1917-2017 "، وكان عضواً في لجنة القراءة لدى دار " غاليمار " الفرنسية الذائعوة الصيت، وذلك في مقال له، بالاسم نفسه " اللامكتمل "، ومن خلال مكاشفته لأعمال كثيرة ولها موقعها الفني اللافت عالمياً، لكل من كافكا، بروست، أنطون تشيخوف، وهنري ميشو..الخ، مفتتحاً مقاله هذا بعبارة صادمة ( الموت والطيش يقوداننا حكماً إلى عدم الانتهاء ..) " 9 " .

في ضوء ذلك، ثمة قابلية لقراءة متعددة المعاني، وتبعاً لثقافة القارىء، وأهمية المقروء، ولكن نصاً عميق الأثر، يلغي حدوداً، ويترجم الشخصية المفهومية: الفنية لكاتبه، بوصفها فاعلة .

نبيل سليمان، من الصعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً، إحصاء ميتاته وحيواته، أو انبعاثاته، من خلال رواياته، حيث الأحداث تفرض نفسها، وبشكل طاغ، وتبرز الكتابة حدثاً في مواجهة حدث، إنما بالصيغة التي يفرّغه الروائي من الداخل، ليستنطق المغيَّب، أو المصمَت فيه.

لا إمكانية لمكاشفة ما وراء منطوقه، سوى أنه في مقدور قارئه، في مستطاع ناقده، أن يعاين فيه حالة الفينيكسية " طائر الفينيكس " التي يعيش أطوارها، لتلتقي داخله أعماله مجتمعة، وما فيها من زخم. ليكون اللامكتمل الإيفاء بالوعد الذي لا يكف عن الحضور، خلاف " في انتظار غودو " بيكيت، إنه وعد الكاتب وهو يستشرف الجاري، وهو ينصهر بانفجاراته، وهو يتنقل هنا وهناك، غير عابىء بالحواجز، أو إمكان التعرض للمخاطر، كما تشهد لسعة كتابته.

إنه زمن نبيل سليمان الذي يعيشه في انفلاتات مواقعه، وهستيريا حملة ساعاته الانضباطية، فلا تكون الحياة منتهية على يديه، لأن يديه منخرطتان في توليد أجنة الكتابة المنتظرة، وخاصة مع بدء انفجار الأزمة السورية " 2011 " وهو بالمرصاد لما يحدث، وعلى طريقته من الداخل.

رواياته تؤرخ للعنف الأهلي، الأخوي، المجتمعي، وتشير إلى استحالة الحياة بالطريقة هذه.

عما قبل أكثر من قرن، كان تمثيل هذه الواقعة، في حرب عالمية ضروس، ومن داخل الشام طبعاً، وما لهذا التعبير من إسقاطات، لا بل ومن نفخ في صور إسرافيل الفني، وهو ما وقع فيما بعد، بأقل من عقدين من الزمن ( في واحدة من وكنات الجبل المصابر العاري تململ الحجر الذي هشم به الشقيق رأس شقيقه. ود الدم لو يقدر أن يسيح، وأنَّت الشام من أقصاها إلى أقصاها، تلاقي شمسها على وهن ) " 10 ".

هذا الدم الذي لم يتوقف عن النزف، الدم المراق في جهات شتى، حيث " فيلو الدم: حب الدم، شغفه " يسهل مكاشفة مدى الرهان عليه، في حمّى انتثاره سورياً.

ونبيل سليمان، ينتل من لامكتمل إلى مكتمل، تعبيراً عما يستحيل توقعه وهو مرعب .

إنه داخل في صُلب الأحداث، كما هو ملاحَظ، وبرعب سافر، في " جداريات الشام- نمنموما " العمل الملحمي من نوع خاص، وفيه من التأريخ الكثير، ومن سينرة الجاري الكثير، ومن الطابع التسجيلي الكثير بالمقابل، كما في هذا المشهد الحواري :

(..- اسمع يا أستاذ صباح: صحيح أنا صهرك، ولكنك لا تعرفني جيداً. هذه المرة سأكلمك بالعربي الفصيح. أنت سنّي وأنا علوي، ولولاك ما كان أهلك أعطوني جهيدة. أنت معارض وأنا مؤيد. ماشي الحال. نصف مصيبة. أما نبيل سليمان ومنذر خدام، فمنا وفينا. بيانات ومؤتمرات ومعارضة، لا يا أستاذ، ما ماشي الحال . ممنوع. ستقول لي: ممنوع على الجميع. صحيح، ولكن على جماعتنا بشكل خاص ممنوع وألف ممنوع .

- ما أعرفه أن الرجلين يقولان إنهما من منبت علوي، ولكنهما لا يعدّان نفسيهما علويين. الرجلان ضد الطائفية، علمانيان .

- هذا الكلام لا يقدم ولا يؤخر. كان يجب أن يعاقبا، وها قد عاقبناهما . أما أنت فلم يأت دورك، وأرجو ألا يأتي، وألا يكون على يدي .

- يا صهري العزيز: أنا لا أحب منذر خدام ولا كتاباته، وليس بيني وبينه حتى كلمة مرحبا. ولا أحب نبيل سليمان ولا رواياته، وليس بيني وبينه حتى كلمة مرحبا. بكرة يفلقنا برواية عن اعتدائكم على بيته، ولكن هذا التشبيح على الناس آخرته خراب البلد، وستنالون جزاءكم في الدنيا وفي الآخرة. سلّم على جهيدة والأولاد ..) " 11 " .

ثمة تسمية لأشخاص، لأمكنة، لما يمكن تحري أصوله كثيراً، في تعقّب خيوط الدم المتفجر.

نبيل سليمان، خبير شوارع البلد، مجتمعه، أهله، أناسه، من يعرفهم عن قرب، في اختلافاتهم الطائفية والمذهبية، والطبقية، والاجتماعية...الخ، والشارع مهماز تاريخي طاعن الذاكرة:

(دائماً للشارع لغته أو لغاته، للشارع دائماً مصطلحاته وصياغاته، ولكن هذا لا يعفينا ولا يعفي أمثالنا من أن يبحثوا أو يفكروا ويكتبوا، وإلا كيف يمكن أن يصاغ الوعي الجديد ؟ ما رأيك لو صارحتك بأن واحدة من مصائب هذه الانتفاضة هو أنها بلا مفكرين ؟ بلا فكر؟ صحيح أن لها إعلاماً هائلاً وصحافيين كثيرين لكن ذلك يبقى يومياً وعابراً. هذا النقاد التيلفزيوني هو غوغائية، غوغائية مؤيدة أو معارضة، وهؤلاء العباقرة الذين ملأوا الشاشات بالتفتفة الفكرية كما ملأوها بتفتفات لعابهم، غوغائيون، معارضين كانوا أم موالين .) " 12 ".

الشام بطابعها الاسمي المعروف، جدران ملغومة، وجدارايات تحمل صوراً، شعارات، أسماء، علامات، وهي لا تنبىء بخير، جداريات تثقِل كاهل الأرض بالذات، و(ثمة واجهة معرَضية لعنوان الرواية، بما أن الجدارية تنتقل بنا من نطاق نصي، لغوي، إلى مضمار المرئي والمتخذ أبعاداً طبوغرافية وعلى الأرض، ويشغل مساحة ضوئية وفضائية.

الجدارية أكثر من الجدار، بالعكس، ربما تكون تلك رثاء لهذه، لأن الـ " هذه " في وضعية تثكُّل أو ترمُّل مكانية، إن جاز التعبير، أي مشهود له بالتداعي، وفقدان علاماته الفارقة: كونه جداراً!

نحن إزاء مفهوم جمعي للحدث الجدارياتي، استناداً إلى الكلمة البداية " جداريات "، حيث إنها في صيغتها تتجاوز خاصية المفرد رغم أن المفرد " جدارية " له حضوره اللافت على مستوى البلاغة المكانية وتعدي المكان، بما أن الجدارية ضرب نافذ من طي النسيان، وفعل تأميم لأبدية تنفتح على ما كان، بمثابة ذاكرة هي شاهدة عيان على وضع مأسوي مهدّد للذاكرة، الجدارية فعل إحياء على صعيد المودَع في الجدارية، وجعْل اللحظة التي شهدت وقوع كارثة، نكبة، مأساة خراب أو دمار في موقع أو مجتمع ما، هو مجتمعها الحي بنسبة ما: بشراً وسواهم وما هم عليه قاعدياً، بمثابة جرس إنذار لزمن مستمر، محرَّر من تقطيعاته الزمنية، ليكون لنا أرشيف مقاوِم للفناء، بل واستدعاء لسببه، واستئناس به في بعض الحالات...) " 13 ".

ذلك ما يمكن ملامسته، الاكتواء بناره الحارقة المحرقة، بفيض عنفه تالياً، وبمثل هذه المصارحة، حين يتخذ من مدينة الرقة المنفجرة من الداخل، والمنكوبة، نموذج كتابة روائية عن هذا العنف بطبعته السورية وأبعد (لم يبق في الرقة كردي، لم يبق في الرقة مسيحي ولا علوي، ولا درزي ولا.... العربي يفر والسني يفر ومن لجأوا إليها فروا منها... رقتك صارت ملعباً لمن يلعب من مشارق الأرض ومغاربها..) " 14 "

لتأتي روايته " تاريخ العيون المطفأة " ممثّلة ذروة العنف، حيث الانهيار الكامل أو شبه الكامل، حيث الحياة لا تعود حياة، فلا أحد يرى الآخر، في بلاد فقدت حتى شرف الاسم بالذات (بلاد بر شمس، كمبا، قمّورين ) " 15 ".

هذا التحول في الاسم سحب لمصداقية الاسم المتعارف عليه، انخساف الحياة داخلاً، وهي طور جديد من قبَل الروائي، ومصارحة من لدنه، بهول الجاري سورياً. لماذا؟( فهي البلاد التي انقلب فيها الأخ على أخيه، والابن على أبيه، والحفيد على جده .) . و( عمى يولّد عمى...ثم: القضاء، اقتصاد الشفط واللهط، المراكز الأمنية التي يصح أن يقال فيها: الوباء الأمني؟ وماذا عن وباء الفساد؟ ماذا عن وباء هؤلاء الذين نصَّبوا أنفسهم ناطقين باسم الله من أي دين كانوا ؟) " 16 ".

ونبيل سليمان رغم كل هذا الطوفان الكارثي، وهو يعيش انفجارات المنطقة، والبلد من جهة، وما في ذلك من رعب المتحصّل، يعيش عالمه الذي يتطلبه، من ضبط للروح، لتتمكن من التأريخ لتلك التفاصيل الدقيقة التي توجز العنف الدامي وغير المسبوق، من جهة أخرى.

وهو بذلك، يذكّر، بما أفصح عنه أحد الكتاب في سيرورة لا تنقطع (أستمتع بشكل مستمر ، بلا نهاية ، بدون مصطلح ، بالكتابة كإنتاج دائم ، تشتت غير مشروط ، طاقة إغواء لا يمكن لأي دفاع قانوني عن الموضوع الذي ألقي به على الصفحة إيقافه.) " 17 ".

إنها متعة من نوع خاص، لا يشعر بها، كما لا يعيشها، إلا من أوتي إرادة مكاشفة خاصة، لرعب استثنائي خاص، ليكون له كل هذا الحضور الإبداعي الخاص.

تُرى، ما الذي سيأتي به في عداد اللامكتمل، والذي ينفتح على تعددية قراءات، أي إشراقات؟

أي ما يمنَح أثره، أبدية معزَّزة، وهو في عمره المجاور للثمانين، ولم يسأم بعد إطلاقاً !


إشارات:

1-رسائل مارسيل بروست، ترجمة: ربيع صالح، دار الرافدين،بيروت، ط1، 2019، ص 333.

2-دريدا، جاك: القطع الناقص، النقل عن الفرنسية: إبراهيم محمود، موقع الأنطولوجيا الالكتروني، 2 آب 2020 .

3-دريدا، جاك: في علم الكتابة، ترجمة وتقديم: أنور مغيث- منى طلبة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة،2005، ص 472 .

4- سليمان، نبيل : سيرة القارىء، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 1996، ص 5 .

5-محمود، إبراهيم: الصائد الخفي " جدل الصامت في حوارات نبيل سليمان "، دار الحوار،ط1، 2010، ص70.

6-سليمان، نبيل : شهادات وحوارات، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 1995، ص264 .

7- سليمان، نبيل: السجن، دار الفارابي، بيروت، ط3، 1982، ص 8، الطبعة الأولى 1972.

8- Lebrave, Jean-Louis : L’écriture inachevée, books.openedition.org

ليبراف، جان لويس:الكتابة غير المكتملة.

9-غرينيه، روجيه: قصر الكتب، ترجمة: زياد خاشوق، دار المدى،بغداد، ط1، 2018، ص117.

10- سليمان، نبيل: مدارات الشرق،1-الأشرعة، دارالحوار، اللاذقية، ط2، 1994، ص 7 .

11- سليمان، نبيل : جداريات الشام، نمنموما، دار الصدى، دبي، 2014،ص 224.

12- المصدر، ص 249 .

13- محمود، إبراهيم: ، تفكك العالم.. جنون النص " دراسة خرائطية في روايتيْ" مدائن الأرجوان- جداريات الشام : نمنوما " لنبيل سليمان "، موقع أمازون الالكتروني العالمي .

14- سليمان، نبيل: ليل العالم، كتاب مجلة " دبي الثقافية "، الإمارات العربية المتحدة، ط1، يناير2016، ص 438 .

15- سليمان، نبيل: " تاريخ العيون المطفأة " دار مسكلياني " تونس، 2019 "، ص 7 ، وهي في " 340 صفحة ونيّف ".

16- المصدر نفسه، ص 11- 307 .

17-Fenoglio, Irène: Du texte avant le texte. Formes génétiques et marques énonciatives de pré-visions textualisantes, Dans Langue française 2007/3 (n° 155), pages 8 à 34.

فينوجليو، ايرين: نص قبل النص. الأشكال الجينية والعلامات المنطوقة للتنبؤات النصية، في مجلة اللغة الفرنسية، 2007، 2.


* ملاحظة: إبراهيم محمود: باحث ومفكر كردي سوري، له أكثر من 200 كتاب مطبوع ورقي والكتروني، وفي مجالات بحثية وفكرية ونقدية مختلفة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى