رسالة من عبد الإله الصائغ الى البروفسور د. فريال غزول

سيدتي البروفسورة فريال غزول
اسمحي لي هذه المرة فقط ان انافسك في المشترك المقدس بينك وبين استاذك وزميلك المفكر العالمي ادورد سعيد !! واقسم انك الآن تنتحبين رغم انك غادرت الوطن منذ السبعينات ونسيت طقوس البكاء والنحيب على الموتى ! ولكن ادورد ليس رقما في الموتى ! تماما كما انه لم يكن طيلة عمره الحافل رقماً في الأحياء !! لا تكابري سيدتي اني اسمعك تنتحبين ! فمن يعرفه اكثر من فريال ؟ ومن سيفتقده أشد من فريال ؟ ومن أحق بإرثه اكثر من فريال ؟ ومن المعول عليه ان يواصل مشواره الحضاري غير فريال !! . اقدم لك يا استاذتي نفسي : انا عبد الإله النجفي كما كنت تحبين ان اخزن في ذاكرتك العجيبة ! التقيتك في قصرك العامر في الموصل وقد عدت للتو من مغتربك وحجزت تذكرة عودة خلال عشرين يوما فجامعتك عزَّ عليها ان تحرم من علمك لشهر كامل ! وقصرك المهجور لم يكن ينوء من عبء سوى عبء الكتب والمجلات بعدة لغات ! كان ذلك في صيف 1984 وكنت قد كلفت بمناقشة اطروحة صديقي وتِرْبِي الشاعر المهم ذنون يونس الأطرقجي ! رئيس اتحاد ادباء العراق فرع الموصل وأحد ابطال رواية مائدة لأعشاب البحر !! ومن جمائله الكثيرة علي انه شرفني بالتعرف على مقامك الرفيع والله اعلم كم بذل من الجهد لكي يقتطع لي وقتا في اجندتك المزدحمة بالمواعيد التي لا تحتمل التأجيل !! كنت قبل ان اراك عيانا اقرأ لك بنهم واحتفظ بأرشيف غني لجهودك في علم الحضارة المقارن!

دفاعك في المجال الأممي عن حقوق المعذبين في الأرض وبخاصة الشعوب العربية !! وكنت مغضوبا عليك في اكثر الأرض الشرقأوسطية ومنها العراق !! . لعلك الآن استعدت صورتي !!

لا بأس سيدتي : هل نبكي ادورد سعيد ؟ نقيم له مجالس العزاء ؟ ننشر مراثينا في وسائط الإعلام ؟ نعيد طباعة اطروحاته الكبرى من نحو كتابه ( الأستشراق ) ؟ نعنى بعياله مثلا ؟ نوصي بصناعة تماثيل له في وطنه فلسطين وبعض الدول العربية والجامعات ؟؟؟

اعلم مستوى تفكيرك الرفيع ولهذا فانا اتوقع ان ترفضي اسئلتي !! فهي زوبعة في فنجان حزني المجنون عليه !! نعم نعم فالبكاء هو شهادة وفاة للمبكي عليه ! وكيف يموت ادورد بالله عليك وقد اختط لنا مع نظرائه : علي الوردي ومالك بن نبي وعبدالله العروي وكامل مصطفى الشيبي وقيس النوري ....... سبيلا لاحبا نحو جلجلة حوار الحضارات !! بعيدا عن القعقعة القومية والحشرجة الطائفية !! لقد امضى ادورد سعيد السنوات الأخيرة وهو ينازع السرطان وحيدا إلا من حبنا نحن الذين انعم الله علينا فوهبنا سانحة معاصرة ادورد سعيد وعلي الوردي وكامل الشيـبي وقيس النوري وعبدالله العروي ومصطفى جواد وعبد الحق فاضل وابراهيم حرج وعلي الطاهر وعماد عبد السلام وصلاح خالص ومحمد مهدي المخزومي وجليل كمال الدين ومحمد حسين الأعرجي ! سانحة ان تولد في زمن العباقرة لا تقدر بثمن !! ولسوف اشرِّح اطروحات ادورد سعيد في قابل عمري فهي والله بلسم ناجع لنا نحن العراقيين للخروج من مازق الناعور أي الدوران حول قطب الذات الذي ابتلي به بعضٌ مؤثِّرٌ من كتابنا وذوي القرار بيننا ! الغائب الحاضر ادورد سعيد دعا الى الحوار الهاديء بين الخطوط المتوازية والمتقاطعة !! وكان جل همه منصبا على حوار الخطوط المتوازية بسباحة ضد المنطق الرياضي بأن الخطين المتوازيين لن يلتقيا مهما امتدا !! ولأنهما لن يلتقيا فإن ادورد سعيد ابتكر صلة اللا صلة !!وقواسم اللا قواسم فدعا الى حوار هاديء هادف بين الخطوط المتوازية على سبيل تبادل الخبرات والأشتراك في ملكية المكان ( الكرة الأرضية ) اما الخطوط المتقاطعة فقد وضع لها دستورا ارسطيا قائما على ان الحقيقة ليست متحققة على ارض الواقع !! مثلها مثل الغول او طير السعد او مصباح علاء الدين !! واذا فرضنا تحققها جدلا فذلك يعني انها مشاعة مثل الهواء ولا يحق لأي منا الإستئثار بها وحرمان الآخر منها !! ولم يفت هذا الأدورد السعيد التوكيد على ان الحقيقة الوحيدة المتحققة هي الذات العليا ( الله ) والله ليس حكرا لأحد حتى لو كان حاكما او رجل دين !! الله للجميع والجميع لله ! ولقد نال ادورد بسبب اطروحاته التنويرية عنتا من الحكام العرب والمعسكر الرجعي المتزمت الذي يمتد على الشارع العربي و تلبث طويلا عند مفردات الحياة للعرب وشركائهم في الوطن من بربر وكورد وكلدان ووسائل احترمهم قبل ان نطلب من اسرائيل ان تحترمنا ..... الخ

ولعل الطعنات الأشد تلقاها من قوى فلسطينية متحجرة اتهمته بسبب جهلها وضيق افقها وقلة ادبها بعلاقات مشبوهة ظلامية مع المخابرات الأمريكية والموساد !! وبلغ الصلف بالتيارات القومية والدينية المتشددة والطائفية العمياء والغوغائية المسلفنة الى ارسال التهديدات الى عقر داره وهو ينازع السرطان الرائع الذي انقذه من ظلم شعب اهدر علمه وعمره وثراءه بل ودمه من اجله فلم يجد الا اقل القليل ممن يعرف فضله ويضغط على ورقته !! والمفاجأة ان الناطقين بالفرنسية والأسبانية والأنجليزية بدرجة اقل !! اولئك الذين اقلق قناعاتهم وخض فيهم شجرة الإنغلاق على الحضارات الأخرى !! هؤلاء حق لهم ان يحاربوه ويسحبوا منه جنسيته وجواز سفره الدبلوماسي !! ويتصدوا الى رزقه !!هؤلاء الغرباء يدرسون اطروحاته بتفهم كبير في الحوار الحضاري بجامعاتهم ويناقشونها غالبا في اجهزة الإعلام ويتبنون طبع كتبه على نفقة الشركات الناشرة العملاقة ! بل وقد نهد البروفسور ديفد الفنسون لنشر اعلانات في الصحف والتلفاز والإنترنت من اجل حملة اممية تسعى الى جمع التراث الفكري لأدورد سعيد المبثوث في صحفٍ بعضُها محلي محدود التوزيع والآخر كتب بلغات غير شائعة !! فمن منا اقترب من ادورد سعيد ؟ من منا تتلمذ عليه ولو بالقراءة ؟ ونحن الذين نكتب هنا وهناك ونشعل الحرائق والمعارك بغطرسة لا مثيل لها حتى في موروثناالأبيض و الأسود والرمادي !! ان الحاجة قائمة لمد خراطيم رحيمة الى عقول بعضنا كي نضخ فيها بشارات ادورد سعيد ولا عيب ان نتلقى العلم كبارا ولكن العيب كل العيب ان لا ندري ولا ندري اننا لا ندري !! واكرر القول انني سأغتنم اي سانحة لكي اضع تراث فقيدنا العظيم بين اعين زملائي من الكتاب !! بل واضعها بين عيني انا قبلهم !! فأنا اكثر الزملاء حاجة لحضارة ادورد سعيد فهو اب لكل ظاميء لفرات المعرفة السلسبيل فليساعدني الرب آمين .

عبد الإله الصائغ / مشيغن المحروسة 25 سبتمبر 2003

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى