رسالة من كارل ماركس (الشاب) إلى والده.

برلين، 10 نوفمبر (1837).
والدي العزيز
هناك لحظات في الحياة تكشف عن نفسها وكأنها مفرزات مراقبة على الحدود، وهي توسم انتهاء مرحلة بكاملها، لكنها تشير، في ذات الوقت، إلى توجّه جديد.
في لحظة أنتقال كهذه، نشعر بأننا مرغمين على النظر إلى الماضي والحاضر بعين فكرية واحدة، ومن ثم نعود إلى إدراك وضعنا الحاليّ…
عندما غادرتك، انفتح عالم جديد أمامي، عالم الحب الذي كان، في البدء، عالم من الحنين وخالياً من الأمل. فحتى الرحلة إلى برلين… أحبطتني بعمق، فالصخور التي رأيتها لم تكن أكثر قسوة وخشونة من إحساسي بروحي؛ ولا المدن الصاخبة أكثر من صخب دمائي، ولم تكن أيضاً موائد المضيفين مثقلة بالأغذية العسيرة الهضم من محتويات مخيلتيّ، وباختصار، الفن ليس أكثر جمالاً من “جيّني” Jenny.
حينما وصلت إلى برلين، حطمت كلّ الروابط القائمة، ومن ثم قمت ببعض الزيارات القليلة والمفروضة، وبالتالي قررت الانغمار في دراسات من أجل التعلم والفن.
في حالتي الذهنية تلك، أصبح الشعر الغنائي بالضرورة مشغلتي الأولى، وهي، في مطلق الأحوال، مشغلة لطيفة وعميقة؛ بيد أن وضعي وكل تطوري السابق جعل من ذلك الشعر شعراً مثالياً. لقد أصبح حبي، القائم أبعد من أي شيء آخر، سمائي، فني. كل ما هو واقعي غدا مضبباً، وكلّ ما هو مضبب بلا حدود. هجومات ضارية على الحاضر، مشاعر غامضة ولا شكل لها، لا شيء طبيعيّ، كل شيء مصنوعاً من اللون الأزرق، كل شيء نقيض لما ينبغي أن يكون عليه، تأملات بلاغية بدلاً من الفكرة الشعرية – لكن ربما هناك أيضاً نوعٌ من العاطفة الدافئة وحركة في صراع: تلك هي خصوصية الأشعار في المجلدات الثلاثة الأولى التي كتبتها وبعثت بها إلى “جيّني”…
لكن الشعر يمكنه، بل ينبغي أن يكون إيحائياً. يتحتم عليَّ دراسة القوانين التشريعية، وفوق كل هذا أشعر بضرورة الصراع مع الفلسفة. كلاهما أصبح متداخلاً بالآخر بالنسبة لي، لذا أقوم بقراء “هاينكيسيوس” Heineccius، “تيبو” Thibaut والمصادر المدرسية التي أقرأها بلا أيّ نقد. وهكذا، قمت مثلاً بترجمة مجموعة قوانين إلى الألمانية، وهي محاولة للأشتغال على فلسفة القانون عبر دراسة القانون ذاته. لقد حدّدت بعض الفرضيات الميتافيزيقية لكي أستخدمها كمدخل، ومن ثم تطوير ذلك العمل السقيم حتى الوصول به إلى موضوع القانون العام، والذي أخذ مني ثلاثمائة صفحة تقريباً.
عبر ذلك العمل، برز أمامي الصراع بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون بصورة مزعجة. وقد أدى ذلك الصراع، الخاص بالمثالية، في البدء، إلى ظهور اليأس اللاحق من إمكانية وضع تصنيف دقيق. وأول ما تولد عن ذلك هو ما أسميته بمجانية ميتافيزيقيا القانون، أيّ المبادىء، التأملات، والمفاهيم الجذرية – والتي لا تتضمن جميعها على قانون واحد حاليّ، ولا على أيّ شكل من أشكال القانون، كما هي في كتابات “فيشتة” Fichte، مع فارق أن معالجتي لها أكثر عصرية وأقل واقعية. هنا، يكون الشكل اللاعلمي للدوغماتية الرياضية – حيث تدور الذوات من حول الموضوع، وتتناقش هنا وهناك، فيما لم يبزع أبداً الموضوع ذاته باعتباره شيئاً ثرياً في محتواه، وبالتالي تحول الشيء الحيّ، منذ البداية، إلى عائق في وجه فهم الحقيقة.
إن طبيعة المثلث تسمح للرياضي بمعاملتها والبرهنة على أنها ليست سوى فكرة محضة عن المجال، ولا تنطوي على أيّ تطوير آخر. فقط حينما يوضع المثلث خلف شيء آخر يكون منطوياً على مواقف مختلفة؛ أيْ أن المثلث، بما ينطوي عليه من خصائص علائقية وحقائق مختلفة، لا ينتج إلاّ عندما تجري مقارنة شكلين فيما بينهما. لكن ما أن نُعبر عن العالم الحيّ للفكر، فكرة القانون، فكرة الدولة، الطبيعة، والفلسفة ككلية، حتى يدخل ذلك في تعارض معها، لذا ينبغي علينا مراقبة الموضوع في كل تطوراته، ولا يمكننا أن نقحم عليه تصنيفات إعتباطية. فما هو عقلاني في الشيء ذاته ينبغي أن يظهر أمامنا بكل تناقضاته، ومن ثم سيعثر، في النهاية، على وحدته الداخلية.
فيما يتعلّق بالجزء الثاني من مخطوطتي، جاءت فلسفة القانون في المرتبة الثانية، أيّ كان عليها، وكما فكرت فيها في حينه، أن تكون دراسة لتطور الأفكار كما وردت في القانون الروماني الوضعانيّ، باعتبارها تطوراً للأفكار الوضعانية (لا أعني في أبعادها الخالصة النهائية) التي يمكنها أن تكون أيّ شيء آخر غير بنية لمفهوم القانون، والتي افترضت بأني قمت بمعالجتها في الجزء الأول.
في قمة ذلك، كنت قد قسمت هذا الجزء ما بين النظرية الشكلية للقانون وعقيدة القانون المادية. إن مهمة الأول هي توصيف الشكل المحض للمنظومة pure form of system، تنظيمة وترابطه الداخلي، وكذلك تصنيفه وسعته. أمّا الآخر، من ناحية ثانية، فكان مكرساً من أجل وصف محتواه، كثافة الشكل في المحتوى the condensation of the form into content. كان ذلك خطأ وقعت فيه كما وقع فيه السيد “فون سيفيني” Herr von Savigny، حينما اكتشفت ذلك أثناء قراءتي لعمله المدرسيّ المتوفر، لكن فيما يتحدث هو عن التحديد الشكليّ للمفاهيم، التي “عثرت عل مكانها في هذه النظرية أو تلك في (المنظومة) الرومانية” ومادة المفاهيم باعتبارها نظرية “للوضعانيّ الذي يربطه الرومان بالمفهوم المؤسس بتلك الطريقة”. أعني بشكل الضرورة المعمارية لصياغات المفهوم وبالمادة الكيفية الضرورية لتلك الصياغات. يكمنُ خطئي في اعتقادي بأنه بمقدور المرء، بل وحتى يجب عليه، تطوير أحد الجانبين بمعزل عن الجانب الآخر، وبالتالي لم أقدم شكلاً عبقرياً، وإنما طاولة كتابة بعدد من الأدراج التي ذريتها فيما بعد مع الرمال.
المفهوم هو، في النهاية، التوسط بين الشكل والمحتوى. ومن ثم، عند النقاش الفلسفي للقانون، ينبغي أن يتولد الواحد عن الآخر، ذلك لأنه لا يمكن للشكل أن يكون أيّ شيء آخر سوى استمرارية للمحتوى…
وحينما انتهيتُ من مناقشة الجانب الماديّ للقانون الخاص، لمحتُ زيف الحصيلة التي بقيت بنيتها الجذرية عند حدود الفلسفة الكانطية، بالرغم من أنها انطلقت بعيداً عن كانط فيما يتعلق بإجرائها. لذلك أصبح من الواضح لديّ بأني لا أستطيع التقدم أكثر من دون فلسفة ما. وهكذا كان بمقدوري ثانية إلقاء نفسي، وبوعي جيد، بين ذراعي الفلسفة، كما قمتُ بكتابة منظومة ميتافيزيقية جذرية جديدة. لكن، عندما وصلت إلى النهاية، أدركتُ ثانية تفاهتها وتفاهة كلّ محاولاتي السابقة.
في مجرى هذا العمل، اكتسبتُ عادة الاقتباس من جميع الكتب التي قرأتها، من “ليسنغ” Lessing Laocoön، ومن Solger’s Erwin، ومن “تاريخ الفن” لفنكلمان Winckelmann، وكذلك “التاريخ الألماني” للودن Luden. وعلى هامش ذلك، خربشتُ بعض الأفكار. وفي ذات الوقت، قمتُ بترجمة “جرمانيا” لتاستيوس Tacitus’s Germania، ولأوفيد Tristuim Libri. بعد ذلك، شرعت وحدي، ولكن بالإعتماد على البعض من كتب النحو، بتعلم اللغة الأنكليزية والأيطالية، لكني لم أحقق أيّ شيء يذكر على هذا الصعيد. قرأت كتاب “كلاين” Klein عن قانون الجريمة ولواحقه، والعديد من الأعمال الأدبية الأكثر عصرية، بيد أني قرأتها بشكل عابر.
في نهاية الموسم، عاودني ثانية الحنين لرقص آلهات الفنون Muses وموسيقى السّاطير Satyer (إله الغابات، عند الإغريق، الولع بالشبق والعشق الشهوانيّ. م.م). في دفتر الملاحظات الأخير، الذي بعثته لك، تكشف المثالية عن نفسها بمزاجها القويّ (Scorpio and Felix)، في دراما فنطازية فاشلة (Oulanem)، إلى أن تأخذ في النهاية توجه مختلف تماماً وتتحول إلى فن شكليّ محض purely formal art، في الجانب الكبير منها ومن دون الإيحاء بأي موضوع ولا تنبثق عنها أيّة فكرة.
على أيّ حال، كانت تلك القصائد الأخيرة هي الوحيدة التي توقدت عبرها مملكة الشعر الحقيقيّ بغتة أمامي وكأنها قصر جميل قائم على مسافة مني، أو كأنها عصا الساحر بتموجها –المفاجئة كانت قد انتشرت منذ البدء- وبالتالي انهارات كل إبداعاتي وصارت لا شيء.
جعلتني تلك الانشغالات المختلفة يقظاً ليالي عديدة من الموسم الدراسي الأول؛ ومن ثم عشت الكثير من الصراعات واختبرتها بطريقة أكبر إثارة من الداخل والخارج. ومع ذلك، لم أجد، في النهاية، ذهني وقد اغتنى أكثر عبر إهمالي للطبيعة، الفن والعالم حيث ابتعدتُ عن أصدقائي. كذلك وصل جسدي إلى النتيجة التالية: حثني الطبيب على قضاء بعض الوقت في الريف، وهكذا قطعت الجانب الأكبر من مدينة كبيرة ومضيت عبر بوابة “شرالو” Shralow…
وهكذا هبطت الستارة وتلاشى قديس قدسيّ، ومن ثم لا بدّ ليّ من البحث عن آلهة جديدة.
انطلقت من المثالية – التي قارنتها وغذيتها، أثناء مروري، بكانط وفيشتة - وفي النهاية وصلت إلى نقطة البحث عن الفكرة في الواقع نفسه. وإذا كانت الآلهة تقطن في السابق فوق العالم، ها أنها أصبحت مركزاً له.
لقد قرأت مقاطع من فلسفة هيغل ووجدتُ غنائيتها المتحجرة والخشنة غير متجانسة. لكني كنتُ أرغب في الغوص أعمق في هذا المحيط، وذلك ضمن النية الخاصة بالعثور على عقلنا الطبيعي، باعتباره ضرورة ملموسة ومقامة بصورة صلبة كما هي طبيعتنا الفيزيائية…
كتبتُ محاورة من أربعة وعشرين صفحة، تحت عنوان “كلينتس” Cleanthes أو نقطة انطلاق وضرورة تقدم الفلسفة”. هنا، جمعتُ، إلى حد ما، بين العلم والفن، المتباعدين كثيراً عن بعضهما. الآن، وقد أصبحت متجولاً نشطاً، شرعتُ بالعمل نفسه، أيّ وضع ديالكتيك فلسفي ما بين الله كمفهوم بحد ذاته، كدين، كطبيعة وتاريخ. لقد كان حكمي النهائيّ بمثابة البداية في منظومة هيغل وبأن تلك المهمة – الذي يقتضي الاستعداد لها أن أكون قد تعرفت على جانب معين من العلم الطبيعي، وكذلك شيلنغ والتاريخ، والمكتوبة (ما دام الأمر يتعلق بوضع منطق جديد) بطريقة ملتبسة، سببت لي الصداع لأكثر من مرة، وفي النتيجة لم أعرف رأسها من ذيلها – أن ولدي العزيز هذا، الذي عاش طبيعياً تحت ضوء القمر، يحملني كساحرة مزيفة ويسلمني لبراثن الأعداء.
لقد كان ضجري كبيراً حداً بقيتُ معه عاجزاً لعدة أيام عن التفكير. وكالمجنون كنتُ أعدو من حولي في حديقة تغمرها المياه القذرة لـ “سبره” of the Spree…
بعد ذلك بقليل، غطست في دراسات وضعانية خالصة، دراسة “سافيني” Savigny عن الملكية، فيورباخ وأعمال “غرولمان” Grolmann عن قانون الجرائم، و Cramer’s Derborum significatione، ومنظومة “فيننع-انغناهايم” Wennig-Ingenheim عن مجموعة الأحكام العدلية، وكذلك كتاب “مهلنبروخ” Mülenbruch Doctrina pandectarum (والذي ما زلت أواصل قرائته)، وفي النهاية، البعض من أعمال “لوترباخ” Lauterbach، وهي أعمال عن القوانين المدنية وعن القوانين الكهنوتية بشكل خاص… بعد هذا، قمت بترجمة جزءً من كتاب أرسطو “علم البلاغة” Rhetoric ، كما قرأت De dignitate et augmentis scientiarum لبكاون فيرلام الشهير famous Bacon of Verulam. ثم شغلت نفسي بقراءة “رايمورس” Reimarus عن الغرائز الميكانيكية للحيوان الذي أواصل قراءته بمتعة رائعة. بعدها رجعت إلى القانون الألماني، وحصرت أهتمامي بصورة رئيسية بالجوانب الأكليريكية لملوك “فرانكش” Frnkish kings ورسائل البابا لهم.
ولأن مرض “جاني” وتفاهة عملي المضيع قد أقلقاني، لذا فقد أستولى عليَّ الغضب حيال نفسي، لأني صنعتُ تمثالاً لرؤية أمقتها، ومن ثم مرضت… بعد استعادتي لعافيتي، أحرقت كل أشعاري، تخطيطاتي، وأربع روايات، الخ… وذلك بإيمان جنوني بأني سأتمكن من وضع حدّ لكتابات من هذا النمط. لكنه يتوجب عليَّ الاعتراف بأن ليس ثمة من وضوح يدل على عكس ذلك.
أثناء فترة مرضي اشتغلت هيغل من البداية إلى النهاية، وكذلك البعض من تلاميذه. بسبب لقاءات متعددة مع الأصدقاء في مدينة “شترالو”، أصبحت عضواً في نادي الدكاترة الذي ينتمي إليه بعض المحاضرين وصديقي الحميم في برلين “دكتور ريتبيرغ” Dr Rutenberg. يسمع المرء هنا، في مجرى المحاججة، العديد من الآراء المتصارعة ويصبح متعلقاً أكثر فأكثر بمسار العالم الفلسفي، الذي حاولت الهروب منه…
والدي العزيز، فيما يتعلق بالمجرى المالي، تعرفت منذ وقت قريب على مساعد حاكم، اسمه “شميدتهينر” Shmidthänner، الذي نصحني بالدخول في المرحلة الأولى من السيرة القضائية، بعد مروري بالمرحلة الثالثة من امتحاناتي القضائية… لقد أعجبني ذلك بالأحرى، فأنا أميلُ حقاً نحو التشريع jurisprudence على أيّة دراسة إدارية. لقد أخبرني هذا الشخص الظريف بأنه، هو وعدد كبير من أصدقائه، ينتظرون من محكمة الاستنائف في مقاطعة “منستر” Münster منصب مساعد حاكم في غضون ثلاثة أعوام. إن ذلك، كما قال لي، ليس بالشيء الصعب، شريطة أن يجهد الواحد نفسه، بطبيعة الحال – ما دامت الخطوات التي ينبغي على المرء القيام بها في “منستر” ليست متصلبة كتلك التي يقوم بها في برلين وأماكن أخرى. فإذا كان بمقدور الواحد الحصول على شهادة الدكتوراه، من خلال عمله كمساعد حاكم، فسيكون هناك حظ كبير في أن يحظى على وظيفة أستاذ فوق العادة professor extraordinary .
سأبقى دائماً ولدك المحبوب
كارل


- ترجمة: حسين عجة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى