حمود ولد سليمان "غيم الصحراء" - جبران خليل جبران /الأسطورة الخالدة

1/
في مقالته التي دأب على كتابتها في صحيفة "القدس العربي" اللندنية والتي تعودت أن أطالعها على هاتفي لإهتمامي بما يكتب صاحبها وحرصي على مواكبة جديد أقلام كتاب القدس المبدعين المتميزين في نصوصهم الإبداعية وقراءاتهم النقدية الرصينة .
كتب الشاعرالكبير الأستاذ قاسم حداد مقالة عن "جبران خليل جبران نموذج الأسطورة الواقعية "، وفيها ألقى الضوء على "الأدب الجبراني " "الظاهرة " التي تحولت إلى أسطورة قد اكتنفتها هالة من التقديس عند "الجبرانيين" الذين يرون أنه ليس في الإمكان الإتيان بأبدع منها. في الوقت الذي يرى فيه البعض أن عد أدبه في مصاف الأدب الرفيع لا يخلو من مبالغة إذ هو خيالي ومتناقض وضبابي ومتبرم من الحياة وهارب منها ثم إنه عادي من الناحية الفنية الجمالية ولا يزيده قيمة أن صاحبه عاش عقودا طويلة في أمريكا وكتب بالإنكليزية.
الذي جعلني أخوض في هذا الموضوع هو أن جبران خليل جبران صديقي الذي عرفته وأحببته في سني حياتي الأولى ولا أزال أذكر نصوصه الأولى التي لامست روحي وأيقظت كياني، وكانت لي ينابيع عذبة نهلت منها وأروتني يومها. فسلام عليها وطوبي لها وحسن مآب
وأنا أقرأ المكتوب حضرتني عبارة قاسم الأثيرة في "ايقاظ الذاكرة وصقل المرايا" فلمعت في ذهني صور جبران ومنازعه وأحلامه وأشجانه. التي خلدها في كتبه بدءا من أول نص تلقفته من "دمعة وابتسامة" و"مرتا البانية" "رماد الأجيال والنار الخالدة" "خليل الكافر" إلى كل مجموعته الكاملة التي قرأتها وأعدت قراءتها مرة أخرى فأحببت أن أعود لصديقي جبران بصحبة شاعر كبير متميز في طروحاته الأدبية ومشروعه الفكري الذي بدأه منذ بدأ يقرض الشعر في "البشارة" ويفتنه في النثر "الدم الثاني" ويؤانسه دارا / وبناء / وسيرة / أثرا. فكرا/نصا/ شخصا /في "طرفة بن الوردة"
كتب قاسم حداد:
"فليس جبران نابغة (إبداعياً) ولا هو كاتب عابر لا تتعثّر به النظرة التاريخية لتطور الكتابة العربية الحديثة. إنه كاتب عربي، أعطى نتاجاً أدبياً عادياً ومات، دون أن يحصل على التقدير المناسب في حياته. وهذا يحدث لكل أدباء العرب المبدعين وغيرهم.
من يستقرئ تجربة بدر شاكر السياب وجبران خليل جبران جيداً، يكتشف أنها تجربة تدعونا جميعاً إلى ضرورة احترام الأديب في حياته، الاحترام والتقدير النقديين الأنسب، وإعطائه فرصة التعبير والحياة بحرية تسعه وتسع أدبه/ فالحرية لا تنفع الانسان ميتاً"
أعادني ما كتبه قاسم حداد إلى كلكامش الذي حزن على موت صديقه انكيدو وذهب يطوف في البلاد بحثا عن عشبة الخلود ولما ظفر بها سرقتها الأفعى.
وعلى خطى كلكامش تبدى لي بعض الخلود بريقا زائفا.
وبعضه حقيقة أغرب من الخيال قلما تتأتى إلا للقليلين، ومن هؤلاء الكاتب والشاعر والرسام والفيلسوف جبران خليل جبران. على خطى السومري رحت أسأل نفسي عن مقاييس الخلود الماثلة في الوجود. والفرق بين الحقيقة والبريق الزائف الذي لا يلبث أن يختفي والذي وصفه القرآن الكريم في سياق الآية الكريمة أحسن وصف:
"وٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعْمَٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍۢ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمْ يَجِدْهُ شَيْـًٔا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥ ۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ" ( سورة النور:الآية 39)
ليس كل ما يلمع ذهبا. ولا يدرك ذلك إلا القارئ والناقد الشغوف المحب . وقد تلتبس الصور وتتغير، فكم من كاتب كان نكرة في عصره قابعا في الظل المنسي ثم بعث الله من يبحث في الأثر واكتشفه وصار من الخالدين، وكم من كاتب دبج كتبا كثيرة وأعدت حوله دراسات كثيرة وكتبت كتبه بماء الذهب ثم لا يلبث الا سنين معدودات ولا يعد أحد يذكره بعد ذلك.
أعتقد أن الخلود الأدبي يرتكز على ركيزتين أساسيتين هما: أولا: الصمود وعدم الفناء اوالتلاشي مع الزمن، وثانيا:
قيمة الأدب في نفسه من حيث الفكر والجمالية.

2/
عندما مات جبران خليل جبران. كتب ناسك الشخروب ميخائيل نعيمه صديق جبران وخليله كتابه "جبران خليل جبران" عرض فيه لسيرته وأدبه، وقد أثار الكتاب ردودا واسعة . اتهمه البعض فيها بأنه تحامل على صديقه وشوه صورته. ومن هؤلاء طنسي زكا في كتابه "بين نعيمة وجبران" وأمين الريحاني (البلاد/ في بيروت، 6 كانون الثاني عام 1934)
اللذين رأيا أن نعيمة يسعي لخسف الظلال الوارفة لجبران صاحب التحفة الأدبية "النبي" التي طبقت شهرتها الآفاق العالمية.
ومع ذلك بقي جبران رغم عاصفة نعيمة شامخا كأرز لبنان الخالد.
اللافت للإهتمام في الدراسات الكثيرة التي تناولت سيرة جبران ومسيرة إبداعه عند كل من: خليل حاوي، وغازي براكس، وطنسي زكا، وخالد غسان، وجميل جبر، ومارون عبود، وهنري زغيب، وسهيل بشروئي. وبربارة يونغ، واسكندر نجار، وبطرس الحلاق، وسمير السالمي. كل هؤلاء وان تفاوتوا في تبيان ذلك فإن هاجسهم الخفي الذي كان يقودهم نحو جبران لم يكن سوى سحر عبقريته.
أسباب الخلود الجبراني في نظرنا تعود إلى عدة عوامل تضافرت وانتسجت فيما بينها. ناسجة عبقرية هذا الكاتب اللبناني الصاحي أبدا في المخيلة
ولد جبران في "بشري" موطن السحر والطبيعة الخلابة الجميلة، وكان ذلك عاملا أساسيا في صقل روحه وتفجير موهبته الأدبية. زيادة على ذلك أنه قد أخذ رصيدا وافرا من اللغة والثقافة العربية الاسلامية والمسيحية، وكان لظروف حياته العاصفة التي شهدت كثيرا من فقد الأحبة وعدم الإستقرار و شظف العيش أثر كبير في نفسه. ثم إهتمامه بآفاق الفن والرسم. كل ذلك جعل من جبران صاحب اسلوب لا يضاهى وخيال لا يتناهى.

3/
أكثر من عقود مرت على لقائي الأول بجبران خليل جبران يوم كنت أدرس في ثانوية مدينة الحجر "العيون" جوهرة الشرق الموريتاني.
وقعت في يدي "دمعة وابتسامة" فكانت فاتحة خير مباركة في رفد وتأسيس ميولي الأدبية.
ومعها تجبرنت وعندما تجبرنت تمليت الحسن في "عرائس المروج" ونبذت شرائع الأرض الظالمة مع "الأرواح المتمردة"
وصرخت في وجه الكهنة احفظوا عني أنا غيم الصحراء، و"للعواصف" أشرعت صدري في إنتظار الخريف.
وبجناحين ناريين شددت على كل "الاجنحة المتكسرة"
وجبرتها كفرت ب "أرباب الأرض "طرا من متألهين وكهنة ومشعوذين ودجاليين.
خطوت خطاي نحو البحر فتحررت.
وخطيت خطي بدرب الرمل والصخر والتيه والنهر والبحر
فكان الرسم والحرف والآية .
وكنت "السابق" لأهل المنكب البرزخي

4/
لله در الشاعر الموريتاني الكبير أحمدو ولد عبد القادر
يوم صاغ "صدي الرمل"
قولوا لجبراني أهل العالم الثاني
لله درك من فان ولافان
أسكرت بالكوثر الغيبي أفئدة تململت
بين أقفاص وقضبان .
لكأنه صدي الروح
كلما أقرأه أقرأني فأسرح بين المكتوب والمرسوم
في الأفق البعيد أسمع خطاي الوحيدة نحو الأبدية .
…….
واري جبران بثلاث زهرات عطرة
الحزن والحلم والخيال .
إلى اليوم لا ازال أجد ريحه وأجزم أنه أكبر كاتب وشاعر عربي عرفته . هذا الواقف على تخوم الروح كملك من ملوك الرومان الأقدمين . منتصبا في وسط الحياة والوجود . هذا المحبوب المتوهج المتوثب في القلب . لحرفه كل السحر وإن عد خياليا فهو مفعم بالحنين وتوق الكينونة ومعانقة المطلق . والتحرر.
"جئت لأقول كلمتي "
للكلمة . وبالكلمة باق وخالد بتعاليم "مصطفي أورفليس"
هذا الحالم المتحرر الصوفي الرائي. الرومانسي
الشاعر اكثر من الشعر والناثر أكثر من الشعر .
والرسام اكثر من الرسم هذا
السادر في البرازخ الشاسعة بين المنظور والمحجوب بين المنطوق والصامت
له في النثر والشعر والرسم الحياة والخلود
ولنا أن ننظر في خالداته . التي تركها لنا
"كبحيرة صافية في ليلة مقمرة" كما يقول .
ولد بالحياة وعاش بالثورة وقام بالفكر .. ولقيمه الروحية الديمومة كما قال سجعان قزي
وهو متعدد الريادات في الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والتأملات والشعر والنثر.
"جبران القرن الحادي والعشرين /رسالة لبنان إلي العالم .
محاضرات المؤتمر الدولي الثالث . مركز التراث اللبناني. 2018 "

إنه جبراننا الأسطورة الخالدة
صديقنا وخليلنا . الذي نعرفه ونحبه ونجله
ومع ذا وذاك لا نقدسه . لأن التقديس في شرعنا ليس لأحد من المخلوقات وإنما للخالق العظيم وحده . ربنا جل في علاه

تعليقات

تحيات طيبات للشاعر والأديب الموريتاني الكبير حمود ولد سليمان
قرأت باهتمام بالغ هذا المقال المركز عن أحد أقطاب النهضة العربية في الشعر والرواية والشذرة الفلسفية، والذي يعد بحق من كوكبة المتأدبين ممن كتبوا في الرواية عربيا، ولا ينكر أحد من كتاب العصر والعصور المقبلة تأثير جبران في موهبتهم وصقلها، ونتذكر كيف كانت تحملنا رواياته ومقالاته المشبعة بالتأثير الديني والدعوة للتسامح والدعوة للمستقبل المبني على السلام، في الوقت الذي كانت تدعو فيه بعض اقلام المشايخ للعنف واستذكار الحروب الصليبية وبعث الماضي
وتبقى الرابطمة القلمية التي اسسها مع فيلسوف الشخروب أهم انجاز واولى المدارس الادبية التي يرجع لها الفضل في الانفتاح على الادب الغربي.
وبعد كل ما ذكرته من أفضال جبران خليل جبران على اللغة والفكر والفلسفة والفنون، هل يمكن أن تجود الأيام بادباء عمالقة في قامة ميخائيل نعيمة وطه حسين وعباس محمود العقاد وزكي مبارك وأحمد حسن الزيات وأحمد شوقي..
قد يكون ضربا بالغيب التكهن ذلك، أو تخيله حتى
أحييك أخي واشد على يديك الكريمتين
 
أستاذي الكريم الناقد والروائي نقوس المهدي .حياك الله
وبارك الله لنا ولكم في هذا الشكرالكريم وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والطاعات .
ما كتبته عن العبقري المتفرد جبران خليل جبران حول مقالة الشاعر الكبير الأستاذ قاسم حداد ليس سوي كل هذا الحب والحنين اللذين تصنعمها دهشة البدايات .تاركة آثارها التي لاتمحي . جبران ..أسطورة خالدة في الأدب العربي وشمسا ساطعة في سماوات الإبداع. وأدبه يهجس ببعد رسولي عالمي .
وعند تلك النقطة المضيئة في المساحات المعتمة الشاسعة .يبدو جبران من الرواد الذين بعثوا روحا جديدة في الأدب العربي
لم تكن معهودة.
لجبران الخالد وفاؤنا
وللجلبة النقدية
نقول للنقد العربي إلي أين تسير ؟ ونسأل
هل تطمح للخلود ؟
أستاذي الكريم نقوس المهدي
دمت بكل خير وصحه وعافية
ودامت "الأنطولوجيا"سادنة الإبداع
حمود ولد سليمان
"غيم الصحراء"
 
أعلى