صديقة علي - أثر الفراشة.. قصة قصيرة

لم تختلفْ اليوم برودةُ أضابيرالمرضى في يديَّ عمّا قبله، تلك الملفات الكرتونية التي تضمُّ أوجاعاً موصوفةً، ومصورةً، مشخصةً أو قيدَ التشخيصِ، ببدايةِ كلِّ مناوبةً أتناول الأضابيرَ لمن تمَّ قبولهم في اليومِ السابقِ، صباحي رتيبٌ بتكرار وبتنوع حالاتهِ، باختلاف الأسماءِ التي لا أكترث بها عادةً، أفنِّد المرضى كحالاتٍ وكأرقامٍ تُتخذُ منذ دخولهم، رقم السريرِ ورقمُ الغرفة. لكن الاسمَ اليوم كان هو الحالةُ، الحالة التي شدت انتباهي وأبعدتني عن باقي البيانات، أيعقل أنَّه هو! أكررَّ القراءة في ذهول ٍلأتأكدَّ منه نعم إنَّه هو...، أرددُ في ذهولٍ مرٍّ إنَّه هو ..هو .

الاسم مشرطٌ يمعن بنكئِ جراحي، تغوصُ مخالبُ حروفه إلى زاويةٍ سوداءَ في قرار أعماقي، خلتُ نفسي أنَّني نجحتُ بإقصائهِا، كنتُ فد غلَّفتها بطبقاتٍ من العزلةِ ومن الدراسةِ، والانشغالِ بالعملِ المرهقِ، هذا الاسم يعيدني إلى تلكَ الطفلةِ التي لم تكن قد تجاوزت التاسعةَ من عمرِها تبكي بصراخٍ مرير يتجاوزها كلُّ من استنجدت بِهم بنظراتِها الهلعةُ.

لم تُعِدني ممارسة مهنة الطبِّ بذات المشفى أبداً لذلك اليومِ، بل كنت قد خلتُ نفسي قد تجاوزته، انشغلتُ بنفسي ونجاحي وتعبي، لكنَّ اسماً واحداً كان قادراً أن يجعلَ كلَّ حياتي تنقلب رأساً على عقبٍ، لاكتشف أنني فعلاً أسيرة جرحي، وذاك الماضي المقيت، أروقة المشفى باتت تضجُّ بالذاكرة وكأنَّ كل شيء حدث بالأمسِ.

في ممرِّ المشفى كان يجرُّني بقوة، وأثبِّت رجليَّ بالأرض بكل ما أوتيتَ من قوة فأنقلبُ بكاملِ طولي، يجرُّني بعنفٍ، يمسحُ أرض المشفى بجسدي الواهن جاذبًا يديَّ بوحشيةٍ يكاد أن ينزعها من كتفي، أصرخُ ملأ َصوتي….

ماما ..ماما ..بكائي يطبق على المشفى، كانت لنظراتهِ المرتبكة طعمُ التهديد والوعيد:

-اخرسي يا ابنتي….. مموهًا قسوته بمكرٍ رهيب، فيعبرنا المارّون دون اكتراثٍ لعويلي.

لا أذكرُ كيف نجحت بالتملّص من بين يديهِ، هربتُ كفأرة صغيرةٍ يطاردها قطٌ ، أنزلقُ على الأدراج إلى جناحِ العناية المشددةِ، أختبأُ هناك إلى أن تتباعدَ أصواتُ الأقدامِ ثمَّ أنزل إلى أسفلِ،أحشر ُجسدي بزاوية مظلمةٍ، أراقبُ الردهةَ المقابلةَ،لبراد الموتى أطردُ فكرة الاختباءِ فيها،وفرائِصي ترتعد،يرعبني هذا الهدوء أخافُ من اسم الغرفة أتخيلُ الصقيعَ الذي فيها والجثث المكومةَ، كلما فتحت فاهها أتخيلها مغارةً سوداء لكنها كانت أرحم من بيتهِ رغم ما أسمعهُ من بكاءٍ يبتعدُ ليحل محله بكاءٌ آخر مع كل جثمانٍ يخرجُ ،تخرج الروح مني فزعةً .كنت لأول مرة أرى جثامينًا ، مغصٌ شديدٌ يلف أحشائي،أتسللُ ليلًا إلى المطبخ ،آكلُ من بقايا الطعام المَرمي فوقَ عربات تنتظرُ أمام المطبخِ . بعد عدةِ أيام ٍ أمسكَ بي حراسُ المشفى، رفضتُ أن أذكر لهمْ مع من أتيتُ إلى هنا، سلَموني إلى الشرطةِ وأصريت على عدم تسليمي إلَّا لأمي التي استغرق وصولها نهارًا كاملًا، كنت فيه هلعةً طوال الوقتِ، دخول أي رجل إلى المكتبِ كان كفيلًا بأن يدبَّ الذعر َفي قلبي، وكنت أخاله هو آتٍ، ليكمل بأنيابهِ على مابقيَ منِّي.

عادت الروحُ والأمانُ لي بوصولٍ أمي، استلقيت بحضنِها وكانت خائفةً، حائرة مدهوشةً ومضطربة ً.

- كيف أضاعوكِ؟ كيف لم يخبرونَني؟ .

وأذكر يومها قالت لي بهمسٍ:

-كبرت ..بأيامِ غيابكِ عنِّي ،لا أعرفُ كيفَ !.

وكنتُ وقتها، قد كبرتُ حقًّا وأُثقلت بسرِّي.

-سامح اللهُ والدكِ لم أكن موافقةً على أن تأتيَ إلى هنا.

كان والدي يصدرُأوامره من غربتهِ، وكانت أمي تدركُ كم هو متعلقٌ بشقيقته وكم هو مهتمٌ بمرضها فسلَّمتني بتوجسٍ ليد زوجِ عمتي، و هي توصيني أنْ اهتمي جيدًا بعمتك ِ .

يومها فرحتُ بالمهمّةِ الموكلة إليّ، شعرت بأهميتي، فلنْ ألعب (بيت بيوت) بل سأكونُ فعلا سيدةَ البيت، أقدِّم خدماتي بمحبةٍ كما تفعلُ أمي، وكانت سعادتي كبيرةً لأنني سأتركُ بلدتنا وسآتي العاصمةَ.

الغريبُ أنَّ حياتي مرَّت ولم أكن أذكرُ فيها كيفَ كانت تلك الطفلة السعيدةُ فيَّ قبلَ سنِّ التاسعة، وكأن ممحاةً أزالت كلَّ الفرح الذي كنته.

العاصمة كانت مرطباتٍ لذيذة، مدينةَ ألعاب مذهلةٍ، وكانت عمتي تلبسُني أجمل الثياب من أسواقها المبهرةِ، تأخذني إلى السينما لأعودَ بسلالٍ مملوءة بالحكايا أقصُّها على رفيقاتي، لكن في هذه الزيارة أعرف بأنها لن تفعلْ، وسيقتصرُ وجودي على خدمتها، لكنَّ هذا لم يقلل من فرحتي بالذهابِ إليها، وهكذا عدتُ بحكايةٍ غير صالحة للقصِّ، وعدتُ طفلة غير صالحة للرفقة، وأمضيت عمري بلا صديقاتٍ.



ذات فجرٍ أسعفَ عمتي إلى المشفى دون أن يوقظَني، سلَّمها لسرير المشفى وحيدةً وعاد ليلتهمني في سريري، كان صراخي يطعنُ الجدران وهو يطعنُ طفولتي كان أضعفَ بوحشيته من أن يرحمْ غضاضتي، وطالَ مكوث عمتي بالمشفى وزادَ نهمه لي، قطعَ خطَّ الهاتف وقطعَ الماء والطعامَ عني، سجنني في غرفة ضيقةٍ شعرت فيها أن الهواءَ لا يكفيني. تحايلت عليه مرةً بذكاءٍ طفولي:

لن أبكي هذه المرة شرطَ أن تصحَبني معكَ إلى عمتي. فوافق بعد أن أخرسني بتهديده المرعب وأوصاني بكتم كلِّ ما حدثَ. في طريقنا إلى المشفى اشترى لي المثلَّجات والحلويات وأجبرني على أَكلها، وبقيتُ طوال عمري لا أطيقُ أكلها، عندما دخلتُ غرفة عمتي كنتُ كعصفورٍ تائهٍ، عاد إلى عشه، شعرتُ برغبةٍ عارمة بالبكاءِ، ارتميتُ فوق صدرها، وراحت تهدّأني:

-لا عليك ..أنا بخيرٍ ياصغيرتي.

جذبني بقوة معنفاً:

- ألا ترينها مريضةً؟ كيف تجعلينَها تحزنُ لأجلكِ.



كنت أتوسلُ لعمتي بحذرٍ أن أبقى معها وأتمنَّى أن تقرأَ ما برأسي وبصوتٍ واهنٍ قالت:

-دع البنت هنا أرجوكَ. كي لا تبقى وحيدةً هناكَ.

- كيف أدعُها بالمشفى؟ قد تمرضُ وهي أمانةٌ عندنا ثمَّ أن البيتَ بحاجةِ تنظيفٍ.

أرعبني بنظراتهِ، وأمرني ألَّا اعترضَ، عينا عمتي تشيِّعاني بريبةٍ وإشفاقٍ، وبممرِّ المشفى حدثت معركتنا غير المتكافئة والتي انتصرتُ فيها بهروبي.



في طريقِ العودة كانت أمي تتلمَّسني وكأنَّها شعرت بفداحةِ ما خسرته وتلحُ علي بالأسئلة، وأنا ألتزمُ الصمت كنتُ أشعر بأنني مذنبةٌ، وعليّ أن أخفي عاري ما حييت.

شغلهم عنِّي خبر وفاةِ عمتي وحزن أبي الشديدِ عليها، ماتت عمتي الطيبةُ قبل أن أخبرها، أيُّ سافلٍ كانت تعاشر. حضرَ أبي على وجه السرعةِ وما إن انتهى أسبوع العزاءِ حتى سافر دون أن يعلم بحالي ودون أن أسمح له باحتضاني. كان يلعنُ الغربة التي غرَّبت طفلته عنه وباتت تنفُر من حضنهِ، كنت أفرحُ بسفره لأنني أتخلصُ من كرهي لأمي طيلةَ فترة وجوده معنا، إذ كيف تسمحُ له بلمسها وتدنيسِها. غابت الألعابُ من غرفتي غرقت بالقصصِ وانكفأتُ على مواظبةِ دروسي صارت أمُي تتوسل إليَّ كي أفك عزلتي، ولكنها استسلمتْ حين رأتني متفوقةً في دراستي، ومع مرورالأيام صارت تفتخر بعزلتي وبأنني لست ككل الفتيات وخاصة أنني أساعدها بأعمال البيتِ بمهارةٍ فائقة، لكن كانت ترنو إليَّ بحزنٍ شديدٍ عند زواجِ أي من قريباتي، وأنا لا أهتمُّ للأمر بل أقول: عروسٌ غبيةٌ.

وكانت تبتسم بحزنٍ وتدعو لله أن يهدّأ سّري.



عدت إلى ملفِّه وأنا أتشفَّى بقصَّته المرضية، حادثٌ وعائيٌ والعمر 67، رقمُ غرفته (9)

دخلتُ إلى غرفتهِ لا كطبيبة متمرنةٍ هذه المرة، بل كضحيةٍ تمكنتْ من جلَّادها، سرت إليه بكل قهرِ السنينِ بكل ما حرمت منه من أحلامٍ الفتيات.

-أتتذكرُني؟

نظر إليَّ بطرف عينه وبنظرة ماكرةٍ رغم كل الضعفِ الذي خلفه المرضُ أجاب بإغماض عينيه. أنظر إلى المونيتور، علاماتُه الحيوية مقبولةٌ كمَّامة التنفس على فمهِ يتمددُّ على السريرِ بجسدهِ الضخم الذي قززني من كلِّ رجال الأرض، يده المشلولة ملقاةٌ بجانبه والأخرى تخترقُها عند المعصمِ قثطرةُ موصولة لسيرومٍ يضخ الغذاءَ والسوائلَ ليحيا جسدهُ النتنُ.

لا ..لا ،يجبُ أن يموت آلافَ الميتاتِ قبلَ هذا ،أقرأُ الذعرَّ في عينيهِ ،وكأنَّه قرأ أفكاري ، يدهمني البكاءُ والإحساس بالإقياءِ فاخرج من غرفتهِ شبه منهارة ٍ.

لن أدعهُ يتشفَّى بضعفي لن يرى دمعةً واحدةً، أو خوفاً منه الآن، لن يفهمَ حزني على ما آلت إليه نفسي لن يفهمَ أي شيطانٍ زرعَ بي، وكيفَ تلاشت الملائكةُ من حولي.

بغرفةِ المقيمين أرمي بجسدي على السرير ِأمسحُ دموعي وأعيدُ رباطةَ جأشي وأتصل بأمِّي

- هذا الحيوانُ هنا بالمشفَى

- أي حيوانٍ؟

- أنسيته؟ ... الذي افترسني ...يجب أن يموتَ.

- ابنتي إياك ... ستعيشينَ بعقدة الذَّنبِ ما حييت.

- ذنبٌ؟ أي ذنبٍ بتخليصِ البشريةِ من شرورِه.

- استهدي باللهِ أرجوك ِ

- أرسله اللهُ لي كي أخلِّص ثأري منهُ.



أقفلتُ هاتفي وباب غرفتي ورحتُ أفكر كيف سأتشفَّى منهُ؟ .. وكم سأطيلُ مدة تعذيبه؟ بعدد الأيام التي عذَّبني بها...؟ لا لا .. لم يبقَ في عمره ما يكفي.

أدركتُ الآن معنى دعاءِ غريبٍ مستهجنٍ سمعتهُ مرة ًمن سيدةٍ، تقفُ على بابِ غرفةِ مريضِها وتتحدث في الهاتفِ وهي تبكي:

- (الله يشله ويطول بعمره)

حاولتُ أن أعمل بنصيحةِ أمِّي التي وصل صوتُها المذعورُ إليّ تتوسل بأن أستهدي باللهِ. وأعدت إلى ذاكرتي كلّ المجرمينِ الّذين قمتُ بمعالجتهمِ. إذ كان أذى ذاكَ الفاسد -الذي جاءنا بقصةٍ مشابهةٍ من حادث وعائيٍ دماغيٍ-أكثر َضرراً ربَّما من هذا الوحشِ المريعِ الذائعِ الصِّيتِ، بما أزهق من أرواحٍ لقاءَ أموالٍ، ليقتلَ أحلامًا، لخدمة مصالحهِ ومصالح رفاقه، لم يكن قتلهُ رحمةً لي، بل لمجتمعٍ كبيرٍ.

عند استقبالِه بالاسعاف لم أفكِّر أبداً بالجرائمِ التي تورَّط بها وبذنوبهِ الكثيرةِ، لم أستذكرْ ما سمعتُه من النَّاس عن قصصِ قهرٍ، بقدرٍ ما كنتُ أقيِّم حالته بشكلٍ دوريٍ معزولٍ عن كلِّ ما أكنّه تجاههُ، كنت فخورةً بقدرتي على العزلِ، الآليّةُ الدفاعيّة المفضّلة التي شكرتُ فرويد يومياً على وصفها. هنا فشلتُ تماماً أمام جرحي العميقِ، لم يكن المكانُ متاحاً إلا للهو جانح ٍ وهائجٍ ومضطربٍ، لم تزدهُ ضربات الأنا الأعلى إلِإّ قوةً وقدرةً على استفزازِ كل غرائزي الانتقاميةِ، لانتقاءِ طريقةٍ تليقُ بالمأساةِ التي عشتها.



عادَ يوم تخرجي، كانت فرحتي منقوصةً وكنت لا مباليةً إلا أنَّني تأثرتُ بغمر ِأميِّ لي بفرحتها وبدموعِ أبي الذي وقفَ بعيدًا، يمسحُ دموع الفرح بمنديلهِ، ورحتُ أراقب يدي الممدودةَ بحقنةِ الموتِ وأنا أستذكِرها وهي ممدودةٌ بقسمِ أبقراط.

لو كان أبقراط حيًا لقال لي: سارعي .. سارعي بقتلهِ، القسمُ لا يشمله.

أتجه بعد منتصفِ الليلِ إلى غرفتهِ

لأقول لهُ:

- أوتعلم أنَّ لله حكمةً كبيرة بحرمانك من الخَلَف .. بذرَّتك الشيطانيةِ عليها أن تفنَى .. يستعطفُني بنظراتِه، أنتشي بخوفهِ وأغادرهُ بعد أن أؤكِّد له أنَّ موته لن يكون رحيمًا.

خطر لي بعد أن انتهيتُ من جولتي الليلية على المرضى أن أحققَّ معهُ، أستغلُّ نوم الطاقم الطبي ِّ وأتسلل إلى غرفتهِ.

-أخبرني كم ضحيةً مثلي تركتْ؟ إنْ لم تقل الصدقَ سأغرس هذه الحقنةَ بكيس المحلولِ، وهي كفيلةٌ بإراحةِ هذا الكونِ منكَ.

يفردُ أصابعهُ الخمسةَ.

خمسة يا مجرم …. وكلهنَّ طفلاتٌ؟

يغمضُ عينيهِ، أنْ نعم. أقتربُ من وجهه المنهكِ أنقِّط الكحولَ في حجرةِ عينه الغائرة، وبهدوءٍ أقول لهُ وهو يشدُّ جفنيه طاردًا حرقةَ الكحولِ عنهُما.

قتلتَ خمس طفلاتٍ .. كلهنَّ من بعدي؟ يالك من سافلٍ حقيرٍ.

تمنَّيتُ لو أستطيعُ معرفة أسمائهنَّ ولقائهنَّ لأعتذر لهنَّ عن صمتي.

-اليوم أو الغد ستموتُ هل حضَّرتَ أجوبَتك؟ ورحتُ ألوِّحُ بحقنةِ الموت التي كانت لا تغادرُ جيبَ مريولي الأبيضَ أهزُّها أمامَ وجههِ المتعرِّق. ! كيف ستقابلُ وجهَ ربك يرفع نظراته إلى السقف ...أدرتُ له ظهري وغادرت الغرفة أتمتمُ بسري:

-لا تتعب نفسكَ بالاستغفارِ ما فعلتهُ لا يغتفرُ ابداً، التوبةُ لا تأتي في فراشِ الموت.

كنت أسمعُ تأففَ الممرضات منه واستغرابهنَّ لعدم وجود مرافقٍ معه، وأقول بخلدي ومن سيتعبُ نفسَه بجرذ ٍكهذا. أطلبُ من زملائيَ أن يأخذوا مكاني بالعملِ أشعرُ بطنين حاد ٍيملأُ رأسي اذ لم يكتَمل قراري بالقضاءِ عليه ولم أفكر ملياً بالآليةِ. أنزوي وحيدة ًمع صراعي. كنتُ أعوِّل على الوقت كي يبردَ ناري لكنَّ الجراح فُتحت والنزف ألهب كلُّ التسامي الذي حاولت التمتع به ها انا أحاول اخمادها اتعجب من السنين التي عملت بها على التناسي على تقبل الوضع وتحويلهِ لشيءٍ جميلٍ لصرف نظري عنْه، لكنَّ السنين اختزلِت وحرقَت بثوانٍ بلهيبِ الانتقامِ ونشوته فانطلقت غرائزي.

صرخت بهِ:

-لماذا ظهرتَ؟ .. هل القدرُ يعاقبني بكَ؟ أي لعنةٌ أنتَ؟

لم أعد أر سوى كيسِ السيرومِ متضخمًا بحجمِ الغرفة وحقنةِ الموتِ ثابتةٌ في يدي وأنا أخطو نحوهُ ببطءٍ، عليكَ أن تدفعَ الثمنَ، صرتُ لا أعرف نفسي، حتَّى صوتي بدا خشنًا غريبًا عنّي، كنتُ في غاية النشوةِ لحسمي لقراري، تغمرني متعةُ الانتقامِ تكشطُ عن عمري كلَّ الآلام ِ، وقبل أن أصلَ إلى هدفي ..

يد حنونةٌ وخشنةٌ التفَّت حول مرفقي، أحدُهم جذبَني من الخلفِ ..شدَّني إليهِ ، التفتُّ بغضبٍ .

-من يجرؤ أن يعيقَ تقدمي؟ أنا أبصر من جديدٍ، يدهُ الحنونة تسحبُني إلى النِّور أراه لأولَ مرةٍ، كان هو ...أبي بعينينِ دامعتينِ بلمعة ِإصرارٍ وبهالةِ حمايةٍ أبويةٍ، لفَّني ارتميتُ بحضنهِ

- كم تمنيتُ أن ازيح هذا الجبلَ عن صدري دون أنْ تسيءَ فهمي كم تمنيتُ أنْ أعانقك بلهفةٍ ككلِّ الفتياتِ كم أحتاجكَ يا أبي.

يربتُ على ظهري يغشاني حنَانُه، دموعهُ تغسلُ رأسي، وأنا أتشهَّق بدموعي،

يهمسُ لي بثقةٍ:

- دعي الأمرَ لي لن أسمح لهُ بقتلكِ مرَّتين .. ويجهشُ بالبكاءِ من جديدٍ امتزجت دموعُنا رفعتُ رأسي وفي غباشةِ الرؤيةِ من فوق ِكتف أبي، ألمح المنوتور يرسمُ خطوطَه العشوائيةُ رجفان ٌبطيني كان هو كلُّ ما يستحقه خلت نفسي بحلمِ يقظةٍ. يهز ُّعالمي صوتُ الإنذارِ، لم أتخيل يومًا أنني سأكونُ راضيةً بسماعه يومًا وأنَّ صوتَه سيدخلُ السكينة َالى قلبي، لطالما هرعتُ من نومي وصوتُ الإنذارِ يربكُ نبضَ قلبي كنتُ أصلُ أولًا، أحاولُ جاهدة ً إنقاذ المريضِ.

تمتلئُ الغرفةُ بالمسعفينَ، يبذلونُ جهودهم بصعقهِ، تنتفضُ جثَّتهُ فوق السريرِ، لتعود هامدةً لا حراك َ بها، يكررون الصعقَ. تحلَّقوا من حولنا مواسين:

-لابد أنَّ المريضَ كان عزيزاً عليكم، نقدِّرُ حزنَكم، فعلنا ما بوسعِنا لكنَّ ... تعازينا لكم جميعًا..

صديقة علي اللاذقية 10-2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى