أمين الزاوي - مولود فرعون الفيمينيست منذ 1938

إنه الكاتب الجزائري مولود فرعون (1913-1962)، هو ليس أي كاتب، صوت آخر وتجربة حياتية جريئة واستثنائية، هو كاتب وحكاية غريبة، مؤسس مركزي للخطاب الروائي الجزائري باللغة الفرنسية، ثائر على الاستعمار الفرنسي بطريقته الخاصة الذكية والإبداعية والسياسية. سقط شهيداً تحت رصاص المنظمة المسلحة الخاصة الإرهابية OAS أياماً قليلة قبل الاستقلال، كان ذلك في 15 مارس (آذار) 1962.
حكاية رواية "ابن الفقير"
كتابه السردي "ابن الفقير" (Le Fils du pauvre) تناول فيه سيرته الذاتية بكثير من الواقعية الشعرية التي نقلت بجمالية العبقرية الفردية والجماعية في بلاد القبائل صانعة الأساطير اليومية لمواجهة الفقر والجوع والجهل والتخلف.
لهذا الكتاب حكاية غريبة، فقد بعث مولود فرعون الكاتب الشاب بمخطوطة رواية "ابن الفقير" إلى دار نشر شارلو التي كان مقرّها في مدينة الجزائر. نحن في بداية الخمسينيات عشية الثورة الجزائرية التي انطلقت في أول نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، ويعتبر شارلو واحداً من أهم الناشرين في تلك الفترة على مستوى الجزائر المستعمَرة وعلى مستوى باريس أيضاً، فالفضل يعود إليه في الاكتشاف والترويج لكثير من الأقلام التي أصبحت كبيرة وعالمية من أمثال ألبير كامو وجول روا وإيمانويل روبلس وغيرهم. وصلت مخطوطة "ابن الفقير" إلى لجنة القراءة بالدار، وكان من بين أعضائها الشاعر والإعلامي المعروف جون الموهوب عمروش (1906-1962)، وحين قرأ المخطوطة حرّر تقريراً يتضمن رفضاً قاطعاً لنشرها، بحجة أن النص غير ناضج، وفيه كثير من العيوب الأدبية.
وقد فسّر بعض مؤرخي الأدب بأن هذا الموقف لم يكن صادراً إلا عن غيرة تحركت في أعماق جون عمروش، وكأنه خشي أن يخطف مولود فرعون بعضاً من شهرته ويلقي على اسمه قليلاً من الظل. وبالفعل يتم إرجاع المخطوطة إلى مولود فرعون موسومة بالرفض، ونظراً إلى إيمان هذا الأخير بنصّه، وهي روايته الأولى، يرسلها بالبريد إلى دار لوسوي في باريس، وهي وقتها واحدة من كبريات دور النشر ذات التوجه اليساري المنحازة إلى القضية الجزائرية والمناهضة للاستعمار، وهي من تولّت النشر والترويج لكثير من الأسماء الأساسية في الكتابة الروائية ذات التوجه الوطني باللغة الفرنسية من أمثال محمد ديب ومولود معمري وكاتب ياسين... ويتم استقبال مخطوطة رواية "ابن الفقير" بكثير من الترحيب والإعجاب من قبل لجنة القراءة، وهو ما سيتأكد على مستوى لاحقاً وعلى الفور بعد صدورها من خلال الاستقبال النقدي والقرائي الذي حظيت به سواء على المنابر الإعلامية النقدية الأدبية أو على مستوى مكتبات البيع.
ومن بين النصوص الروائية للجيل الأول من الكتّاب الجزائريين باللغة الفرنسية من أمثال مولود معمري ومحمد ديب وكاتب ياسين وآسيا جبار ومالك حداد ومالك واري ونبيل فارس وغيرهم، ستكون "ابن الفقير" الرواية الجزائرية الأكثر ترجمة في العالم، من ترجمتها إلى اللغة العربية، وصولاً إلى اليابانية ومروراً بلغات أوروبية وأميركية وآسيوية كثيرة.
هكذا إذاً بعد أن حُكم على الرواية بالإعدام والرفض في منشورات شارلو بالجزائر، ستعرف انتشاراً متميّزاً ومجداً أدبياً لا يزال متسمراً حتى اليوم، وستكون جواز مرور مولود فرعون إلى مجلس الكبار من الكتّاب الإنسانيين المدافعين عن العدالة والحرية.
من أين جاء مولود فرعون بهذه القوة والتميز الأدبيين منذ أول رواية له: "ابن الفقير"؟
نحن في عام 1938: كان مولود فرعون معلّماً في الطور الابتدائي، في قرية تيزي هيبل ببلاد القبائل (إحدى قرى ولاية تيزي وزو حالياً). وقتها كانت مهنة "المعلم" هي موقع اجتماعي مركزي وأساسي في القرى كما في المدن أيضاً وإن بشكل أقل، بخاصة أن يكون المعلم من الأهالي في بلد مستعمَر. كان المعلم وقتها صورة نموذجية للمثقف النموذجي، الذي يمثل صورة النموذج الناجح في الحياة المهنية، ومنه يأخذ الجيل الجديد نموذجه لبناء المستقبل، فالفقر لا يحارب في تلك الفترة إلا بالتعلّم، فالتعليم والتحصيل هما من يفكّ حصار الفقر عن أبناء القرى في بلاد القبائل وفي كل المستعمَرة.
ومع أن مولود فرعون استطاع أن يحقق هذا الاختراق الاجتماعي والمهني بأن أصبح "معلّماً" في قريته وهي حالة جد نادرة في زمن كان الاستعمار لا يسمح بتعليم الأهالي، بل يريدهم أن يظلوا في مربع الجهل حتى تتسنّى له التحكم في رقابهم ببساطة، ويظلوا طوع إرادته، يفعل بهم ما يشاء -مع ذلك- لم ينفصل الروائي عن طبقته ولا عن الفلاحين البسطاء بل ظل وفيّاً لقضاياهم، مرتبطاً بمطالبهم، وتحوّل إلى لسان حالهم الأدبي، ليكتب صوتهم المبعد.
هل كان مولود فرعون فيمينيست؟
تزوج مولود فرعون عام 1938 من لالة ذهبية التي أنجبت له كلاً من الابن علي والبنت فازية، واليوم هما القائمان على إدارة مؤسسة مولود فرعون، وقد أشرفا على نشر رواية تركها أبوهما مخطوطة بعنوان "مدينة الورود" نشرت للمرة الأولى عام 2007.
لكن العلاقة ما بين مولود فرعون وزوجته ذهبية لم تكن علاقة عادية، كأية علاقة بين زوج وزوجته، بل تعدّت ذلك لتصبح حكاية "التحدي" التي صنعها الحب على الرغم من أننا في منطقة بلاد القبائل وهي منطقة ريفية ومحافظة، إلا أن الحب في حالة "مولود وذهبية" تحوّل إلى حالة من التحرر والاجتهاد الاجتماعي لمواجهة التخلف والجهل وتبعية المرأة.
كانت ذهبية الزوجة أمّية على غرار غالبية بنات القرى والأرياف، ولم تكن قد تجاوزت الـ16 من عمرها، وتزويج البنات في سن مبكرة عادة منتشرة في الأرياف، لكن ذهبية كانت زوجة لرجل هو مولود فرعون، المعلم الأنيق بربطة عنق وطقم والغارق في عشق الآداب العالمية ولكنه وفي الوقت ذاته المرتبط بالآداب المحلية الأمازيغية من شعر وحكاية ومرويات وقد كان معجباً بالدرجة الأولى بأمير شعراء الأمازيغية السي امحند أو محند (1845-1905)، رامبو الشعر الأمازيغي وأحد عمدائه والمجددين في أغراضه وجمالياته.
ولأن مولود فرعون كان يحلم ورأسه في الطين الأمازيغي لا في النجوم البعيدة، فقد ارتبط طموحه كمثقف عضوي وككاتب بالبحث عن طرق لتخليص مجتمعه من الجهل والأمية حتى يمكنه أن يأخذ زمام أموره بيده وأن يؤسس لاستقلال مقبل لا ريب فيه، يكون فيه المواطن الحر قادراً على الدفاع عن حقوق الإنسان وعن المساواة والعيش المشترك.
والمعركة ضد الأمّية يجب أن تبدأ من أقرب الناس إليك، ومن أحب الناس إليك، هكذا تساءل مولود فرعون وهو يجد نفسه يقاسم الحياة الزوجية مع امرأة أمّية، فما الحل؟
نحن في عام 1938، وذهبية زوجته في الـ 16 من عمرها، وهي بعمر التلاميذ الذين يدرّسهم أو لا تكبرهم إلا بسنة واحدة، فبعض التلاميذ كانت أعمارهم قد بلغت الـ15، لذا لم يكن خيال الأديب معطوباً، بل جاءت الفكرة الحل، إذ ذات صباح قرر أن يصحبها معه إلى المدرسة ويجلسها في صف تلاميذه، لقد حجز لها كرسياً في الحجرة، فكانت واحدة من تلامذته.
لقد كان مولود فرعون يؤدي دوره كمعلّم لزوجته التلميذة في اليوم، وخارج المدرسة يؤدي دور الزوج من توفير ما يجب توفيره من متطلبات الحياة اليومية، وأكثر من ذلك، فإنه كان يقوم بدور قارئ الآداب العالمية لزوجته التلميذة، بصوت عالٍ، في نهاية الأسبوع، فيشتركان في الاستمتاع بخيرات الآداب الجمالية والاجتماعية والفلسفية. كان يحيي لها أمسيات أدبية يقرأ لها فيها: تولستوي وغوركي وبروست وزولا وبلزاك وغيرهم، وهكذا تغيّر مفهوم العلاقة الزوجية من خلال الكتاب والمدرسة.
في مجتمع محافظ وريفي، لم يكن القيام بهذا الاختراق الاجتماعي بالشيء البسيط، ولم يكن قبوله بالأمر الهيّن، فلقد وجد مولود فرعون معارضة شديدة من أسرته وعلى رأسها موقف والده، إذ لم يستسِغ هذا الأخير أن يرى "زوجة ابنه" تذهب إلى المدرسة لتجلس مع الأطفال التلاميذ فغضب لذلك كثيراً، وعارض هذا التصرف، ولكن مولود فرعون تحدّى هذه الرؤية المحافظة وقاوم هذه العقلية بكثير من الاحترام والذكاء والحب.
الدرس الأكبر: اليوم ونحن في 2021، ثمانية عقود مرت على حكاية مولود فرعون وزوجته ذهبية، ما زلنا نجد كثيراً من المثقفين الكتّاب الذين يجلس بعضهم في الصفوف الأولى إعلامياً، يتحرّج من ذكر زوجته أو الجلوس معها في المحافل العامة، بل إن بعضهم يكثر من اللغط النظري حول تحرير المرأة وبمجرّد العودة إلى بيته، يلبس لبوس "الفقيه" المحافظ، وحتى نجيب محفوظ نفسه كان يتحاشى الحديث عن علاقته بزوجته، كما يروي بعض الذين عرفوه.
قبل أن نكتب أدباً جميلاً صادقاً علينا أن نعيش انسجاماً ما بين أفكارنا وواقعنا، وبالأساس موقفنا من حرية المرأة.




أمين الزاوي
(Mon article hebdomadaire publié dans INDEPENDENT londonien du 15/04/2021
Le lien:https://www.independentarabia.com/.../هل-ك...)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى